البوصلة

صوت ديمقراطي جذري

25.5.07

انتقلنا

انتقلنا إلي
www.bosla.org
سيتم نقلك حالا

1.9.06

و لكن كيف ؟ ... من أسئلة التغيير إلي أسئلة التنظيم


افتتاحية

الحدث : انتخابات برلمان 2005
مجلس شعب 2005 : مجلس لأقلية من شعب مصر
سامر سليمان

انتخابات مجلس 2005 : ضجيج بلا طحن
أحمد فوزي

الملف : مشكلات التنظيم و العمل الجماعي في مصر
مقدمة

تنظيم الدولة و فرص اليسار الديمقراطي

شريف يونس
رؤية من الداخل : الحزب الوطني .. فكر جديد و تنظيم قديم

يوسف بشاي
الإخوان المسلمون ... غواية التنظيم
حسام تمام
اليسار و مسكلة التنظيم: وداعا لينين ..هل من جديد ؟

سامر سليمان
هل تتوجه الطبقة الوسطي إلي تعددية المراكز

زياد العليمي
ندوة البوصلة : إجابات مختلفة عن سؤال واحد : كيف نبني حزبا ؟
البوصلة

خبرات تنظيمية من العمل الطلابي اليومي
عمرو عبد الرحمن
الإنتاج التعاوني كبديل للاقتصاد الرأسمالي و لاقتصاد الدولة
سامح سعيد عبود
النظام الداخلي لحزب اليسار الديمقراطي اللبناني
تقديم : أكرم ألفي
حوار مع سعد زهران , قيادة إضراب المعلمين 1950
مرام مازن و زياد العليمي

أسئلة اليسار الديمقراطي
صعود اليسار في أمريكا اللاتينية : لا ينبغي الخلط بين مناضلي الديكتاتورية و ديكتاتوريين مثل حكامنا
عمرو عبد الرحمن

خارج الحدود
قول علي قول في المسألة الدنماركية
محمد البعلي
حماس : متي تحسم ترددها لصالح الفلسطينيين؟
أكرم ألفي

جدل يساري يساري عن عمرافندي
شهادة رئيس مجلس إدارة عمرافندي حول عملية البيع
عمرو عزت
مع القطاع العام رغم كل شيء
محمد البعلي
القطاع العام في مصر ليس من الاشتراكية في شيء
عمرو عبد الرحمن

نقد
عبادة ابن رشد : فلسفة التنوير النخبوي
شهاب فخري
أولاد حارتنا : حكايات شعب و شعب الحكايات
شريف يونس

فن
رسالة إلي الجمهور المصري
مارسيل خليفة

البوصلة تعاتب :
من يناهض نوعا واحدا من التوريث
البوصلة


31.8.06

قوى التغيير في مصر


أكتوبر 2005
افتتاحية العدد الثاني

ملف العدد : قوى ومشكلات التغيير في مصر
(مقدمة الملف)
الرأسمالية المصرية: هل هى طبقة منتجة للديمقراطية؟
(سامر سليمان)

العاملون بأجر فى القطاع الخاص والتغيير
(سامح سعيد عبود)

"التحالف المتذمر": الدولة والطبقة الوسطى الجديدة
(عمرو إسماعيل)

تدين الطبقة الوسطى الجديدة: تدين بلا توبة.. وإيمان بلا تجربة
(أكرم إسماعيل)

إسلام البورجوازية وبورجوازية الإسلام
(حوار مع باتريك هينى)

"انتفاضة القضاة" و معركة التغيير
(زياد العليمى)

المتعلمون والسياسة: قراءة فى مشهد المظاهرات الراهن وجذوره
(شريف يونس)

من "الدين للـه والوطن للجميع" إلى "الدين للـه والدولة للجميع": الحركة الديمقراطية فى مواجهة المسألة الطائفية
(سامر سليمان)

فى البحث عن حجر الفلاسفة: مشكلات الكتابة الليبرالية: نموذج عبد المنعم سعيد
(شريف يونس)

الفردية تغلب على جيل التسعينات من الفنانين
(داليا شمس)


(إشكاليات اليسار الديمقراطى)
بناء الدولة الوطنية الديمقراطية والنظام الدولى: هل من معادلة جديدة؟
(عمرو عبد الرحمن)


(خارج الحدود)
إيران... معركة السياسة في ساحات القضاء؟
(ريم وسيم)

الانسحاب الإسرائيلى من غزة: خطة شارون والفرص الفلسطينية
(خالد فهمى)

اليسار الديمقراطي الفلسطينى.. إلى أين؟
(بيسان عدوان)


(فــن)

فقر الفن أم عجزنا عن الرغبة؟
(فيروز كراوية)

(البريد)
أفق يسارى من قلب الديمقراطية

البوصلة تعاتب:
من ينسى أخوته المختطفين لخدمة الأمن المركزى والشرطة

صورة وتعليق:
المجد للعمل





29.8.06

المجد للعمل



صورة وتعليق

"عايز أشتغل با كبير". هكذا طالب هؤلاء المتظاهرون رئيس جمهوريتهم. وهم لهم كل الحق فى ذلك، فالعمل حق ينص عليه دستور الجمهورية التى أقسم رئيسها على احترامه. الفكرة التى تكمن وراء اعتبار العمل حقا هو أهمية العمل. ليس فقط لإعاشة المواطن ولكن أيضا لكى تتحقق إنسانيته ذاتها. فالعمل الواعى هو مما يميز الإنسان عن الحيوان. لذلك فإن إنسانيته لا تكتمل إلا إذا قام بعمل مفيد للجماعة التى ينتمى إليها. وعلى هذا فإن المجتمعات الديمقراطية تعتبر أن حرمان مواطن من هذا الحق يوجب له تعويضا من الجماعة، أى "معونة البطالة". فهذه المعونة وإن كانت لا تحفظ له بالضرورة إنسانيته إلا أنها على الأقل تحميه من ذل السؤال. هذه المجتمعات تعترف إذن بأن البطالة ليست بالأساس خطأ العاطل، ولكنها نتاج أوضاع اقتصادية واجتماعية مركبة.
ولنا نحن أيضا أن نقول أن عاطلينا (باستثناء العاطلين بالوراثة) ليسوا بالأساس مسئولين عن بطالتهم. ولنا أن نضيف أن نسبة البطالة الفاحشة التى تسود فى مصر ترجع إلى أن الإيديولوجية السائدة لا تعترف بحق العمل، بل هى لا تحترم العمل من الأصل، وترى عمليا أنه يمكن للمجتمع المصرى أن يواصل طريقه بهذه النسبة الكبيرة من المعطلين عن ممارسة إنسانيتهم. وعدم احترام العمل يتجلى بوضوح فى أن العاملين بأجر (المنتجين الحقيقيين منهم وليس البطالة المقنعة) لا يحصلون إلا على نسبة محدودة من ثمرة عملهم، برغم أن عملهم هو خالق الثروة. وهذا ينطبق أكثر ما ينطبق على العمل اليدوى الذى امتهن المستغلون تحقيره، بالرغم من أنه يظل العمود الفقرى الذى يقوم عليه أى مجتمع.
ربما عندما يفرض العاملون بأجر احترام العمل المنتج على أصحاب العمل، ربما عندما تنتصر فكرة أن أفضلنا هو أكثرنا تفانيا فى عمله، وليس أكثرنا تدينا، ربما يكون لنا فى هذه اللحظة أن نتذكر أن العمل حق إنسانى، بموجبه يجب على المجتمع أن يجعل من توفيره للكافة هدفا أساسيا. وهو حق يستحق المواطن بموجبه أن يحصل على تعويض إذا فشل المجتمع فى أن يوفر له العمل الآدمى المناسب. وهذا التعويض ستدفعه الدولة، لأنها القائمة على شئون الجماعة. فلنطالب الدولة بتسجيل أسماء كل العاطلين، والتحقق من بطالتهم من أجل دفع تعويضات (لا إعانات) شهرية لهم. سنطالب الدولة بذلك، فخميرة هذا الطلب موجودة فى المجتمع، والدليل على ذلك موجود فى الصورة: "عايز أشتغل يا كبير". لقد تذكر بعضنا أن العمل حق، وهو يعرف جيدا أن "الكبير" لن يقدم له وظيفة، بل هو عاجز عن ذلك حتى ولو أراد. ولكن الإلحاح فى المطالبة بالحق، حتى لو فشل فى إجبار الظالم على الاستجابة، فإنه على الأقل سيحمى الإنسان من نسيان حقوقه الأساسية.







البوصلة تعاتب : من ينسى إخوته المختطفين للسخرة فى الأمن المركزي والشرطة


من هم الأكثر وقوعا ضحية الاستغلال في الشعب المصري؟ من هي الجماعة التي تعمل بالسخرة لدى النظام الحاكم؟ من هي الفئة التي تقوم عن النظام بالمهمة القذرة في التنكيل بالمظاهرات السلمية؟ إنهم مجندو الأمن المركزي. هؤلاء الجنود لم يقرروا بإرادتهم الحرة أن يعملوا في هذا الكيان الغريب الذي تديره الشرطة. هم ذهبوا لمراكز التجنيد لكي يسلموا أنفسهم وفقا لقوانين البلاد التي ستقطع ثلاث سنوات من عمرهم باسم الخدمة الوطنية. ولكن بدلا من إرسالهم على الحدود للقيام بمهام الدفاع الوطني، يتم التحفظ عليهم في معسكرات تحيط بالمدن كالحزام، يقوم عليها ضباط من الشرطة، ويتم تسخيرهم في قمع المظاهرات والاعتداء على المواطنين العزل بل والتحرش الجنسي بالنساء. وهو الأمر الذي يخالف الدستور، لأن ذلك الدستور نص على الخدمة الوطنية الإجبارية، ولكنه لا يعطي الحق للسلطة التنفيذية فى إجبار مصريين على العمل بالسخرة لدي أجهزة الشرطة من أجل حماية نظام استبدادي. وبهذا المعنى نحن أمام أخوة لنا في الوطن يتم اختطافهم لمدة ثلاث سنوات يلاقون فيها صنوفا من العذاب على أيدي الضباط، ويجبرون خلال هذه السنوات على تكسير عظام وانتهاك أعراض أخوة لهم، ليسوا في خصومة معهم.
الجندي الآتي من أعماق الريف الذي ينكل بالمثقفين الوطنيين لا يفعل ذلك فقط بالأمر، ولكن لأن قياداته قالت له أن هؤلاء المثقفين خونة، ولأنه لم تتح له فرصة معرفة أخرى فقد صدق ما قيل له دون تمحيص. ولكن الحقيقة المرة هى أنهم ربما كانوا يكرهونا بالفعل.. لمجرد أننا بضعة من هؤلاء الأفندية الذين يتعالون عليهم. ولكن حتى لو كره هؤلاء الجنود التنكيل بمواطنيهم، ولو بدافع الإنسانية، بل وحتى لو عرفوا الحقيقة سيواصلون عملهم، ببساطة لأنهم مجبرين على ذلك. فالتمرد على أوامر الضباط لابد وأن تؤدي إلى صنوف من العذاب ليس آخرها زيادة مدة اختطافهم، أي "تجنيدهم"، ولهذا يختار الجندي القيام بمهام ربما لا يقبل أن يؤديها طائعا. ومن هنا ليس لأحد أن ينتظر منه التمرد على أوامر قياداته وعدم الاعتداء على المواطنين إلا إذا قدم له شيئا، إلا إذا شعر به أولا كإنسان.
المجندون الأميون ومن فى حكمهم لا يقتصر تسخيرهم المجانى فى الأمن المركزى على مواجهة المظاهرات، بل يمتد إلى حراسة مباريات الكرة وكل تجمع جماهيرى يُخشى خطره، وإلى إقامة معسكرات للطلبة وشباب الحزب الوطنى وغيرهم... بل ويتسع تسخيرهم خارج الأمن المركزى، ليمتد إلى العمل فى الحراسة داخل المدن وفى المرور، فضلا عن الخدمة الشخصية للضباط وأسرهم.. فكأنهم رهائن لدى السلطة لمدة 3 سنوات مقتطعة من أعمارهم وشبابهم ومستقبلهم تفعل بهم أثناءها ما تشاء باسم الخدمة الوطنية.
هؤلاء المجندون لا يلقون فى العادة فى ممارسة مهامهم المختلفة إلا كل استهزاء واستهانة، ليس فقط من ضباطهم، ولكن أيضا من أهالى المدن، من الأفندية والبهوات معا، من راكبى السيارات الذين يدعى كل منهم أنه "ابن مين فى مصر"، والمشاة. فلقبهم هو "دفعة" التى تُنطق كثيرا مصحوبة بابتسامة استهانة صفراء، ويضطرون لتحمل ذلك لأنهم يتسولون اللقمة، فضلا عن الخوف من بطش الأفندية، الحقيقى أو المدعى، لأنهم لا يستطيعون التمييز بين الاثنين.. وباختصار يشعرون فى المدينة أنهم كالأيتام على موائد اللئام. هوة واسعة تفصل بين عالمين، وأحقاد تنمو أو قابلة للنمو. فماذا فعلنا لهم؟
نحن في حقيقة الأمر لم نشعر بهم حتى الآن. نلتقي بهم في المظاهرات، فنحاول التودد إليهم بالشعارات ونحاول أن نشعرهم بأنهم أخوة. ولكن ما أن تنتهي المظاهرة حتى ننساهم، ننسى أن لدينا أخوة يبلغ عددهم 450 ألف مختطف في معسكرات السخرة المسماة بالأمن المركزي. لا زلنا ننتظر أن يكتشف جندي الأمن المركزي، بالصدفة، الحقيقة، وهي أننا لسنا بخونة، ومن ثم يتمرد على ضباطه وينضم إلى جموع الشعب الذي أتى منه. وننسى أنهم مجرد قطاع من جيش من الفلاحين يُسخر لخدمة السادة ونحن منهم شئنا أو أبينا، دون أن يجدوا عادة حتى الاحترام.
ربما لو تضامنا مع أهاليهم وطالبنا السلطة بالإفراج عن أبنائهم المختطفين لمدة ثلاث سنوات، ربما لو قمنا بالطعن في دستورية الخدمة "الوطنية" بأجهزة الشرطة، ربما لو تجمعنا خارج معسكراتهم وطالبنا بالإفراج غير المشروط عنهم، ربما يكون لنا الحق أن ننتظر منهم معاملة أفضل لنا في المظاهرات القادمة. ربما لو سعينا لمواجهة الطبقة الوسطى بسلوكها الفاحش الأنانية، وفقر عطائها للريفيين الفقراء، ونظرتها الدونية لهم.. ربما لو قدمنا لهم ولأسرهم الريفية الفقيرة ما يستحقونه من احترام واهتمام.. ويد مساعدة أخوية.. ومعاملة أفضل فى كل احتكاك بهم فى الدوائر الحكومية والشارع، يحق لنا أن نتوقع منهم أن يقاوموا مهمة قمعنا.. أن يخففوا حقدهم علينا نحن الأفندية نساء ورجالا.. أن يشعروا حقا وفعلا أن ثمة قضية مشتركة تربطنا.
لن يشعر أخوتنا المجندون بالمواطنة التى تجمعنا بهم، إلا إذا شعروا أصلا أنهم مواطنون فى بلدهم، وليسوا "فرزا ثانيا" مسخرا لخدمة السادة الأفندية من الحكوميين والمعارضين واللا مبالين.







البريد : أفق يساري من قلب الديمقراطية



محمد السعيد دوير
صدر العدد الأول من نشرة " البوصلة" في يونيو 2005 متضمنا عدة مقالات و" دراسات " حول المشهد السياسي الراهن وتجلياته وتداعياته المحتملة والمتصورة.
ورغم تقديري التام للمبادرات الشخصية أو الجماعية التي يقوم بها بعض مثقفينا فإن هذا لا يمنع – بالطبع – إمكان تأمل مثل هذه المبادرات والوقوف علي تصوراتها وقدراتها. ومدي فاعليتها واستعدادها لتأسيس منابر فكرية أو سياسية ناجعة، إن علي الصعيد النظري أو العملي. ووفق هذا المعنى أجدني قائما الآن علي ضرورة وأهمية مناقشة بعض ما ورد في الرؤية العامة لهيئة التحرير والمتضمنة في المقال الافتتاحي " نحو أفق ديمقراطي من قلب اليسار " والذي فضلت أن أقسمه إلي سبع فقرات حتى تسهل الإشارة والإحالة بالنسبة لي وللقارئ أيضا.

1- تنطلق هيئة تحرير البوصلة من عقلية يقينية سواء في طرحها السياسي أو الاقتصادي أو الفكري وإن حاولوا الإشارة إلي عكس ذلك ، ومصدر هذا اليقين لديهم يبدو في الوقوف علي مرتكزات فكرية لا تزال تقف علي حافة الحوار العالمي ، وعلي مبادرات سياسية تستند علي إنكار التواجد الفعلي للكيانات السياسية القائمة وهو موقف يحتوي في مضمونه نفي الآخر واستبعاد قدرته علي الفعل السياسي.0 لقد كان اليقين – ولا زال – هو عدو العلم والمعرفة وآفة الفكر والنضال التي تلتهم النوايا الحسنة والتحركات المخلصة ... ومظاهر هذا اليقين تكمن في الآتي : -
أ) عنوان المقال " نحو أفق ديمقراطي من قلب اليسار " هو تعبير يريد أن يحمل الدهشة والاعتراف بالخطأ فأن تنبلج الديمقراطية من اتجاه اليسار هو معني يتضمن بالضرورة أنه – أي اليسار – غاب عنه نور الديمقراطية ، وأصبح من الممكن إشراق شمسها بعد غياب نظري وتطبيقي دام قرن ونصف من الزمان .... هكذا يسعون إلي أفق ديمقراطي" دون أن يقدموا لنا تأسيسا علميا لمفهوم الديمقراطية وقراءة تحليلية للديمقراطية الليبرالية المهيمنة علي الواقع المعولم الحالي. ومدى قدرتها علي استيعاب عمليات فك الارتباط الدولي أو المحلي ثم دراسة الحقيقة التاريخية التي ننظر إليها باعتبارها مفهوم مراوغ ووهمي ومزيف يرسخ إلي حكم الارستقراط والنخبة المالية وأصحاب النفوذ، وذلك تأسيسا علي التعريف الإغريقي القديم لها - حكم الشعب نفسه بنفسه ولنفسه – وتطوره بعد ذلك في آراء لوك وهو بز وفلاسفة التنوير ، بما يؤدي في نهاية المطاف إلي اعتباره مفهوما شكليا ظاهريا لا يحمل اى مضمون نقدي أو إيجابي ، وهو تعريف يحمل معني قد ينسحب علي المجتمعات الرعوية والطائفية والقبلية ، بما يعني أنه غير قادر علي إحداث تغير جذري في طبيعة العلاقة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج أو بين البناء النحتي والبناء الفوقي للمجتمع، وذلك لأنه ليس مفهوما فلسفيا مؤسسا علي قاعدة معرفية عقلانية إنسانية مجيدة تعطي للإنسان الفرد الحق في امتلاك المعرفة والثقافة والتعليم والعمل والمسكن بقدر ما هو مفهوم اقتصادي تأسس علي حرية السوق، وبالتالي اختلال في قيمة العمل بما يؤدي إلي إنتاج حريات متعددة محكومة بإطار عام من استغلال البشر و الموارد الطبيعية، الأمر الذي يلقي بظلال من الشك المبين على طبيعة ومصداقية الديمقراطية الليبرالية من زاوية قدرتها علي تحقيق كفاية اقتصاديه وتشبع سياسي لكافة البشر. لقد حاول فوكوياما مؤخرا, أن يرسخ لتلك الفكرة التي تتبناها "البوصلة"الآن,وأعتقد أنها لم تلق رواجا في المجتمع الثقافي العالمى.

ب) -تضمن المقال في حروفه الأولي في تعبير"ربيع الحرية يتفتح في مصر" وهكذا أمكن لهيئة التحرير قراءه الواقع وتوصيفه والإقرار بأن ثمة ربيعا للحرية قد تفتح.وأنني علي استعداد لتقبل هذا الوصف من جهة تحفيز الهمم وبث الأمل في النفوس علي طريقة افتتاحيات القصائد العربية القديمة ولكنني لست مستعدا لتقبله باعتباره توصيف وتحليل ورؤية متبلورة للواقع الحالي لأنه تقرير ينافى منطق التحليل ويجافي الحقيقة، علي الأقل من وجهة نظري0 ومرجع ذلك في تقديري إننا لدينا مرض "سرعة إطلاق المصطلحات " دون الاعتبار بالضرورات التاريخية واللغوية التي تنشأ بناء عليها مناهج الوصف والتحليل والتفسير.فلست واجدا فيما يحدث الآن ربيعا، إذ لا تزال الأفواه مكممه إلا من النخبة ، والسجون والمعتقلات مفتوحة ،ومصادرة الكتب مستمرة ،وتكفير البشر علي قارعة الطريق ،واغتيال الفكر والمفكرين حاضر بقوه في المشهد الثقافي ،والإسلام السياسي يحرف النضال الاجتماعي وينقل معركة المجتمع مع الظلم والفقر إلي معركة شخصية وصراع سلطة، ودعاة التخلف يحولون حياتنا إلي تابوهات مقدسه. إن النظر إلي حرية "المظاهرة والصحيفة" بأنها ربيعا، هو انتصار للشكل لا المضمون وإعلاء من قيمة المظهر دون الجوهر,والنظر للأشياء نظره عاطفية متعجلة دون سند علمي .. إنها حرية تجعل من عادل حموده وإبراهيم عيسي وعبد الحليم قنديل ومصطفي بكري0000الخ روادا للتنوير وأساقفة للحرية ومبشرين جدد بأن ربيعا بديعا سوف ينتقل إلينا بمجرد أننا قلنا "لا للرئيس" إن جوهر الحرية الحقيقي هوانه ليس علي العقل سلطان إلا العقل نفسه.. ونتمنى أن نتمكن في مرات لا حقه من مناقشه تلك القضية باستضافة.
2- ورد في الفقرة الأولي..توصيف النظام الحالي بأنه "ربوني"وهو توصيف رث، فالزبون في اللغة الدارجة ولدي أهل التجارة له عده معان ودلالات وقد تنتقل تلك المعاني إلى التوصيف السياسي 0 إنني أري أن النظام الحالي يعبر عن مصالح فئة طفيلية من الطبقة البرجوازية الرأسمالية التابعة.وبالتالي فهو نظام تابع,فيما يري معظم خبراء الاقتصاد,ونخص بالذكر أفكار مدرسة أمريكا اللاتينية في نظرية التبعية ودراسات فؤاد مرسي وسمير أمين وإسماعيل صبري عبد الله وإبراهيم العيسوي.. وآخرين.
3 - في الفقرة الأولي "هذه الترسانة الهائلة المتشعبة من القوانين والأجهزة تشكل الأساس الحقيقي للاستبداد".. وهو قول ينظر للحقائق في مظاهرها وظواهرها ولا ينظر للاستبداد باعتباره موقفا فكريا بالأساس وبنية نظام اجتماعي نشا ت في التراث العربي الإسلامي والفرعوني تنوعاته المتباينة في مصر والعالم العربي وفق ما تقضي الظروف وشكل وطبيعة الصراع القائم.فالاستبداد هو حاله شامله وظاهره ممتدة بطول الوطن يمارسها ويحيا في كنفها المجتمع الأبوي والذكوري والطائفي والسلطوى والبرجوازي والطفيلي والديني , وهو من ناحية أخري نتاج ما هو سياسي وثقافي واجتماعي وتراثي.
4- في الفقرة الثالثة إن هيئه التحرير "لا تستلهم شرعيتها من تطبيقات تسمي شيوعية أو اشتراكية بعينها تسعي لمحاكاتها وفرضها علي الوقائع القائمة" وهنا لم افهم ما المقصود باستلهام الشرعية؟ هل هي شرعية السوفييت سابقا أم شرعية الايدولوجيا ذاتها ,أم شرعية الوقائع المفارقة لواقعنا الحالي؟ ثم كيف يتأسس هذا الرفض هنا بينما يتشابك في فقره أخري "الخامسة"، مع قبول شرعية جديدة تخرج من عقول يسارية في قولهم"وبينما نقر بأن أية خطة تنموية لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا في ظل آليات السوق". إننا نطرح سؤالا وحيدا تعقيبا علي تلك الفكرة. أليست آليات السوق تلك نظام" زنوني"أيضا؟
5- الفقرة السادسة" إن ما يجمعنا قرر من الاعتبار للتحليل الاجتماعي والسياسي الذي أرسته الماركسية".. وبداية لا أدرك مقدار هذا الاجتماعي والسياسي الماركسي وتأكيدهم في ذات الفقرة"نعيد طرح الرأسمالية الديمقراطية باعتبارها أفضل النظام المتاحة فعليا في مجتمعنا في لحظتنا التاريخية" علي اعتبار أن الرأسمالية لا تزال لديها ما تعطيه وتمنحه للبشرية من تقدم.. وتلك إشكاليه كبري وسوء فهم خطير جدا لدي العديد من مثقفينا حين يربطون بين التقدم العلمي والتكنولوجي والتقدم والتطور القيمى الإنساني وعلاقة الإنسان بالمحيط الخارجي سواء كان وعيا او ماده حين يرادفون العلم بالرأسمالية كنظام اقتصادي مستقل والعلم نسق مغلق يخلق آلياته بنفسه ويمكن العودة إلي كتابات فلاسفة العلم أمثال توماس كون وفيرابند ونقولاس ماكسويل ولاكاتوش...
6- خلاصة القول هنا...إن هذه الورقة البرنامجية اتسمت بالعديد من الأخطاء:-
أ- منهجيا:- إنها تحدثت عن برنامج مفتوح يشمل ويتضمن كافة القضايا الإنسانية والتوجيهات البشرية والأفكار والرؤى التي أنتجتها الثقافة العالمية مع الإصرار علي التحلل من كل إطار محدد وهدف مستقبلي واضح من منطق إن هذا الطرح يسمح بالقدرة علي التحرك أو التوسيع في الجهات الأربع..وهنا تكمن هلامية التصور وضبابية الرؤية وفقدان الاتزان الفكري, وتلك صفات مباشره لغياب المنهج والمنهجية, أو بمعني آخر غياب "البوصلة"
ب- معرفيا:- لقد اختلت لدي هيئة التحرير المفاهيم ودلالاتها ومضمونها المعرفي, فطرحوا الديمقراطية كأيدلوجية وغطاء عام يمكن أن تستظل به كافة التيارات,متجاهلين تنوع واختلاف المفهوم من مدرسة فكرية إلي أخري, فحولوا المصطلح إلى ما لا يشير إليه دلاليا سواء إشارته السياسية أو التاريخية .وانطلقوا من هذا الموقف "اللامعرفي"إلي بناء تصور عام "جذري" في ذات الوقت الذي يعلنون فيه أنهم ليسوا مشروعا فكريا وسياسيا "متبلورا" ومن جهة أخري فإنهم لم يعلنوا ماذا تعني" الجذرية" بالضبط هل هي الأصولية التاريخية لمصطلح الديمقراطية أم الأصولية المعرفية –بمعني امتلاك كافة محتويات المعني-أم أصولية سياسية باعتبار أن الديمقراطية مظهرا من مظاهر تطور علاقات الإنتاج والقيم الليبرالية......؟
ج- سياسيا:- تنطلق توجهات هيئة التحرير من فضاء عام هو العولمة البديلة ثم تتدرج بها المراحل إلي اليسار الديمقراطي العالمي, والذي يتبلور في العالم الثالث بنماذجه المتعددة في البرازيل ولبنان. ولا اعرف علي وجه الدقة كيف يتم أو يمكن تفعيل تلك الأفكار في واقعنا المصري- هذا إذا اتفقنا علي إمكانها عالميا- في الوقت الذي يصرحون فيه بأنهم لا يستلهمون تجارب أخري وإسقاطها علي الواقع. ثم ما هي آليات هذا المشروع الطموح.و... ننتظر الإجابة.
وأخيرا.....هناك فارق وتمييز واضح بين عبارة "نحو أفق ديمقراطي من قلب اليسار "التي تعني أن الديمقراطية هي القاعدة واليسار هو الأداة وعبارة "نحو أفق يساري من قلب الديمقراطية" التي تؤكد علي أن كل تأسيس معرفي وبناء مستقبلي هو منطلق من قاعدة فلسفة التقدم بأدوات ديمقراطية .....ولذلك أرجو تصحيح الخطأ المطبعي في عنوان المقال الافتتاحي .

----------------------------------

الزميل محمد دوير:
شكراً على الاشتباك النقدى الجاد مع الأطروحات المعروضة فى العدد الأول من البوصلة. ونرحب بهذا النقد إذ أنه يعد علامة تقدير للأفكار محل النقاش والتى استفزت ذهن القراء وثانياً لأنه الحافز الرئيسى على تطوير تلك الأفكار والوصول الى رؤى أكثر تماسكاً للتحولات الجارية فى المشهد السياسى والفكرى المصرى ولموقع اليسارمن هذه التحولات.
بداية نتفق مع نقدك فى فكرتين: الأولى أن صياغة الإفتتاحية شابها الكثير من اليقينيات وبدا وكأنها تنشأ من فراغ فكرى لم يسبقها اليه أى من فصائل اليسار المصرى. وهذا تجاوز مرده الى الصياغة وليس الى أى قناعة راسخة بنفى الآخر. في هذا السياق، فإن اختيار عنوان "نحو افق ديمقراطى من قلب اليسار" لم يكن بغرض إثارة "الدهشة والاعتراف بالخطأ" أو الإشارة الى إمكانية " شروق شمس الديمقراطية بعد غياب نظري وتطبيقي دام قرن ونصف من الزمان". على العكس تماماً، كان المقصود من اختيار العنوان التشديد على أن الأوان قد حان لإسهام يسارى مبدع يفتقده الجدل السائد بشأن قضية الديمقراطية فى مصر ونعتقد أننا نملك الأدوات التحليلية الكفيلة بانتاجه. على كل حال، الافتتاحية واضحة بهذا الشأن وأعتقد أنك تجاوزت فى تأويل هذه العبارة. الفكرة الثانية التى نتفق بشأنها هى أن هيئة التحرير لم تتوسع فى تبيان أوجه نقدها للديمقراطية الليبرالية وتميز طرحها- أى هيئة التحرير- بشأن قضية الديمقراطية فى مصر. على أن هذا القصور يتجلى فى الإفتتاحية فقط والتى لا ينتظر منها أن تقدم تأصيلاً نظرياً لمفهوم الديمقراطية أو أن تطرح برنامج عمل سياسى إذ أن مطبوعة بهذا الشكل لا تعنى ببرامج العمل السياسية فى صيغتها المباشرة. ولكن لا ينسحب هذا النقد على باقى الدراسات المنشورة بالمجلة إذ حفلت تلك الأخيرة بالنقد الواضح لحدود الديمقراطية الليبرالية فى سياقها المصري كما يطرحها منظرو الحزب الحاكم (انظر مقالى سامر سليمان وعمرو عبد الرحمن) أو كما يطرحها بعض أقطاب المعارضة العلنية ومنظمات حقوق الإنسان أو حركات التغيير البازغة (انظر محمد نعيم وعمرو عبد الرحمن وشريف يونس). لن أتوسع هنا فى ذكر الملاحظات النقدية الواردة فى تلك المقالات ولكن آمل أن تجد فى هذا العدد قراءة نقدية اكثر توسعا لأطروحات ليبراليو لجنة السياسات، كما يجسدها عبد المنعم سعيد. ودعنى أختتم هذا الجزء الافتتاحى بدعوة كل من يرغب فى الاشتباك النقدى مع مقولات الديمقراطية الليبرالية الى تبادل الأفكار سوياً على صفحات البوصلة.
إذا تركنا الملاحظات الشكلية وانتقلنا الى المضمون، أظن ان جوهر الخلاف فى تقييم الأطروحات الواردة فى المجلة ناتج عن الاختلاف فى توصيف طبيعة النظام السياسى القائم فى مصر. ففى تعليقك تذكر "ورد في الفقرة الأولي..توصيف النظام الحالي بأنه "ربوني"وهو توصيف رث، فالزبون في اللغة الدارجة ولدي أهل التجارة له عده معان ودلالات وقد تنتقل تلك المعاني إلى التوصيف السياسي إنني أري أن النظام الحالي يعبر عن مصالح فئة طفيلية من الطبقة البرجوازية الرأسمالية التابعة.وبالتالي فهو نظام تابع,فيما يري معظم خبراء الاقتصاد,ونخص بالذكر أفكار مدرسة أمريكا اللاتينية في نظرية التبعية ودراسات فؤاد مرسي وسمير أمين وإسماعيل صبري عبد الله وإبراهيم العيسوي..وآخرين". دعك من أننى لا أفهم وجه الرثاثة فى تعبير "الزبونية" وهو ترجمة دقيقة لمصطلح شائع فى العلوم الإجتماعية “Clientalism” ولكن هذا توصيفك للنظام المصرى للتبعية ينطوى على خلط منهجى بين مفهوم النظام السياسي ومفهوم التبعية كحالة تاريخية محددة تصف علاقة هذا "النظام" بالسوق العالمى . النظام السياسى يشير الى مجمل العلاقات القائمة عبر المؤسسات والتى تخترق كل من الدولة والمجتمع المدني ويتم وفقاً لها توزيع الموارد المادية أو الرمزية. أما التبعية فتشير الى وضعية راهنة يفتقد بمقتضاها هذا "النظام" -الذى لم تقم بتعريفه- إلى الاستقلالية فى علاقته بالنظام العالمى كما أن هذه الوضعية نفسها تلعب دوراً فى صياغة طبيعة هذا النظام. ومن وجهة نظرنا أن هذه العلاقات السابق الاشارة اليها عند تعريف النظام قائمة على مفهوم الزبونية أى أن يتم تورزيع الموارد والنفاذ إلى مصادر السلطة الرمزية من خلال آلية مستندة الىالولاءات الشخصية التى يتم نسجها عبر المؤسسات القائمة. فهذه الآلية إذاً ليست بمؤسسية فى حد ذاتها. كما أنها ليست بآلية طائفية أو عشائرية الطابع حيث أنها ليست حكراً على أبناء طائفة بعينها وهكذا. وتلعب العلاقات المتشابكة التى يغزلها هذا النظام الزبونى مع السوق العالمى دوراً محورياً فى ترسيخ هذا الطابع ودعمه، من خلال المنح والتحويلات المالية التى تتجه مباشرة عبر هذه الشبكة الى جيوب المهيمنين على هذا النظام، بقدر مايولد اختلالات ينتج عنها بعض الأزمات على الصعيد الدولى أو الإقليمى مثل الشكوى من الفساد المستشرى وغياب حكم القانون. أى أنها علاقة ليست بالثابتة او اللاتاريخية كى يوصف بها النظام ناهيك عنم أنها أحد مصادر تشكيله مع مصادر أخرى تضرب بجذورها فى العلاقات الذكورية مثلاً أو الخطاب الثقافى الرجعى المهيمن، فكيف يحال النظام الى أحد مصادره كأن أقول مثلاً أن النظام المصرى ذكورى أو ظلامى؟؟.
على أن إحلال الحالة التاريخية المحددة محل الآليات المتجددة والخاضعة في تشكيلها لعمل الفاعلين الإجتماعيين يفضى الى المزيد من الاختلالات التى ما زالت تهيمن للأسف على الخطاب اليسارى المصرى. على سبيل المثال، صفة التبعية البنيوية الطابع تستلزم قاعدة طبقية تستند اليها فى عملها وهى هنا الرأسمالية الطفيلية. وحديث الرأسمالية الطفيلية هو حديث ذو شجون يمتد الى منتصف السبعينيات من القرن الماضى حينما اعتبر أحد أهم فصائل اليسار المصرى أن البرجوازية الطفيلية العاملة فى مجال المضاربات المالية أو الاستثمار العقارى وما ارتبط به خلال تلك الحقبة من فساد واسع النطاق وتعاملات غير شرعية هى الجناح المهيمن داخل الحلف الاجتماعى الحاكم والذى يضم البيروقراطية والبرجوازية الوطنية. دعك من أن هذا التوصيف لم يعد ينطبق على الحالة المصرية المعاصرة. فلا يمكن بأى حال إطلاق وصف الطفيلية ذاك على أجنحة البرجوازية المصرية الصناعية الصاعدة والتى تتخذ زمام القيادة داخل الحلف الإجتماعى الحاكم. ولكن ما يعنينا أن مفهوم الطفيلية ذاك هو مفهوم لا يمكن تأسيسه علمياً على الإطلاق. فعلى حد علمنا ان إقامة حواجز مفاهيمية بين أوجه أنشطة البرجوازية المختلفة أمر مستحيل اخذاً فى الاعتبار التعقيد الذى تتسم به الإقتصاديات الرأسمالية عموماً. فى هذا السياق يمكن اعتبار التصنيفات المختلفة لأجنحة البرجوازية تبعاً لأنشطتها الانتاجية- صناعية أو زراعية أو تجارية- مثلاً هى تقسيمات تحليلية أكثر منها واقعية. فإذا كان المعنى بالطفيلية هو هيمنة الأجنحة العاملة بالنشاط المالى على مجمل أنشطة الطبقة فنحن نتحدث عن طابع طفيلى للرأسمالية ولا نتحدث عن رأسمالية طفيلية يكون التخلص منها هو الحل لمشكلة التبعية. وغلبة الأنشطة المالية على مجمل أعمال الرأسمالية هو ميل أصيل ملازم لعمليات التحول من الإقتصاد الموجه والواقع تحت هيمنة البيروقراطية وما يقترن به من فتح للأسواق وتحرير للمعاملات المالية وسرعان ما يتراجع إذ لا يمكن تأسيس نمو رأسمالى دائم معتمداً على هيمنة هذه الأنشطة. أما إذا كان المقصود بالطفيلية هو أجنحة البرجوازية المرتبطة بالسوق العالمى- مع افتراض وجود برجوازية لا ترتبط بالسوق العالمى- فالأحرى تسميتها بالبرجوازية التابعة الغير منتجة، أو ما يطلق عليه فى أدبيات مدرسة التبعية "الكمبرادور"، وفى هذه الحالة سنواجه بالسؤال الطبيعى حول صحة افتراضات مدرسة التبعية والتى ناقشناها فى أحد مقالات هذا العدد حول السياسة الخارجية المصرية نرجو العودة اليه، هذا مع التنبيه أن مفهوم "البرجوازية التابعة" كشقيقه "البرجوازية الطفيلية" هى تعبيرات تنتمى الى القاموس السياسى/الأخلاقى أكثر من انتمائها الى التحليل العلمى الدقيق. خلاصة القول أن محاولة تأسيس طابع للنظام السياسى المصرى من خلال النظر لنمط محدد من الهيمنة الطبقية هو أمر مشروع وجائز علمياً. أما إطلاق الأوصاف السياسية اللاتاريخية ذات الطابع البنيوى على كل من البنية الطبقية الداخلية والنظام العالمى فهو الجذر الطبيعى لاضطراب مقولات أغلب فصائل اليسار المصرى وعدم صلاحيتها كأطر تحليلية وانغلاقها على نفسها تجتر حتمياتها البنيوية دونما أى إبداع فكرى على الإطلاق. على الجانب الآخر نحاول فى "البوصلة" التخلص من تلك الحتميات البنيوية وننظر الى الدولة والمجتمع المدنى والسوق كمجالات مفتوحة لصراع القوى الإجتماعية يعاد تعريفها تبعاً لتحولات علاقات القوى داخلها. وكل ما يعنينا هو استراتيجيات القوى المسودة الساعية للتحرر داخل تلك المجالات المفتوحة وليس نفى المجالات فى حد ذاتها. هذا هو ما يفسر اهتمامنا البالغ بقضية مقرطة النظام القائم والتخلص من طابعه الزبونى إذ أن هذه المقرطة هى السبيل الوحيد لاتاحة الفرصة أمام الطبقات الخاضعة من إحداث تحولات جذرية فى علاقات القوى داخل تلك المجالات.
فى النهاية لا يسعنا إلا توجيه الشكر لهذا النقد البناء. فهذا الاشتباك النقدى هو الهدف النهائى من إصدار تلك المطبوعة فى التحليل الأخير.
(البوصلة)






فقر الفن أم عجزنا عن الرغبة؟


فيروز كراوية


إلى أي مدى يمكن اعتبار الفيديو كليب مجالا ديموقراطيا؟ وكيف استقبلنا "أخاصمك آه"؟ وكيف أصبحت الأغنية الآن بمثابة لا وعى نرمى فيه هواجسنا؟ تتساءل فيروز كراوية فى هذا المقال عن أثر الفيديو كليب على صناعة وتلقى الأغنية، وعن علاقتنا بالقدرة على البهجة والتعامل مع مشاعرنا.

كانت الأغنية واستمرت أحد أسهل القوالب الفنية تداولا وأكثرها مصاحبة للناس فى حوادث يومهم. ورغم وجودها القوي خلال تاريخنا المعاصر، فان ذلك لم يسهم فى تطورها بما يتناسب واحتياجنا لها كما حدث فى أنحاء كثيرة من العالم المتقدم والنامى. لقد لعبت الأغنية والفرق والأنواع الموسيقية الواسعة أدوارا فاعلة فى التحريض وتعميق الشعور بالذات والكون فى العديد من التجارب التى جعلت من الفن الغنائى بحق لسان حال شعوب الأمريكيتين وأفريقيا - باستثناء منطقتنا العربية - وأوروبا. ولازال ظهور واستكشاف أنواع موسيقية وشعرية جديدة وتطوير أنواع قديمة يطرح بدائل لانهائية لاستمرار هذا الفن الاجتماعى مؤثرا ومطلوبا. أحد الإمكانيات التى طرحها عصر الصورة بل واضطرت لها الأغنية كان الفيديو كليب. هذا الميدان الديمقراطى من حيث إتاحته للفرصة الغير مشروطة للعرض والتكلفة الإنتاجية المرنة واستعصاؤه على احتكار النجوم. بجدارة أتاح الفيديو كليب إمكانية صناعة أغنية ذات أبعاد مرئية بما يحوى ذلك من تقنيات حركية وخيالية وسينمائية.

تسلية ذات أنياب..."أخاصمك آه"؟!
غيرت هذه النقلة بالضرورة من طبيعة متلقى الأغنية ونوعيته. فانضم لجمهور الموسيقى شريحة واسعة من مشاهدى الفضائيات المتوفرة والذين لم يكونوا بالضرورة من المهتمين بالأغنية بشكل خاص. وانتقل تعاطى الأغنية من جمهور كان لابد له أن يسعى نحوها -بشراء الأشرطة أو بحضور الحفلات- لجمهور تسعى الأغنية نحوه وتتهافت لكسب عينيه بالدرجة الأولى. حتى تلك اللحظة كان هذا الأسلوب الفنى الجديد محتفظا بفرصته الذهبية فى توسيع نطاق حرية الأغنية بل واكتساب أرضيات جديدة يطرح عليها رؤيته ورأيه. ولكن الجمهور الجديد كان فيما يبدو مستعدا بدرجة أكبر لاعتبار الأغنية المصورة فنا للتسلية فقط. ولكنه أيضا لم يكن مستعدا أبدا -أو متوقعا- أن تكون هذه التسلية خارج حدود بعينها اعتاد أن يتسلى فيها. وعند هذه اللحظة بالذات قدم الفيديو كليب نفسه لأول مرة كتسلية لها أنياب.."أخاصمك آه". ذات صباح اصطدمنا جميعا بأول أغنية تستخدم الإيحاء الجنسى بجرأة واضحة وبراعة إخراجية تفاعلت فى العمق مع كل ما نحمله من ميول ومشكلات وانطباعات عن الجنس والفراق البين -فى نظرنا- بين ممارسته المستورة وتناوله العلنى. حملت نادين لبكى أغنية شديدة التقليدية كلاما ولحنا وغنجا إلى قلب قضايانا المؤرقة.
دون تردد كتبت الصحف وتحدثت البرامج وباع الجميع وكسب ولكن لم يتوقف أحد أبدا عن مشاهدة الكليب الظاهرة. استدعى المجتمع من سلته الخلفية تناقضه المتكرر فى معالجة مشكلة الجنس، لم يقدم جديدا عما قاله من قبل فى كل الأفلام السينمائية التى أثارت ضجة مشابهة. الغريب أنه باع واشترى بنفس النجاح ودون أن يعانى كساد البضاعة القديمة!! نعم ..قفز الجميع ليستفيد من الأغنية الحدث بداية من برامج التوك شو وحتى الصحف والبرلمان وصولا للدعاة الجدد. نتيجة لرد الفعل الساخن -المفتعل كالعادة- قفزت أسهم الأغانى المصورة اقتصاديا قفزة هائلة غيرت من طبيعة العرض والطلب عليها تماما. تحولت السلعة الفنية بفضل هذا الاستقبال لسلعة تروج لا على أساس تنافسيتها الفنية -نجمها أو موسيقاها أو كلماتها أو تصويرها- بل على جذبها بالدرجة الأولى لجمهور "شريط المحادثة السفلى" وأحدث رنات الموبايل. وهنا بالتحديد استوى الجميع، أشهر النجوم وصانعو الكليبات المفرقعة، فى تطور نوعى هام لم يعد يؤثر فى جريان الشريط السفلى من يغنى أو أى أغنية. المغنى يكسب أجره ويزيده مسبقا حتى قبل أن يعرف درجة نجاح أغنياته لأن المنتج والقنوات لم تعد تكسب منه إلا بوصفه علامة تجارية تجاورها أموال شركات الموبايل والإعلانات على صورته وصوته.

بعيدا عن الذات...مرة اخرى!
وإذا قرأنا من زاوية أخرى أسباب رد الفعل هذا الذى ذهب بنا بعيدا جدا عن الفرصة المتاحة، نجد أن" أخاصمك آه "فى حد ذاتها قدمت بديلا لم نرد التعاطى معه بجدية. فبينما ذكرت نادين لبكى بصراحة وعلى صفحات المجلات أنها قصدت الإشارة بوضوح لديناميكيات العلاقات بين رجال وامرأة فى وسط شعبى عربى جاءت التعليقات كلها بلا استثناء تتعامل مع فن مبتذل أو على أفضل الأحوال مع وسيلة سهلة للترويج لأغنية. كانت نادين -سواء صدقت أم لا- تشرح لنا أسلوبها الإخراجى الذى اعتمد على المحاكاة المستفزة لواقع معاش. لا يريد وعينا التورط فى رسالة الصورة التى اشتبكت معها تلك الأغنية: أننا كرجال نرى السيدات حولنا هكذا فعلا أو أننا هكذا نؤثر فى الرجال كنساء. كل القراءات رفضت مناقشة ذلك واختارت أن تحمِّل الأغنية كل ذنوب المجتمع بدءا من إفساد الأجيال الشابة وحتى الدعوة للكفر والعياذ باللـه. عندما اقتربت أغنية نانسى عجرم منا ومن حيل تواصلنا اللعينة ثرنا عن بكرة أبينا ورفضنا مناقشة الأمر إلا بصلف من يحمى انهيار مؤسسته الأخلاقية المستعدة للانهيار بجدارة. يبدو أن هذا الشكل المكرر من التفاعل مع الأشكال الفنية التى تقذف برسالة صادمة قد كون صيغة تواطأ الجميع على استعمالها عندما يعجز عن تقديم تفسير متماسك، لنفسه إذا كان من الجمهور العادى، أو للناس إن كان ناقدا أو رمزا للسلطة السياسية/ الدينية/ الإعلامية.
ولكن ثمة وقفة مهمة واجبة قبل أن نبالغ فى احترام "القيم الثورية العظمى" لأغنية "أخاصمك آه". هذه الوقفة تخص المبدأ الأولى الذى يفترض فى المبدعة -وهى هنا نادين لبكى- أنها قصدت حتى لو لم تعرف ذلك أن تعرض صراعا داخليا يهمها حول قضية ما. ما حدث بعد ذلك أن تدخلت أطراف عدة لتحرمنا من استغلال ديمقراطية الفيديو كليب لصالح عرض صراعات مختلفة تهمنا أو تحركنا واستغلت أخاصمك آه فى إطار مختلف. فالمنتجون تنفسوا الصعداء لأن شجاعة نانسى عجرم فى تقديم الإثارة وفرت عليهم عناء ولعنات البداية الأولى، فانطلقوا فى تقديم الجنس يوميا وكل ساعة حتى حولوا شاشات الفيديو كليب لخلفية عارية بائسة لا يكترث لعريها الناس كثيرا. والفنانون الذين يصنعون الأغانى رأوا أن المهمة الثقيلة أصبحت تقع على عاتق الصورة -أو أن دورهم لم يعد يغير الكثير- فرموا حمولهم الثقيلة على المخرج واكتفوا بصناعة كلمات هزيلة وألحان باهتة لعدد لا نهائى من البشر مهمتهم أن يظهروا فى الصورة بشكل جيد. والمجتمع بدوره تخلص من كابوس جديد كاد يظهر ليحرك من جديد أسئلة كان قد عرف سيناريو الرد عليها ورسم لها حدودا لا يريد أن تتجاوزها. لا يهم أن ترينا الأغانى-بصفتها الجديدة كأفلام قصيرة- كيف نعيش. لا يلزمنا أن يفتح هؤلاء الصغار النار علينا من ميدان آخر. لن نجتهد فى الحصول على متعة فنية تحرك ما نام واستقر فى سلة خلفية نسيناها فى مؤخرة رؤوسنا. إنه قرار نكسب منه اقتصاديا وسياسيا ونضمن أن تسير الأحوال –دائما- على ما هى عليه.
ولكن الخسارة الاجتماعية والإنسانية المستمرة تتم وفق آلية شرسة فى الدفاع عن وجودها بكل طريقة. هذه الآلية التى نجيدها جيدا من إزاحة آلامنا وهواجسنا إلى لا وعى بعيد وإحلال ردود جاهزة وحلول صارمة محلها فى المقدمة. كيف فقدنا متلقى الأغنية القديم والجديد وحولناها -منتجون ومستهلكون- لسلعة رخيصة هربا من احتمالية تحريرها التى تخيفنا. مم نخاف وأى حياة نريد أن نحيا؟ فإن كنا حولنا الأغانى المصورة بجدارة لميدان مفرغ من كل جدل مع حياتنا وجعلنا الغناء والموسيقى نسخا رديئة من أحاسيس فاترة فقد يدلنا هذا على أن هروبنا المستمر لهذه الآلية المنفصمة له دلالة أعمق: أنه إشارة صارخة على ضحالة مشاعرنا ذاتها أو هروبنا من النفاذ إلى أعماقها حتى لو عبر عملية فنية تخييلية تحرضنا على الطريق لقلوبنا. بمعنى آخر: إذا عجزت أطراف الصناعة الفنية من منتج وفنان ومتلقى عن الاشتراك فى خلق مُنتَج نلجأ له لنمرح أو لنعرف أو لنتفتح –وهو الضرورة الوحيدة للفن- فإننا إزاء حاجز حقيقى يفصلنا عن رؤية ما نريد، ولو رؤية غامضة. فى ذهنى الآن، بالمقارنة، كيف جاءت أغنية جورج مايكل التى رسمت كاريكاتورا لبوش وبلير فى وقت مثل الوقت الذى تعيشه مصر الآن. فى حالتنا هذه يصبح غياب أعمال فنية جذابة وافتقاد الجمهور لفن يثير اهتماما أكثر من اهتمامه بكيس لب سوبر مرتبطا طبيعيا بشرط اجتماعى لا يعرف طريقا للبهجة الصادقة ولا لوضع يد على أوجاعه التى أماتت جسده حتى سكت عن الصراخ.





اليسار الديمقراطي الفلسطينى.. إلى أين؟


بيسان عدوان


كان ظهور مصطفى البرغوثى مرشحا قويا فى الانتخابات الرئاسية الفلسطينية علامة بارزة على نشأة تيار يسارى ديمقراطى فلسطينى إلى جوار سلطة فتح والتيار الإسلامى. فى هذا المقال تلقى بيسان عدوان الضوء على تشكل هذا التيار وبرنامجه والمشكلات التى يواجهها وآفاق حلها.

منذ فترة زمنية ليست بالقصيرة تشهد الساحة الفلسطينية الداخلية حالة من الاستقطاب السياسي بين تيار السلطة بقيادة حركة فتح وبين تيار الإسلام السياسي بقيادة حركة حماس، وقد تعمق هذا الاستقطاب في الآونة الأخيرة بعد حوار القاهرة ونتائج الانتخابات المحلية وتشكيل هيئة للإشراف على ملف الانسحاب من غزة، بما أصبح يشكل تهديدا للقضية والشعب الفلسطينيين بدخوله في المحرمات كالاقتتال، وتجاوز الخطوط الحمراء المتعارف عليها وطنيا.
فى ضوء ذلك، هناك شعور واسع الانتشار ورغبة عميقة فى الأوساط التي تقع بين التيارين وخارجهما، والتي تملك رؤية مغايرة لرؤيتهما، قائمة على ضرورة العمل لبناء تيار أو ائتلاف واسع وعريض يتميز برؤية ديمقراطية بأبعادها السياسية والاجتماعية والحقوقية. وبرغم تشكل بوادر لهذا التيار الثالث أو القوة الثالثة في الحياة السياسية منذ الانتخابات الرئاسية في يناير 2005 وخوضها غمار الانتخابات، إلا أن بناءها لم يكتمل حتى الآن لأسباب مختلفة، منها ما يتعلق بالأفراد داخل هذا الجسم ومنها ما يتعلق بالمناخ السياسي السائد في الساحة الفلسطينية.
لقد شجعت تطورات الجسم السياسى الفلسطينى على تشكل هذا التيار الثالث. فمن جهة استشرت حالة التفتت داخل الجسم الفتحاوي كما تبينها الاستقالات الجماعية خلال عامي 2004 -2005 وتراجعت شعبيته داخل الشارع الفلسطيني. لقد تكبدت فتح خسائر كبيرة بحكم إدارتها للبلاد في السنوات العشر الماضية وبسبب الفساد المتفشي في مؤسسات السلطة واستفحال مراكز القوى في السلطة وسعيها وراء المصالح الذاتية، مرورا بالانفلات الأمني وغياب القانون والعدالة، وانتهاءً بعدم إنجاز المشروع الوطني. ومن جهة أخرى وصلت حركة حماس إلى نقطة لم تعد تكسب بعدها أرضا جديدة أو إنجازا جديدا يحل مشاكل الناس المتراكمة بفعل فساد السلطة وبفعل القمع والاغتيالات والتدمير المنهجى من قبل الجبروت الإسرائيلي المدعوم أمريكيا على الشعب الفلسطيني. هذا بالإضافة إلى أن حماس غير مرغوب فيها كتيار ديني من شأنه إقلاق دول الجوار، مما أغلق أمامها أفق السعى إلى الفوز بالسلطة وتطبيق برنامجها. كما أن عزوفها عن المشاركة في الانتخابات الرئاسية وعن تدعيم مرشح المعارضة الديمقراطية (مصطفى البرغوثي) كطريقة لتغيير النهج السابق، أظهرها وكأنها تبتعد عن الدفاع عن مصالح الناس والتصدي للإصلاح. فكان موقفها بمثابة تأييد لاستمرار فتح في السلطة.

تشكل التيار الثالث الديمقراطي
برغم محاولات البعض تجاهل التحولات التي حدثت على صعيد الخارطة السياسية الفلسطينية، ظهرت قوة التيار الديمقراطي في تحالف "المبادرة الوطنية" واللجان العمالية المستقلة و"الجبهة الشعبية" والمستقلين في تجربة الانتخابات الرئاسية وما تلاها من انتخابات المرحلة الثانية للمجالس المحلية، إضافة إلى استطلاعات الرأي التي تصدر عن مؤسسات مهنية، والتي أشارت جميعها إلى وجود قوة ثالثة كبيرة على الساحة السياسية الفلسطينية اتسمت بتميز في طرح موقفها السياسي والاجتماعي بعيدا عن الاستقطاب بين خطابى فتح وحماس السائدين. كما ظهرت قبل ذلك في التحالفات الديمقراطية التي نشأت في النقابات المهنية المختلفة. حصلت هذه القوة على قرابة العشرين في المائة من الأصوات في "انتخابات الرئاسة" فى يناير من هذا العام، وعلى عضوية أكثر من عشرين مجلس محلي في الضفة الغربية. والواقع أن استطلاعات الرأي تشير منذ عدة سنوات إلى وجود أغلبية صامتة لا تقل عن 40% - 45% من الناس، ممن ليسوا جزءا من الاستقطاب بين "فتح" و"حماس". ومن الواضح أن الانتخابات الرئاسية قد أثبتت وجود تيار ثالث ديمقراطي قوي ومؤثر استطاع مرشحه الحصول على حوالى 22% من الأصوات الصالحة رسميا، وما يصل إلى 30% من الأصوات، إذا حذفنا الآثار الناجمة عن خرق القانون والتصويت المتكرر الذي جرى في الساعات الثلاث الأخيرة، وتبعثر جزء من الأصوات بين عدد من المرشحين . وترافق مع ذلك بروز حركة كفاحية نشطة وعالية خلال سنوات الانتفاضة الحالية، عملت فى قضايا مقاومة بناء جدار الفصل، والوقوف إلى جانب قطاعات واسعة من أبناء الشعب الفلسطيني، مثل المعلمين، العمال، الأطباء وغيرهم، تعاني نتائج سوء إدارة السلطة الوطنية الفلسطينية لموارد البلد الاقتصادية.
وقد ارتبط البروز القوي لهذا التيار بالإعلان عن تشكيل "المبادرة الوطنية الفلسطينية" وتعزز بتطور مهم وتاريخي بتحالف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مع المبادرة الوطنية واللجان العمالية المستقلة خلال الانتخابات الرئاسية، إضافة إلى الدكتور عبد الستار قاسم الذي سحب ترشيحه للرئاسة لصالح مرشح هذا التيار.
يتشكل هذا التيار من مجموع الفصائل الوطنية الديمقراطية (الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وحزب الشعب والنضال وفدا والمبادرة الوطنية) ومن الهيئات والمؤسسات المجتمعية، بما فيها النقابات ومنظمات المجتمع المدني، ومن الشخصيات العامة الديمقراطية. وكان بروز "المبادرة الوطنية" كمعبر عن هذا التيار قد اكتمل في الانتخابات الرئاسية الماضية ، حيث صيغت الأهداف الرئيسية لهذا التيار منذ عام 2002 وأُعلن عنها في بيان المبادرة في يونيو 2002.
وكان إعلان الجبهة الشعبية عن دعم مرشح الرئاسة مصطفى البرغوثي والتحالف مع المبادرة الوطنية تحولا مهما وإيجابيا فى فكرها وممارستها السياسية، تتوقف أهميته على مدى قدرته على اختصار الطريق لنشوء تيار وطني ديمقراطي واقعى، بحيث تكون ملامحه واضحة ومميزة بالفعل والعمل في الواقع وليس في الخطاب فقط، عن طرفى الاستقطاب. وتكمن أهمية الدعم الذي منحته الجبهة الشعبية لمرشح الرئاسة البرغوثي في نقطتين:
أولا: سد احد النواقص التي كانت تعاني منها حملة مصطفى البرغوثي، وهو البعد التاريخي النضالي وإرث الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير (وشارك فى ذلك أيضا دعم الدكتور حيدر عبد الشافي الزعيم التاريخي المستقل والعضو المؤسس للمنظمة).
ثانيا: ترافق إعلان الجبهة الشعبية لدعم البرغوثي مع إصدار بيان مشترك يحدد معالم برنامج وطني ديمقراطي سيحكم هذا التحالف، يرتكز إلى رؤية سياسية مشتركة ومنهج لقيادة النضال الوطني للشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى رؤية متكاملة للقضايا الاجتماعية والاقتصادية، تهدف إلى إجراء تغيير شامل في نهج إدارة عملية التنمية الاجتماعية بما يحقق حرية وكرامة المواطن ويؤمن استقراره، مما سيساهم في تقوية وتعزيز المجتمع الفلسطيني وقدرته على الصمود في وجه التحديات التي تواجهه.
والواقع أن مبرر وجود تيار ثالث يكمن في قدرته على طرح موقف وطني متماسك، يرفض كلا من طرح الحقوق الأساسية (التي تمثل الحد الأدنى الوطني) للمساومة، والحفاظ عليها كأيقونة مقدسة دون القدرة على تحقيقها بسياسة عملية؛ وطرح موقف ديمقراطي متماسك يطالب بالاحتكام إلى الشعب بصورة دائمة، وليس حسب الحاجة والمصلحة الفئوية، وإلى القانون؛ وباحترام حقوق الإنسان وحرياته العامة والخاصة؛ والمساواة بين المرأة والرجل؛ والعدالة والتقدم والتنمية. والواقع أن الاتجاه الثالث لن يولد فعلا إلا عندما يثبت دعاته أن القضيتين الوطنية والديمقراطية مترابطتين ولا يمكن فصل الواحدة منهما عن الأخرى، وتكون المسافة بينه وبين الاتجاهات الأخرى واضحة، فلا يغازل اتجاها ما على حساب برنامجه، بل يعمل على بلورة نفسه بصورة مستقلة.

البرنامج اليسارى الديمقراطى:
دعت "المبادرة الوطنية" إلى التصدي للضغوط الإسرائيلية والخارجية واستمرار الكفاح الوطني من أجل إنهاء الاحتلال والاستيطان وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية المستقلة على كامل الأراضي المحتلة عام 1967، وحماية حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، والعمل على كسر الحصار الإسرائيلى وإفشاله. كما طالبت بإصلاح جذري حقيقي وشامل يتجنب أنصاف الحلول، ويتم برؤية فلسطينية كفاحية متفائلة بهدف تعزيز الصمود الوطني والوحدة وإعادة الثقة للمواطنين والمناضلين الفلسطينيين وأبناء الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات.
ودعت المبادرة إلى إنشاء قيادة طوارئ وطنية ترسم استراتيجية وتضع أهدافا وطنية مشتركة وتلغي كل ازدواجية في الخطاب السياسي وتحقق الوحدة والالتزام على قاعدة المشاركة الفعلية في صنع القرار، وتعد لانتخابات ديمقراطية حرة ومباشرة وتنفيذ خطة لدعم الصمود الوطني بمساندة الفقراء ودعم العائلات الفقيرة ومكافحة البطالة وتلبية احتياجات التعليم والصحة. كما طالبت بحماية تضحيات الانتفاضة والشعب الفلسطيني الغالية وتحويلها إلى منجزات سياسية.
ونستطيع أن نرصد ما يميز هذا التيار من حيث موقفه المتماسك والواقعي من القضية الوطنية، وضربه المثل في تجسيد الديمقراطية الحقيقية، من خلال استعراض برنامجه. يبدأ البرنامج بالمطالبة بإنشاء قيادة طوارئ وطنية موحدة ترسم استراتيجية وتضع أهدافا وطنية مشتركة يلتزم بها الجميع على قاعدة المشاركة الكاملة في صنع القرار، وتخضع فيها الاعتبارات الفصائلية والتنظيمية والذاتية للمصلحة الوطنية العليا. ويترافق ذلك مع بناء سياسى ديمقراطى يتمثل فى مقرطة مؤسسات منظمة التحرير، بما في ذلك إجراء انتخابات لمجلسها الوطني. أما الشق الثالث فهو المطالب الاجتماعية متمثلة فى تلبية احتياجات الفقراء والمحتاجين، ومساندة الفئات المتضررة، على أن يتم الإصلاح بشكل ديمقراطى، بتعزيز وتوسيع تشكيل اللجان الشعبية الوطنية واللجان القطاعية والمؤتمرات الشعبية لتتولى مهام دعم الإصلاح الحقيقي وتعزيز الصمود الداخلي، وتحقيق المشاركة والرقابة الشعبية في توجيه ومراقبة أموال ومشروعات إعادة الإعمار وتوزيع المساعدات بعدالة كاملة وشفافية مطلقة وتخطيط تنموي سليم.
ومن الناحية الإجرائية يطالب البرنامج بإجراء انتخابات حرة وديمقراطية ونزيهة ودورية لكافة المؤسسات الوطنية، بما في ذلك الرئاسة وبرلمان الدولة الفلسطينية والمجالس البلدية والقروية، على أن تجرى في ظل وجود دولي يضمن نزاهتها ويحول دون أية تدخلات إسرائيلية فيها، بما في ذلك إخراج القوات الإسرائيلية. ويقرر أن الانتخابات الديمقراطية جزء من مقومات بناء الدولة الفلسطينية ويجب التعامل معها كقضية مقاومة كفاحية لفرض الاستقلال الوطني الفلسطيني ليشمل سائر الأراضي المحتلة وفي مقدمتها مدينة القدس الشرقية المحتلة، رابطا بذلك بين الديمقراطية والقضية والوطنية.
وتلى ذلك النقاط التفصيلية التى تم جمعها تحت عناوين رئيسية، أولها: فصل السلطات وتوازن أدوارها واحترام استقلالية الهيئات التشريعية والقضائية في التطبيق الفعلي. بما يحقق الشفافية وإلغاء المحسوبية فى شغل الوظائف ورفع كفاءة المؤسسات لتحقيق خدمة كريمة للمواطن، ومقرطة النظام بتعزيز دور المجالس البلدية والقروية المنتخبة وتحقيق استقلال ميزانيتها، وبصفة خاصة تلبية احتياجات المناطق الأقل تطويرا والأكثر فقرا، وخاصة المناطق المهددة بالاستيطان، وتأكيد دور المواطنين كمرجعية لعمل هذه المجالس. ويتطلب هذا كله إلغاء تعددية الأجهزة الأمنية والحد من سطوتها بمنع قادتها من التدخل في الأمور السياسية والإعلامية وتقييدهم بقرارات القيادة الشرعية المنتخبة، وابتعادهم الكامل عن الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية، مع تحديد موازنة رسمية واضحة لهذه الأجهزة.
والعنوان الثانى هو سيادة القانون واستقلال القضاء وتحقيق الأمن والأمان للمواطنين، الأمر الذى يتطلب إصلاح الجهاز القضائى والقوانين ذاتها، بما فى ذلك إلغاء محاكم أمن الدولة. والثالث هو مكافحة البطالة وتشغيل العمال والعاطلين عن العمل. ويشمل هذا العنوان أيضا إلغاء كافة الاحتكارات الاقتصادية، وتأمين حرية الاستثمار بشكل عادل ومتساوٍ لكافة الفلسطينيين، أى وقف تلاعب النفوذ الإدارى والعسكرى بالنشاط الاقتصادى الحر. أما الرابع فهو تأمين العيش الكريم والصحة والتعليم والضمان الاجتماعي وحماية حقوق المرأة، بإقامة نظام شامل للتأمين الصحى وإقراض طلبة الجامعات وتعزيز التعليم، إلى غير ذلك من المطالب النوعية.
يتناول البرنامج أيضا قضية الإفراج عن الأسرى والسجناء المعتقلين فى سجون الاحتلال وتفعيل دور الجاليات الفلسطينية فى الخارج وتعزيز دور منظمات المجتمع المدني واستقلاليتها ودورها التنموي وتكريس مبادئ الديمقراطية والشفافية في عملها، ومواصلة وتوسيع حملة التضامن الشعبية الدولية مع الشعب الفلسطيني ونضاله العادل.
على هذا النحو يربط البرنامج بوضوح النقاط الوطنية والاجتماعية بإصلاح ديمقراطى عميق للسلطة الفلسطينية، بما يجعل المطلب الديمقراطى بفروعه المختلفة محورا لكل القضايا الأخرى.

مشكلات التيار الثالث وآفاق تجاوزها
برغم النجاح الذى حققه التيار الثالث فى الانتخابات الرئاسية فإنه فشل فى استقطاب أصوات المستقلين فى الانتخابات البلدية، خاصة في مرحلتها الثانية، التي شهدت استقطابا ثنائيا حادا بين حركتي "فتح" و"حماس"، حيث استطاعت هاتان الحركتان بكل الطرق الممكنة ضم القسم الأكبر من المستقلين في قوائمهما بحيث حصلتا على حوالي 90% من المقاعد والأصوات، بينما لم تحصل كافة الفصائل الأخرى والمستقلون وكل ممثلي التيار الثالث سوى على أقل من 10%، الأمر الذى يدفع إلى توقع فشل التيار الثالث فى الحصول على أصوات المستقلين في الانتخابات التشريعية القادمة، والتي تعد التحدي الأهم في الحياة السياسة الفلسطينية. وفيما يتعلق بالمعيقات والتحديات التي تواجه هذا التيار عموما فيمكن إيجازها في عدة نقاط كالتالي :
- يظل مفهوم الأبوية والعصبية راسخا في بنية الأحزاب اليسارية الديمقراطية، فهى نتاج ثقافة مجتمع أبوي عنوانه التعسف، ولا يحمل في طياته النظرة الموضوعية الطبقية. وما زالت قيادة التيار الديمقراطي تعمل ضمن النهج القديم من فئوية وشخصانية ومصلحة خاصة مغيبة البعد الوطني العام.
- عدم ترسخ روح الديمقراطية في داخل الأحزاب اليسارية، وعدم تداول السلطة داخلها.
- محدودية القاعدة وضعف العضوية الحزبية.
أما فيما يخص مشاركة هذا التيار في الانتخابات التشريعية القادمة والتحديات التي يواجهها فيمكن أن نقول إن أهمها هو تفتته بسبب عدم وجود صيغة تنظيمية خلاقة مرنة تتجاوز الصيغ البيروقراطية التي شهدتها الساحة الفلسطينية، وتبتعد عن الهلامية المائعة الموجودة في الأطر التنظيمية التي لدينا، تتفق مع متطلبات المرحلة بشقيها، سواء المتعلق بمهمات التحرر الوطني، أو المتعلق بمهمات البناء الديمقراطي.
فبرغم الاتفاق حول ضرورة وجود تيار ديمقراطي يساري إلا أن الاختلاف بين القوي والشخصيات التي تشكل هذا التيار قد برز منذ انتخابات الرئاسية الماضية وأصبح واضحا للعيان مع البدء بتشكيل قوائم انتخابية في انتخابات المجلس التشريعي القادم، مما حال حتى الآن دون بلورة تيار ديمقراطي ثالث في الحياة السياسية الفلسطينية، يكون في استطاعته أن يكون شريكا في النظام السياسي الفلسطيني ، وقادرا على كسر الثنائية السياسية داخل الحياة الفلسطينية.
نشرت الصحف الفلسطينية منذ أسابيع أخبارا عن لقاءات واجتماعات لقوي متعددة قيل أنها تيار ديمقراطي جديد، وأنها في طور إقامة شكل نهائي لقوي هذا التيار. إلا أن الحديث كان عن تشكيل قوائم لتيارات "ثالثة" للانتخابات التشريعية وليس عن تيار ثالث واحد. لقد أصبح واضحا للعيان أن هناك محاولات تجري لتفكيك التيار الديمقراطي من خلال بعض الأعضاء الجدد عليه، وقد برزت تجليات هذا بوضوح خلال الانتخابات الرئاسية مع وجود أكثر من مرشح للرئاسة يتنافس على موقع الرئاسة، وكان رفض تنازل اثنين منهم لصالح المرشح الأكثر حظا وحضورا بين الجماهير مؤشرا على ذلك، بعد أن أغلقا الطريق والفرصة لإنجاح الحوار وتجاهلا غياب مصلحة التيار الديمقراطي في وجود أكثر من مرشح في هذه المعركة الحاسمة، ومدى انعكاس ذلك على مستقبل استكمال بناء وتطوير التيار الديمقراطي.
هناك جملة من العوامل الذاتية والفردية داخل التيار تحول دون اتفاق أطراف التيار الثالث وتوحيد صفوفه. فالعصبوية التنظيمية والمصالح الخاصة والشخصية والتنظيمية الأنانية، وضيق الأفق، والأوهام والمراهنات التي ستثبت الأيام بطلانها، ما زالت تحول دون استمرار الحوار بين الفصائل وتحقيق الآمال التي عقدها المخلصون من أبناء هذا التيار. وإذا لم يستطع التيار الثالث أن يوحد صفوفه لخوض الانتخابات التشريعية، وخاضت فصائله الانتخابات بصورة منفردة فربما يصاب بضربة قاتلة، حيث سيعجز العديد من فصائله وشخصياته عن تحقيق تمثيل فى المجلس التشريعي القادم أو ستحصل على تمثيل ضعيف، حيث يساعد القانون على إنجاح ممثلي الفصائل الكبيرة، وما تكتله من عائلات وعشائر.
كيف يمكن أن يخرج هذا التيار من أزمته والأزمات اللاحقة لتجنب اندثاره وتفتته، خاصة في الانتخابات التشريعية القادمة؟ ربما يجب التركيز على القضايا التالية:
أولا: على التيار الديمقراطي أن يهتم بصياغة برنامجه السياسي الاجتماعي خاصة قضايا الفقر والبطالة وترسيخ قيم العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والفوضى واعتبار أن سيادة القانون معركة لا تقل أهمية عن مواجهة الاحتلال الإسرائيلي مع ضرورة الحفاظ على الثوابت الوطنية.
ثانيا: أن يتمسك بضرورة التوحد مهما كلف الأمر، بحيث يتجاوز المحاصصة لصالح تقاسم المواقع بطرق ديمقراطية، والاتفاق على آليات وإجراءات واضحة في هذه العملية، وتبنى منهج الشفافية في حملاته الانتخابية .
ثالثا: أن يقدم هذا التيار شخصيات تتسم بالوطنية والأخلاق والقدرة على المساهمة في حياة برلمانية ديمقراطية، وأن يكون الجمهور الفلسطيني على ثقة من أدائها واستعدادها للالتزام ببرنامج ورؤية التيار الوطني الديمقراطي، وامتلاك آليات واضحة لمراقبة ومحاسبة ممثليه داخل البرلمان.
لا شك أن قوة هذه التيار ستتعزز إذا نجح فى ضم كل قوى المعارضة الديمقراطية، كما أن قبول جميع الفصائل الفلسطينية بوقف الأنشطة العسكرية، وإعلان التهدئة وانضواء الحركات الإسلامية في النظام السياسي يفتح الباب على مصراعيه لتطور نمط المقاومة والكفاح الشعبي الجماهيري الذي برزت من خلاله قدرات القوى الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني.






الانسحاب الإسرائيلى من غزة: خطة شارون والفرص الفلسطينية


خالد فهمى

تبدو واقعة وجود أكثر من 3.5 مليون فلسطينى، متمسكين بتمايزهم عن المشروع الصهيونى، وما يسفر عنه ذلك من ضغوط دولية على إسرائيل، التحدى الأساسى أمام هذا المشروع العنصرى. يبين خالد فهمى فى هذا المقال كيف أن إصرار شارون على إتمام الانسحاب من قطاع غزة وجزء من شمال الضفة يمثل حلا مؤقتا لمجابهة هذا التحدى، يبين فى نفس الوقت حدود قدرات الدولة الإسرائيلية، والآفاق الممكنة لتحقيق مزيد من الخطوات نحو استعادة ما يمكن الحصول عليه من الحقوق التاريخية للشعب الفلسطينى.

فاجأ رئيس الوزراء الإسرائيلى، أرييل شارون، العالم أجمع عندما أعلن فى ربيع 2004 عن خطته أحادية الجانب لـ"فك الارتباط" مع قطاع غزة. وقد انتهى المحللون الغربيون إلى أن تحولا مهما قد طرأ على تفكير شارون، حيث اقتنع برؤية منافسيه فى حزب العمل لإمكانية التسوية مع الفلسطينيين وبمبدئهم القائل بضرورة التنازل عن الأرض مقابل السلام. وبالتالى ظهر شارون كمن يمتلك بالفعل رؤية تاريخية لحل هذا الصراع الدامى الذى امتد لما يزيد على قرن من الزمان.
وفى داخل إسرائيل نفسها أحدثت خطة فك الارتباط لغطا كبيرا نظرا لأنها جاءت من رجل عُرف عنه دائما إيمانه بـ"أرض إسرائيل الكبرى" وتبنيه للاستيطان كأهم الوسائل لفرض حقائق جديدة على الواقع استباقا لأية تسوية سياسية مع الفلسطينيين. وسرعان ما تعالت الأصوات من اليمين المتدين ومن غلاة المستوطنين بمقاومة أية محاولة لاقتلاع مستوطنى قطاع غزة من "ديارهم"، وعدم شرعية الخطة حسب قراءاتهم التوراتية، وبالتالى حض جنود الجيش على عصيان أوامر إخلاء المستوطنين بالقوة.
أما على الجانب العربى فقد أحدثت خطة شارون ارتباكا كبيرا فى صفوف الفلسطينيين ولدى الحكومات العربية المعنية وبخاصة المصرية. فخطة شارون هى حسب نصها نفسه خطة "فك ارتباط" أحادية الجانب وليست خطة "انسحاب" مبنية على اتفاق بين جانبين. وبرغم اقتناع الكثيرين بالإخطار المخيفة الكامنة فى الخطة أعلنت السلطة الفلسطينية مرارا أنها ترحب بأى انسحاب إسرائيلى من أية بقعة فلسطينية. ومن ناحيتها سعت مصر لوضع خطة فك الارتباط فى إطار خارطة الطريق التى التزم بها الرئيس الأمريكى جورج بوش، ولكن دون نجاح كما سنوضح لاحقا.
ويحاول هذا المقال التعرف على الملامح العريضة للخطة ووضعها فى سياقها التاريخى وربطها بالأزمات القانونية والأخلاقية والديموجرافية التى تعانى منها إسرائيل، ومن خلال ذلك يحاول أن يبرهن على أن الخطة لا تنبع من تسليم شارون بعدم شرعية الاحتلال وانعدام أخلاقيته، أو حتى اقتناعه بأهمية الانسحاب من الأراضى الفلسطينية المحتلة لتحقيق السلام، بل رغبته فى التخلص من صفة "الاحتلال"، الموصومة بها إسرائيل، عن طريق انسحاب جزئى مشروط، وكذلك وأد محاولة إقامة الدولة الفلسطينية التى يزداد الإجماع الدولى حولها. وأخيرا يحاول المقال أن يقدم اقتراحا بما يمكن للفلسطينيين عمله إزاء هذه الخطة الخبيثة مبنيا على التجربة المصرية فى مقاومة الاحتلال البريطانى.

ملامح الخطة وأهدافها:
فى صدر نص الخطة كما أعلنها مكتب شارون فقرة ملفتة تقول إنه "إذا تم الوصول إلى أية اتفاقية دائمة فى المستقبل لن يكون هناك تواجد إسرائيلى فى قطاع غزة. ولكن [تضيف الفقرة سريعا] من الواضح أن بعض المناطق من يهودا والسامرة [الاسم الذى تطلقه إسرائيل على الضفة الغربية] ستظل جزءا من إسرائيل".
كما تنص مادة أخرى على أن "دولة إسرائيل ستقوم بمراقبة الحدود الخارجية [للقطاع] وستشرف عليه، وسيكون لها، دون غيرها، الحق فى التحكم فى المجال الجوى، كما ستواصل عملياتها العسكرية قبالة ساحل قطاع غزة." وتؤكد الفقرة التالية على أن القطاع سيكون منزوع السلاح كلية. ثم تضيف مادة ثالثة أن "دولة إسرائيل تحتفظ لنفسها بحق الدفاع عن النفس، ويتضمن هذا القيام بإجراءات وقائية بالإضافة إلى استخدام القوة ضد تهديدات نابعة من داخل القطاع". وينطبق نفس الشىء على النذر اليسير من الضفة الغربية التى انسحبت منه إسرائيل (وهو أربع مستوطنات: "جانيم" و"كاديم" و"صا- نور" و"هومش").
وهكذا فإن الخطة أبعد ما تكون عن إعادة السيادة إلى الفلسطينيين على هذه القطعة من أرضهم، ولا تقوم بأى حال على مبدأ السعى لحل سياسى للصراع التاريخي الطويل يقوم على مبادئ العدالة أو القانون الدولى. أما الأهداف التى يبتغيها شارون من وراء تلك الخطة، ومواطن الخطر فيها، فهى إنهاء صفة الاحتلال، وشراء الوقت، والأخطر وأد مشروع الدولة الفلسطينية:


(1) إنهاء صفة الاحتلال
من أهم دوافع الخطة محاولة تخفيف الضغط الأخلاقى الذى تتعرض له إسرائيل مؤخراً والذى يصورها كدولة محتلة. وهذا عامل مهم، وإن كان ليس أهم العوامل؛ فإسرائيل شديدة الاهتمام بصورتها الدولية، وحريصة على إسباغ الشرعية على أفعالها. وبرغم أن هذا الضغط ليس جديدا، إذ تحثها مختلف القرارات الدولية على التخلى عن الأراضى المحتلة منذ حرب 1967، فإن وتيرته زادت بشكل كبير مؤخرا فى المحافل الدولية وفى الدوائر الليبرالية الغربية (مثل الجامعات والمراكز البحثية والصحف اليسارية). وجاءت فتوى محكمة العدل الدولية بخصوص الجدار الذى تقيمه إسرائيل على الأراضى الفلسطينية التى صدرت فى الصيف الماضى (4 يوليو 2004) لتعيد التأكيد على صفة الاحتلال وعلى عدم مشروعية بناء الجدار من وجهة نظر القانون الدولى.
وبالرغم من أن الكثير من المراقبين والمحللين الإسرائيليين كانوا قد توقعوا ألا يكون رأى المحكمة الاستشارى مؤيدا لهم، إلا أن صيغة هذا الرأى ولغته وحيثياته القانونية المسهبة، إضافة إلى تطرقه إلى نقاط لا ترتبط بالجدار مباشرة (مثل التأكيد على حق تقرير المصير للفلسطينيين) - كل ذلك أجبرهم على إدراك حرج موقفهم الأخلاقى والقانونى فى المحافل الدولية، وأن ركوبهم لموجة "الحرب على الإرهاب" التى توجهها الولايات المتحدة، وإن كان قد ساعدهم فى قمع الفلسطينيين، فإنه لا يكفى لإلغاء وضعهم كدولة محتلة.
وبخصوص قطاع غزة فقد ازدادت فى الآونة الأخيرة مطالبة إسرائيل إما بالانسحاب من القطاع (ومن سائر الأراضى العربية المحتلة في حرب 1967) أو بتطبيق اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بالأراضى المحتلة وبالتزامات دولة الاحتلال تجاه الشعب الواقع تحت الاحتلال، الأمر الذى نجحت إسرائيل فى تحاشيه حتى الآن. ومن هنا جاء فى نص الخطة أنه بعد تنفيذها "لن يكون هناك أي أساس للادعاء بأن القطاع أرض محتلة". وسعت إسرائيل منذ إعلان الخطة للترويج لأنها تعفيها من مسؤوليتها كدولة احتلال، وتنقل تلك المسؤولية إلى السلطة الفلسطينية أو المجتمع الدولى.
غير أن هناك مشكلتين أساسيتين فى هذا الزعم. فقطاع غزة والضفة الغربية يشكلان فى نظر القانون الدولى وحدة ترابية واحدة، وقد قبلت إسرائيل بذلك بتوقيعها على اتفاقية أوسلو، وبالتالى لن يزيل الانسحاب من جزء واحد فقط من هذه الوحدة الترابية صفة الاحتلال قانوناً. ولكن حتى بالنسبة للقطاع ذاته، فإن القانون الدولى قد حدد (فى اتفاقية لاهاى لعام 1910) مفهوم الاحتلال قائلا أن "العبرة فى الحكم بزوال الاحتلال ليس توقف سلطة الاحتلال عن ممارسة سيطرتها على المنطقة وإنما قدرتها على فرض هذه السيطرة". وبالتالى فإن احتفاظ إسرائيل بحقها فى مراقبة الحدود الخارجية [للقطاع] والإشراف عليه والتحكم فى المجال الجوى، الخ ما مر بنا، يبقى على صفة الاحتلال فى عرف القانون الدولى.
ومما يثير الدهشة حقا غياب الجهود العربية الداعمة للفلسطينيين فى هذا المجال الحقوقى والقانونى، الذى هو من أقوى الأوراق فى أيدى الفلسطينيين والعرب عموما فى المحافل الدولية وفى المفاوضات الثنائية مع إسرائيل، إضافة إلى أهميته فى التواصل مع الرأى العام الغربى. فلم تسع الحكومة المصرية مثلاً إلى التأكيد على أن صفة الاحتلال سوف تظل لصيقة بإسرائيل حتى بعد تنفيذها لبنود الخطة.
وبشكل عام يلاحظ فى الفترة الأخيرة انتقال الملف الفلسطينى من الخارجية المصرية إلى جهاز المخابرات بشكل كامل، سواء فيما يتعلق بما يسمى "التنسيق بين الفصائل الفلسطينية" أو مسألة مراقبة الحدود المشتركة. وهو الأمر الذى اعترف به وزير الخارجية، أحمد أبو الغيط، فى حديث له مع جريدة الحياة اللندنية فى 16 يوليو 2005. وفحوى تسليم للملف للمخابرات تغلب الرؤية الأمنية القائمة على التخوف من ظهور دولة "حماسية" على الحدود الشرقية لمصر، على حساب أية معايير أخرى بما فيها القانون الدولى، ناهيك عن الحقوق التاريخية المشروعة للشعب الفلسطينى.

(2) شراء الوقت:
الهدف الثانى من أهداف شارون هو محاولة حل المشكلة الديموجرافية التى باتت تهدد المشروع الصهيونى برمته. فكما هو معروف تقوم الصهيونية على مقولة أساسية وجوهرية وهى حق اليهود الأبدى والأزلى فى "أرض إسرائيل"، ذلك الحق الذى لا يمكن أن يوصف إلا بأنه حق عنصرى. وإزاء حقيقة وجود شعب آخر يعود تاريخ وجوده على نفس تلك البقعة إلى مئات السنين فقد حاولت الصهيونية التشكيك فى وجود هذا الشعب بتصويره كمجرد أفراد وجماعات "لاجئة"، يتحمل العرب، لا إسرائيل، مسؤولية توطنيهم، أو القول بأنه شعب ليس له حق تاريخى فى فلسطين. وساند هذه المقولات أكاديميون أمريكيون وبريطانيون وغيرهم. ولكن تصدى لهم باحثون آخرون، منهم الباحث اليهودى نورمان فينكلستين، أثبتوا تلفيق مزاعمهم.
على أن أنجح محاولة صهيونية فى التعامل مع معضلة وجود شعب فلسطينى هو الاعتراف بوجود أشخاص غير يهود على أرض إسرائيل، لهم بعض الحقوق المدنية والسياسية، ولكنهم محرومون من حقوق أخرى بحكم أنهم ليسوا يهودا، وفقا للإيديولوجيا الصهيونية المؤسسة للدولة، التى لا تقوم على حق المواطنة مثل القوميات الليبرالية الغربية.
وقد جاءت الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية لتوضح للإسرائيليين مدى صعوبة نفى وجود شعب بأكمله. فبرغم نجاح المشروع الصهيونى فى القرن الماضى فى خطته الاستيطانية وتشريد جزء لا يستهان به من الشعب الفلسطينى، تبقى داخل حدود إسرائيل عند إقامتها عام 1948 نحو ثمانون ألفا من الفلسطينيين بلغ عدهم الآن حوالى المليون. وبعد حرب 1967 أضيف لهم فلسطينيو الضفة والقطاع ويبلغ عددهم الآن حوالى ثلاثة ملايين.
وبحسبة سريعة تأخذ فى الاعتبار ارتفاع نسبة الزيادة السكانية لدى الفلسطينيين مقارنة بالإسرائيليين اليهود نستطيع أن ندرك مدى القلق الذى يشكله هؤلاء "الأغيار" على الهوية اليهودية لإسرائيل وعلى المشروع الصهيونى ككل. إذ يمكن الجزم بأن غير اليهود سيشكلون أغلبية السكان فى إسرائيل بحلول عام 2020. وحتى وقت قريب كان هناك حلين اثنين لتلك المعضلة، يتمثل الأول فى إدماج فلسطينيي الضفة والقطاع داخل إسرائيل ومعاملتهم كأمثالهم من فلسطينيي الداخل، أي أن يصبحوا مواطنين إسرائيليين لا يتمتعون بنفس الحقوق التى يتمتع بها اليهود ولكن يتمتعون بحق الانتخاب والترشيح، الأمر الذى يطرح إمكانية وصولهم للحكم عن طريق صناديق الاقتراع ليضعوا نهاية ليهودية الدولة. أما الحل الثانى فهو إنهاء احتلال الضفة والقطاع وإعطاء الفلسطينيين حقوقهم (منقوصة بالطبع). على أن هذا الحل يستلزم مفاوضات جادة مع الفلسطينيين والتنازل عن معظم الأراضى المحتلة عام 1967، وهو الحد الأدنى الذى يستطيع أى زعيم فلسطينى أن يقبل به وأن يسوغه لشعبه.
هنا تتمثل عبقرية شارون فى التكتيك فى طرحه لخطة فك الارتباط، فالخطة فى فحواها محاولة للتخلص من 1.3 مليون فلسطينى يسكنون القطاع. وقد قصد شارون بذلك أولا تجزئة القضية الفلسطينية، بأن يعزل ثلث الفلسطينيين عن إخوانهم فى الضفة والقدس (هذا إضافة إلى عدم اكتراثه أساسا بالملايين التى تعيش فى المنفى وكثير منهم متمسكون بحق العودة). وهو، ثانيا، يحقق ذلك بالتخلى عن 1% فقط من مساحة فلسطين التاريخية. وهو، ثالثا، يحتفظ لنفسه أيضا بحق التدخل فى القطاع وقتما يريد. ورابعاً وهو الأهم، يؤخر اللحظة التى يتمكن فيها الفلسطينيون من تشكيل أغلبية سكانية مدة نصف قرن.
وبطرحه لهذه الخطة يكون شارون قد أدرك أخيرا منطق شيمون بيريز فيما كان يقوم به منذ عشرين عاما. وقد طور شارون مفهوم بيريز القائم على مبدأ "الأرض مقابل الأمن" إلى "الأرض مقابل الوقت"، هذا علما بأنه يحتفظ لنفسه بحق إعادة الاستيلاء على تلك الأرض كما بينّا.

(3) وأد مشروع الدولة الفلسطينية:
أما ما يمكن أن يعتبر ثالث أهداف شارون وأخطرها، فهو قتل إمكانية قيام دولة فلسطينية. ومن المثير للسخرية أن الخطة نفسها توضح ذلك صراحة كما بينّا، أى النص على ضرورة الاحتفاظ بأجزاء من الضفة الغربية.
وقد يكون من نافلة القول التذكير بأن أعداد المستوطنات فى ازدياد مضطرد منذ بداية ما يسمى بـ"عملية السلام" فى أوائل التسعينيات من القرن الماضى. وحسب آخر إحصاء بلغ عدد المستوطنين حوالى 364 ألف مستوطن (بما فى ذلك مستوطنى القدس الشرقية) يقطنون 474 مستوطنة تقطع أوصال الأراضى الفلسطينية وتحول الضفة إلى مجموعة من الـ"بانتوستانات" الشبيهة بتلك التى عُزل فيها السود على أيدى نظام الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا، بما يحول دون إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على الضفة الغربية.
وقد أجمع المجتمع الدولى على عدم شرعية المستوطنات، وأكدت الولايات المتحدة نفسها والإدارات الأمريكية المتعاقبة على أن هذه المستوطنات هى العقبة الكئود ضد قيام دولة فلسطينية مستقلة وتحقيق حل الدولتين. ولا شك أن شارون قد أزعجه تبنى الرئيس بوش لرؤية الحل القائم على دولتين وخارطة الطريق. ولذلك سعى جاهدا حتى يفرغ هذا التعهد من أى محتوى. وأثناء زيارته لواشنطن فى إبريل 2004 قدم شارون لبوش خطته لـ"فك الارتباط عن غزة" فى مقابل توقيع بوش على خطاب ضمانات كان قد صاغ مسودته دوف فايسجلاس، مدير مكتب شارون وصديقه الحميم، يعترف فيه الرئيس الأمريكى بأن من حق إسرائيل الاحتفاظ بـ"تجمعات سكانية" فى الضفة، فى تحول حاد عن الخط الذى انتهجته كافة الإدارات الأمريكية السابقة. وبذلك فاز شارون مقابل خطة فك الارتباط تلك بتعهد أمريكى بإسباغ الشرعية على المستوطنات، فأفرغ تعهد الرئيس بوش بإنشاء دولة فلسطينية من أى محتوى.
ومرة أخرى لا يحتاج المرء أن يبذل مجهودا كبيراً للتأكد من أن منع قيام الدولة الفلسطينية هو الدافع الرئيسى من وراء خطة شارون، فقد أعلن عن ذلك صراحة فايسجلاس فى حديث أدلى به لصحيفة هآرتس فى 8 أكتوبر 2004. حيث أوضح أن الهدف من خطة فك الارتباط تجميد عملية السلام والتخلى عن خارطة الطريق: "عملياً، لقد محونا تماماً أية إشارة لما يسمى بالدولة الفلسطينية من أجندتنا... وقد تمكنا من القيام بذلك بمباركة الرئيس الأمريكى وتصديق الكونجرس بمجلسيه". فـ"العملية السياسية، كما تعلم، ... تعنى إنشاء دولة فلسطينية مع كل المخاطر الأمنية المترتبة عليها. العملية السياسية معناها إخلاء المستوطنات وعودة اللاجئين واقتسام القدس. كل ذلك تم تجميده الآن".
ولكن العجيب هو ذلك الصمت المطبق الذى استُقبلت به تلك التصريحات فى مصر، فلم يكلف وزير الخارجية المصرى نفسه عناء استدعاء السفير الإسرائيلى والاستفسار منه عن موقف بلاده من العملية السلمية التى ترعاها مصر بقوة ويدعمها جهاز المخابرات المصرية. وكل ما طالعتنا به الصحف المصرية هو خبر صغير يقول أن "الولايات المتحدة رفضت التصريحات الإسرائيلية الخاصة بتجميد عملية السلام... [وأنها] طلبت من تل أبيب تقديم إيضاحات حول ما أعلنه دوف فايسجلاس...".
بدلا من ذلك قررت الدولة المصرية تقديم العون لشارون حتى يمرر خطته. فقد أعلنت مصر عن إعادة سفيرها لإسرائيل الذى كانت قد سحبته بعد اندلاع الانتفاضة الثانية. وقامت أخيرا بتوقيع إتفاقية لتوريد الغاز الطبيعى لإسرائيل على مدار العقود القليلة القادمة. كما أعلن الرئيس مبارك عن عزمه لزيارة إسرائيل فى نهاية العام الحالى بعد فوزه المتوقع فى إنتخابات الرئاسة (وكل ما طالب به مبارك فى المقابل، حسب ما أعلنه مراسل صحيفة يديعوت أحرونوت الذى أجرى المقابلة، ألا يلتهم شارون خرفان مزرعته وحده وأن يترك له جانبا منها). والأدهى من ذلك، وعدت مصر أن تقدم المساعدة للإسرائيليين فى إحكام الطوق حول فلسطينيي القطاع. فقد نصت خطة شارون بوضوح على أن إسرائيل تأمل فى أن تعاونها قوات الأمن المصرية فى إحكام السيطرة على ممر صلاح الدين الضيق (الذى تطلق عليه إسرائيل ممر فيلادلفى) الذى يفصل القطاع عن الأراضى المصرية. وبالفعل أبرم عمر سليمان، رئيس المخابرات العامة، اتفاقاً تقوم مصر بموجبه بنشر قوة من 750 فردا على طول ممر صلاح الدين.
أما الخارجية المصرية فقد حاولت أن تؤكد أن فك الارتباط ليس سوى مرحلة من المراحل التى أعلن عنها الرئيس بوش فى خطته المعروفة بخارطة الطريق، ولكنها فشلت فى ذلك. وأثبت شارون أنه قادر على تجاهل هذه الأصوات المصرية الخافتة. صحيح أنه يحتاج لتعاون قوات الأمن المصرية (وليس الجيش)، إلا أنه لم يضطر لأن يقدم للمصريين أى شيء مقابل ذلك، نظرا لأنهم متوجسون أصلا من استئثار حماس بالسيطرة الفعلية على القطاع وتحويله إلى دويلة يحكموها بالفعل بعد الانسحاب الإسرائيلى، الأمر الذى يزعج الدولة المصرية بشدة نظرا لتأثيره المحتمل على جماعات الإسلام السياسى فى مصر وعلى رأسها الإخوان. وبمعنى آخر فقد تعاملت الدولة المصرية مع خطة شارون بمنظور ضيق للغاية، مضحية بالمصالح الفلسطينية نظير تحقيق قدر ضئيل من مصالح النظام المصرى، وليس حتى المصالح القومية المصرية أو دفاعا عن الأمن القومى المصرى.

الخلاصة:
لا شك فى أن شارون يأمل بتمريره لخطة فك الارتباط عن قطاع غزة أن يحقق عدة أشياء، منها إعادة امتلاك زمام المبادرة فى التعامل مع الفلسطينيين، والنجاح فى التخلص من الضغط الأمريكى والدولى الهائل الذى مثلته خطة "خارطة الطريق"، فكما بين فايسجلاس: "ستصبح أنظار العالم كله منصبة على الفلسطينيين وليس علينا. والعالم كله يتساءل عما ينوون عمله فى تلك الشريحة من الأرض". وهو، ثالثا، يأمل فى إقناع الأمريكان بأن هناك بديلا عن الضفة الشرقية لنهر الأردن، أى البديل الأردنى الذى ظل يدعى لسنوات عدة أنه الوطن القومى للفلسطينيين، حتى جاءت الاتفاقية الإسرائيلية الأردنية لتقوضه. هكذا يتمنى شارون أن يحول غزة إلى وطن دائم للفلسطينيين إضافة إلى جزء صغير من الضفة على أن تكون السيادة فيهما لإسرائيل.
وبالتالى يتمثل التحدى الرئيسى الذى يواجهه الفلسطينيون فى هذه اللحظة المحورية من نزاعهم مع الصهيونية فى كيفية إجبار إسرائيل على ألا يكون هذا آخر انسحاب تقوم به إسرائيل كما يأمل شارون. ويمكن للفلسطينيين أن يستلهموا التجربة المصرية ليس فى التعامل مع إسرائيل ولكن فى التعامل مع الاحتلال البريطانى. فحين واجهت بريطانيا بعد احتلالها لمصر مقاومة شعبية متنامية أدت إلى ثورة عارمة عام 1919 اضطرت فى النهاية إلى إعادة النظر فى طبيعة سيطرتها على مصر. ونظرا لأنها لم تكن مستعدة إلى إنهاء الاحتلال بشكل كامل وغير منقوص، فقد قامت بخطوة أحادية الجانب أعطت مصر بموجبها استقلالا منقوصا (تصريح 28 فبراير 1922). صحيح أن مصر قد قبلت بهذا التصريح وأنها تحولت إلى دولة ذات سيادة يحكمها نظام ملكى برلمانى إلا أن القوى الوطنية المصرية قد قبلت بهذا التصريح كحد أدنى وليس كحد أقصى وعملت جاهدة على تعديله. وفى مواجهة المقاومة الشعبية المتواصلة أُجبرت بريطانيا على توقيع إتفاقية 1936 وفى النهاية اضطرت فى عام 1954إلى توقيع اتفاق بالجلاء عن مصر نهائيا.
وبالمثل على الفلسطينيين أن يقبلوا الانسحاب من غزة ليس كنهاية لصراعهم مع الصهيونية كما يأمل شارون بل كخطوة هامة من هذا الصراع. وبمعنى آخر يمكن للفلسطينيين من أن يستفيدوا من إزدياد اقتناع المجمتع الدولى بعدالة قضيتهم لكى يواصلوا الضغط على إسرائيل حتى تقوم بإحدى خطوتين: إما إدماج كافة الفلسطينيين كمواطنين فى دولة واحدة يتساوون فى الحقوق والواجبات مع مواطنيهم اليهود، أو أن تنسحب من الضفة الغربية وليس فقط من قطاع غزة حتى يتسنى للفلسطينيين أن يقيموا دولة مستقلة كاملة السيادة قادرة على البقاء والازدهار، وأن يكون هذا الانسحاب بناء على مفاوضات تقوم على مبادئ القانون الدولى. إن محاولة شارون الالتفاف حول هذين البديلين بطرحه لخطة "فك الارتباط" يجب أن ينظر إليها ليس كدليل على إعادة إمتلاك زمام المبادرة أو كدليل على تحول جذرى فى فكره الاستراتيجى بل على أنها محاولة يائسة منه لإنقاذ المشروع الصهيونى برمته.
فالمشروع الصهيونى كمشروع استيطانى قد يكون قد نجح فى الادعاء بأنه قد وجد حلا للمشكلة اليهودية فى أوربا الشرقية، لكنه أوجد مشكلة أخرى، هى المشكلة الفلسطينية، فشل فشلا ذريعا فى التعامل معها. فمنذ اللحظة التى ادعت فيها الصهيونية أن الشعب الفلسطينى لا وجود له إلى اللحظة التى اضطرت فيها إلى الاعتراف بوجود هذا الشعب، بل وبما يشكله من خطر ديموجرافى على يهودية الدولة العبرية، ومواجهة إجماع العالم على أن له حقوقا سياسية... بين هاتين اللحظتين يمكن مشاهدة مدى التراجع الذى شهدته الصهيونية. فحتى على الصعيد العسكرى أدركت إسرائيل أنها برغم تفوقها النوعى على كل الجيوش العربية فى كل المواجهات العسكرية، فإنها لا تستطيع أن تستخدم آلتها العسكرية الجبارة فى فرض حل سياسى على الفلسطينيين. ويمكن هنا أن نرى فى انتصار إسرائيل فى حرب 1967 أوج انتصاراتها وتوسعها، ولكن يمكن أيضا أن نرى أنها فى تراجع مستمر منذ تلك اللحظة؛ فقد اضطرت إلى التنازل عن سيناء لمصر عام 1979 مقابل ضمان خروج مصر من النزاع المسلح، ثم اضطرت إلى الانسحاب من الجنوب اللبنانى دون أن تتمكن من توقيع معاهدة سلام مع بيروت أو دمشق، وأثناء مفاوضات كامب ديفيد الفاشلة فى عام 2000 تطرقت المفاوضات إلى وضع مدينة القدس التى كانت إسرائيل تعتبره خطا أحمر لا يجب حتى مناقشته، وهى أُجبرت الآن أن تتعدى خطا أحمر آخر وهو تفكيك المستوطنات وكسر الحاجز النفسى لدى الشعب الإسرائيلى الذى منعه من أن يفكر أصلا فى هذه الخطوة كخطوة ضرورية نظير أى تسوية سياسية، وهى، أخيرا، تضطر الآن إلى الانسحاب من قطاع غزة على أمل أن يكون ذلك هو آخر الانسحابات. ويجب على الفلسطينيين وعلى كل القوى المحبة للعدل والسلام فى العالم والمقتنعين بعدالة قضيتهم أن يعملوا ليس على مساعدة الصهيونية فى التخلص من أزمتها الوجودية بتقديم الدعم الدبلوماسى واللوجستى لخطة شارون بل على ألا يكون الانسحاب من غزة وتفكيك المستوطنات فيها هو آخر الانسحابات، ولكن مجرد انسحاب واحد من سلسة طويلة من الانسحابات التى بدأت قبل ربع قرن والتى ستنتهى حتما بأفول الصهيونية، تلك العقيدة القومية المتطرفة التى تنتمى إلى القرن التاسع عشر بقومياته البغيضة، لا إلى القرن الحادى والعشرين.





إيران... معركة السياسة في ساحات القضاء؟


ريم وسيم


في إيران يخوض بعض المحامين معركة مع السلطة تدور أحداثها في ساحات القضاء ومؤسساته، ومحورها هو الدفاع عن حقوق وحريات المواطنين في مواجهة تعسف الجهاز التنفيذي. و حتى إذا لم يسفر نشاط المحامين السياسي عن نتائج ملموسة تكشف عن تحول ديمقراطي في إيران - مثل ترسيخ استقلالية و حياد القضاء أو تعديل التشريعات في صالح تأمين الحقوق و الحريات- فإن ثمة نجاح أحرزته الحركة الحقوقية قانونية الطابع يتجلى في اختراق مفرداتها الحقوقية لخطاب السلطة، التي أصبحت تتحدث هي أيضاً بلغة الحقوق وليس فقط بلغة الدفاع عن الأمة ضد الامبريالية. ريم وسيم تكتب من طهران.

كان انتخاب محمد خاتمي للرئاسة في مايو 1997 مؤشرا هاماً على تحولات تجري في المجتمع الإيراني، ولعبت فترة حكمه دوراً في ترسيخ تلك التحولات. وبرغم خيبة أمل الكثير من منتخبيه من شباب ونساء ومثقفين، لا يجدر بنا تجاهل التحولات البنيوية التي طرأت على الدولة في إيران خلال السنوات الثمانية السابقة. ويسعى هذا المقال لقراءة التحولات -مؤسسية كانت أو خطابية- في قواعد ومحتوى التفاوض السياسي المستمر بهدف تحديد العلاقة بين الدولة والمجتمع في إيران. ويهمنا تحديداً انتقال الصراع السياسي -المتمثل في ضغوط المجتمع المدني من أجل المزيد من المشاركة والحريات من جهة ومحاولات المحافظين والفئة الحاكمة للسيطرة عليها واحتوائها من جهة أخرى- إلى قاعات المحاكم، وإلى تصريحات وانتقادات يتبادلها المحامون والقضاة والمسئولون داخل الجهاز القضائي، وإمكانية أن يترتب على ذلك نشوء دولة القانونEtat de droit في إيران.

انحسار العناصر الإصلاحية في جهاز الدولة لا يعني تراجع المشروع الإصلاحي
وفي حين يعلو صدى المتفائلين بعملية التحول الديموقراطي في إيران يأتي انتصار محمود أحمدي نجاد الأخير في الانتخابات الرئاسية مفاجئة ودعماً لتبشير المتشائمين بقصر عمر وسرعة تهاوي الحركة الإصلاحية في إيران. فليس من هو أجدر من نجاد في تجسيد جيل المحافظين الجديد الذي نشأ في أحضان مؤسسات الثورة العسكرية ذات الأيديولوجية الإسلامية المحافظة. ولا يستعصي على المحللين فهم هذا الانتصار للمرشح المحافظ -بعد أن كانت أجندة خاتمي الإصلاحية الأكثر شعبية في الانتخابات السابقة في 1997 و2001- حيث بات اسم رفسنجاني مقترنا بالطبقة البازارية شديدة الثراء وبتفشي الفساد في الفئة الحاكمة، وفي الوقت ذاته لعب أحمدي نجاد على الوتر الأكثر رنيناً بالنسبة لضحايا البطالة وارتفاع الأسعار بالتركيز على أحد أهم شعارات الثورة وهي العدالة الاجتماعية. ففي الوقت الذي زادت فيه أسعرا البترول وبالتي عائداته، فقد تدهور مستوى المعيشة لدى أبناء الطبقة الوسطى وانتشرت البطالة بينهم. ويأتي تركيز حملة نجاد على إعادة توزيع عوائد البترول ومحاربة الفساد في الوقت الذي بات الإصلاح الاقتصادي أكثر ضرورة وإلحاحا من الإصلاح السياسي في نظر الكثير من الشباب. و من ناحية أخرى جاء انتصار نجاد في الانتخابات مؤشرا على ضجر الإصلاحيين من مفارقة التصفية المسبّقة للمرشحين و عزوفهم عن هذا النوع من المشاركة السياسية باعتباره لا يعدو عن كونه ديموقراطية شكلية.
والصفحة الجديدة التي يفتحها نجاد كرئيس للجمهورية الإسلامية تعبر عن استمرار تقلص العناصر الإصلاحية في مؤسسات الدولة. فقد بدأ هذا الانحسار بأحداث الانتخابات البرلمانية لعام 2004، حيث تسبب استبعاد "مجلس صيانة الشريعة والدستور" لمعظم المرشحين الإصلاحيين في مقاطعة الإصلاحيين للانتخاب. أدى ذلك إلى غلبة المحافظين في عضوية البرلمان السابع -بمعدل مشاركة في الانتخابات لا يزيد عن 50%- بعد أن اتسم البرلمان السادس بهيمنة الاتجاه الإصلاحي. وحتى الجهود التشريعية الإصلاحية لأعضاء البرلمان السادس فقد حال دون التصديق عليها تعنت وتكرر اعتراض "مجلس صيانة الشريعة والدستور" وانحياز "مجمع تشخيص مصلحة النظام" للأخير. ومن ناحية أخرى ظلت الأحزاب المعارضة عرضة لهجمات الميليشيات شبه النظامية، وأدى قمعها المستمر واستبعاد مرشحيها من قوائم الانتخابات الرئاسية و التشريعية والزج بممثليها وأعضائها إلى السجون إلى عدم صلاحية الأحزاب كشكل مؤسسي لتداول السلطة ولتمثيل المعارضة. وفي ضوء ذلك التراجع في تواجد الإصلاحيين في مؤسسات الدولة التشريعية -بجانب عدم قدرة الأحزاب على القيام بدورها المؤسسي المشروع- لم يتبقى للإصلاحيين إلا اللجوء للمأوى الأخير: القضاء. فصحيح أن العناصر الإصلاحية في مؤسسات الدولة في حالة تراجع ولكن اقترن هذا الانحسار بمزيد من النشاط السياسي على صعيد آخر و هو ساحة الصراع القانوني.

القضاء في صالح من؟
والواقع أن التحالف المحافظ الحاكم الذي يضم فئة البرجوازية التجارية البازارية والمؤسسة الدينية كان قد لجأ أيضاً إلى استخدام الجهاز القضائي في محاولة لاحتواء الحركات الإصلاحية بعد حصول الإصلاحيين علي غالبية الأصوات في الانتخابات التشريعية لعام 2000. ترتب على ذلك سياسة السيطرة الكلية على مؤسسات المهنة القانونية، بدءً من التعيين الانتقائي لقضاة موالين للنظام وخاصةً في المحاكم المختصة بالملفات السياسية مثل المحاكم الثورية -التي نشأت أساساً مع الثورة كمؤسسة مؤقتة لتطهير عناصر النظام القديم- إلى محاولات شتى للسيطرة على أجهزة تدريب وتأهيل المحاميين، حتى وصل الأمر بمنح الجهاز القضائي (وفقاً لقانون الميزانية لعام 1999) حق إعطاء رخص محاماة لأفراد لا يستوفون شروط التأهيل الخاصة بنقابة المحاميين، بحجة ضرورة خلق وظائف جديدة والسماح للمتعثرين بتوكيل محامي أقل أجرا.
ومن المعروف في أوساط المحاميين أن المحكمة الثورية رقم 26 تتناول القضايا السياسية الشائكة، فدائماً ما يرأسها قاضي ذو تاريخ طويل في العمل لحساب التحالف الحاكم. هذا دون أن تصنف تلك الملفات بسياسية، وذلك لتجنب أي تشريع يسعى لتعريف قانوني للجريمة السياسية. ويأتي رفض "مجلس صيانة الشريعة و الدستور" -الذي له حق النقض على تشريعات "مجلس الشورى الإسلامي" (البرلمان) حتى وإن حصلت على تصويت الأغلبية- لمشروع قانون لتعريف الجريمة السياسية قدمه نواب إصلاحيين في نوفمبر 2001 ليكرس سيطرة المحافظين على القضاء واتخاذهم له كأداة لقمع المعارضين. ومن المثير للاهتمام والسخرية أيضاً اللجوء المستمر لرئيس القضاء محمود هاشمي شهرودي لعلة قانونية بحتة في الرد على المنددين بالاعتقالات السياسية -ورغبةً في تبرير القضاء من تهمة عدم الاستقلالية- وهى انه لا يوجد بإيران معتقلون سياسيون لأنه ليس هناك تعريف قانوني للجريمة السياسية! وبالفعل تتراوح الاتهامات التي تزج في السجن بكثير من المعارضين والمفكرين والصحفيين والنشطاء في مجال حقوق الإنسان بين تعاطي المخدرات والزنى والفساد ونشر الأكاذيب والإخلال بالأمن القومي والتجسس لصالح جهة خارجية.
وفي رأينا أن هذا المنحى القضائي التي تأخذه لعبة التفاوض على حدود الدولة والمجتمع المدني- ونعني هنا تحويل الخطاب الحقوقي والمناورات السياسية بين السلطة والمعارضة لخطاب قانوني يكاد يكون تقني الطابع- جاء كنتيجة للجوء المعارضة لمبادئ الدستورية وسيادة القانون وخيار خوض المعركة السياسية على الساحة القضائية عن طريق رفع الدعاوى على أشخاص بعينهم في الجهاز التنفيذي بدلاً من خيار انتقاد سياسة النظام وعسكريته ككل. وقبل أن نشرع في تحليل عوامل ونتائج وآفاق هذا اللجوء للمعيار القانوني يجدر بنا سرد بعض الأحداث الرئيسية التي تعبر بوضوح عن هذا المنحى القضائي.

سياسة المحامين في معركة سيادة القانون
يمثل المحامون في إيران فئة شديدة التسيّس حتى أن حوادث القبض المتتالية على من يعمل منهم بالملفات السياسية باتت أمر معتاد. ومن الدلالات على أهمية النشاط السياسي للمحاميين في إيران، حصول المحامية شيرين عبادي (كانت قاضية حتى منعت حكومة الثورة تولي النساء منصب القاضي) على جائزة نوبل للسلام في أكتوبر 2003 لنشاطها في مجال حقوق الإنسان، و هي صاحبة الكثير من الأبحاث والمقالات التي تنتقد العديد من التشريعات الإيرانية باللجوء إلى حجج دستورية وبنفي نسب تلك البنود القانونية للشريعة الإسلامية. ولم تفلت عبادي من سلسلة اعتقالات المحاميين -التي تكاثرت بإدراك رجال النظام لخطورة تسيّس المحاميين ولجوئهم للقضاء لتسوية النزاعات السياسية- فتم القبض عليها في الوقت الذي كانت تدافع فيه عن طلاب أحداث 1999 وهي الفترة التي شهدت تظاهرات طلابية ضد قمع الصحافة، ردت عليها قوات "أنصار حزب الله" (قوات شبه نظامية) بهجمة شرسة علي المساكن الجامعية مما أسفر عن موت أربعة طلاب وإصابة كثيرين وحرق وتدمير بعض غرف الطلبة. ورُفعت الدعاوي ضد الطلبة الذين شاركوا في المظاهرات في حين لم يحاكَم منظمي ومنفذي الهجمات. فمثلاً حُكم على الطالب أحمد باطبي بالإعدام، ثم تم تخفيف العقوبة لخمسة عشر عاماً من الحبس بسبب صورة نشرتها الصحيفة الإنجليزية The Economist لتظاهرات الطلبة كان فيها يرفع قميص زميله الملطخ بالدم، وكانت تهمته "الاخلال بالأمن القومي". كما تم القبض على حوالي 400 طالب باتهامات مختلفة لا تقل عبثاً. وفي أثناء العمل على ملف الطلاب تلقت شيرين عبادي زيارة من فرشاد ابراهيمي -أحد مرتكبي الهجمات- الذي اعترف لها بدوره في الهجمات كما أفشى أسماء المسئولين المتورطين فيها، وتم تصوير اعترافه، فكان شريط التسجيل هو سبب اعتقال المحامية بتهمة "الإساءة للرأي العام". كما قررت المحكمة منعها من ممارسة مهنة المحاماة لمدة 5 أعوام، ولم ينج المعترف أيضاً فتم حبسه هو الآخر. واستمرت عبادي بعد خروجها من الحبس في انتقاء الملفات الحساسة سياسياً فدافعت عن العائدين من مؤتمر إصلاحي دولي في برلين بعنوان "مستقبل الإصلاحات في إيران" في أبريل 2000 والذين اتُّهموا "بالتآمر ضد نظام الجمهورية الإسلامية" ومنهم الكاتب الصحفي أكبر غانجي وعدد من رجال الدين الإصلاحيين والطلبة. كما ترأس شيرين عبادي رابطة محاميين باسم "جمعية المدافعين عن حقوق الإنسان"، وهي تضم العديد من المحاميين الذين اختاروا التخصص في الملفات السياسية ومعظمهم دون الحصول على أي أجر من عائلات المعتقلين وأكثريتهم سبق أن أُعتقلوا في أثناء دفاعهم عن المعارضين مثل المحامي عبد الفتاح سلطاني ومحمد شريف ومحمد علي دادخاه و سيف زاده... وللمرة الثالثة تم القبض على عبد الفتاح سلطاني محامي عائلة الصحفية الكندية -الإيرانية الأصل- التي تم القبض عليها أثناء تصويرها سجن إفين وتوفت إثر ضربة على رأسها في قسم الشرطة. وقد تكاتف المحامون أيضاً للدفاع عن الكاتب الصحفي أكبر غانجي الذي تتدهور حالته الصحية بشدة -في أثناء كتابة هذه السطور- في مستشفى سجن إفين بعد انقضاء 58 يوماً من إضرابه عن الطعام -للاعتراض على حبسه الذي دام 5 سنوات بتهمة "إفشاء أسرار بهدف الضرر بالأمن القومي" إثر كتابته لمجموعة من المقالات تدين كبار المسئولين في سلسلة القتل التي استهدفت العديد من الكتاب والمفكرين الإصلاحيين في 1998. وفي حين تزداد مطالبات الطلبة والمثقفين بالإفراج عن غانجي يأتي رد رئيس الجهاز القضائي بوجوب طلبه العفو حتى يكون الإفراج قانونياً! ولكن غانجي يرفض طلب العفو لأنه متمسك بمحتوى مقالاته ويفضل الموت جوعاً. وكان مصير ناصر زرفشان -محامي عائلات من استهدفتهم عمليات القتل المنظمة- مماثلاً، فهو معتقل بسجن إفين حالياً ومضرب عن الطعام. كما دافع المحامي صالح نكبخت عن العديد ممن اُعتقلوا بسبب التعبير عن فكرهم مثل الكاتبين الصحفيين الإصلاحيين عباس عبدي و عماد الدين باقي الذين سبق اتهام أولهم "بنشر الأكاذيب وإهانة المقدسات" وثانيهم "بالتجسس وبيع معلومات لجهات خارجية" ومثل المدرس الجامعي هاشم آغاجري، الذي ارتبط اسمه بما سماه البعض الحركة البروتستنتية الإسلامية، والذي تحدث أمام الطلبة ضد سلطة رجال الدين قائلاً "لا يجب أن نطيع رجال الدين مثل القردة" مما تسبب بالحكم عليه بالإعدام في 2003 وهو الأمر الذي تراجعت عنه المحكمة إثر اعتراض الطلبة الشديد و تظاهرهم.
ولا تقتصر نشاطات المحامين السياسية على تطوعهم بالعمل في الملفات السياسية -الأمر الذي يهددهم بانقطاع مصدر رزقهم بسبب إثارة نشاطهم لعداء القضاة وما يترتب عليه من لجوء المتضررين لمحاميين بدون سوابق سياسية- بل يلجأ أكثرهم للكتابة في العديد من الصحف عن مظالم جهاز العدل وعدم تماشى قراراته وأحكامه مع القانون، بل ويذهب البعض للتشكيك في قانونية القانون ودستورية الدستور. ولهؤلاء المحاميين أنشطة أخرى تهدف إلى تكريس استقلالية نقابة المحامين عن الدولة، وفي مكاتب المحاماة الخاصة بهم تكثر الندوات و النقاشات السياسية-القانونية، كما يفتحون أبوابهم لتدريب الخريجين وبعضهم يمارس التمييز الإيجابي لصالح تدريب الفتيات.
ومما سبق يمكن للقارئ التعرف على حجم وأهمية نشاط المحاميين الإيرانيين السياسي ودرجة تنظيمهم بهدف التحدث باسم الحقوق السياسية والحريات. وبإمعان النظر والاستفسار عن هؤلاء يتبين لنا أن أكثريتهم كانوا نشطين سياسياً في فترة دراساتهم الجامعية قبل الثورة ولهم تجارب سابقة ليس فقط في التنظيم السياسي ولكن أيضاً في معتقل الشاه وحكومة الثورة على السواء. وهم لا ينحدرون فقط من مهنيين من الطبقة الوسطى بل أيضاً من الطبقة العاملة التي زاد من تسييسها المد الثوري في السبعينات. وقد يكون اختيار الالتحاق بكلية الحقوق قرار سياسي الدافع في الأصل، ففي إيران تراث طويل للحركات الإصلاحية قانونية الطابع منذ اندلاع الثورة الدستورية عام 1906. ويشير هذا اللجوء إلى القضاء وتفعيل دور المحامين في الحركة الإصلاحية إلى تحول آليات النشاط السياسي من التراث الثوري الطابع إلى السعي لإصلاح النظام من الداخل عبر الآليات القانونية المتاحة والمواجهات القضائية.
الصحافة تنقل القضاء إلى مركز الاهتمام العام
لا ينبغي أن نغفل عن الدور الرئيسي الذي لعبته الصحافة في هذا التحول. لقد شهدت الصحافة في إيران نهضة ملحوظة تمثلت في ظهور صحف جديدة على الساحة الإعلامية في منتصف التسعينيات تستخدم أساليب جديدة في اجتذاب القراء وتعنى بالمظهر الجمالي للصحيفة. وتطور محتواها بفضل لجوءها المستمر للمصادر الأولية للأخبار، وهو ما كان نادراً في الصحف الرسمية التي أصبحت مجرد أداة دعائية للحكومة. وتميزت تلك النهضة الصحفية بصغر سن اللاعبين الأساسيين من ناقلي الأخبار و المصورين. واكتسبت الصحف الجديدة مصداقية تفتقر لها وسائل الإعلام الرسمية مما أدى لارتفاع ملحوظ في أرقام مبيعاتها. وبرغم أحكام القضاء بإغلاق ما يتجاوز المائة جريدة، اعتاد العاملون بالجريدة المقرر إغلاقها أن يطبعوا صحيفتهم -في اليوم التالي من الحظر- تحت اسم جديد. ويمكن القول بأن للصحافة دور رئيسي في تشكيل وعي الحركة الإصلاحية و خلق الحيز العام publicité الذي يعتبره كانط وفلاسفة التنوير الشرط الأساسي لنشوء دولة القانون. فالحوارات التي تدور من خلال الصحف اليومية عن القانون والقضاء تفترض مشروعية اعتبار العقل مصدراً رئيسياً للتشريع، كما تتيح آليات سلمية لتفعيل دور المجتمع المدني. فعلى سبيل المثال، قامت الصحف الإصلاحية بتغطية محاكمة الطلبة الذين تظاهروا سلمياً للاعتراض على حظر الجريدة "سلام"، كما قامت بمتابعة هجمة قوات "أنصار حزب الله" على الطلبة في مساكنهم الجامعية، وأوضحت كيف يتم التنكيل بالطلبة في الوقت الذي تتقاعس فيه السلطات عن معاقبة المتحرشين. كما كرست جريدة "نشاط" عدة صفحات يومياً لمتابعة الأحداث ونشرت مقابلات مع أعضاء "اللجنة القومية للتحريات" المسئولة عن تعقب الجناة. كما نشرت الصحف الكثير من الخطابات المفتوحة التي وجهتها الروابط الطلابية لرئيس المحكمة الثورية بطهران لتذكيره بأن المذنبين هم منظمي ومنفذي الهجمات وليس من اعترضوا سلمياً عليها من الطلبة. ونقلت نفس الصحف عن رجال الدين المتشددين تصريحاتهم مثل ما قاله آية الله مصباح يزدي تعقيباً عن الحادث: أن لأي مسلم الحق في معاقبة وقتل أي شخص ينتهك المقدسات بدون حاجة للمحكمة. وهكذا أصبحت الصحافة الساحة الرئيسية للنقاش عن العدل وسيادة القانون، ولعبت دور رئيسي في تعميم publicisation الحوارات القانونية وإعلام القراء بتفاصيل المحاكمات والنزاعات التي تنشأ في قلب الجهاز القضائي، الأمر الذي جعل رجال القضاء مسئولين أمام الرأي العام وأعطى الفرصة للخبراء بالقانون وللمتضررين من انحياز أحكام القضاء أن يعبروا في الصحف اليومية عن شكواهم وانتقاداتهم، حتى أن أكثرية الصحف بما فيهم الأكثر توزيعا تخصص صفحة كاملة بعنوان "قانون" أو "حق" وتضم تقارير تفصيلية عن محاكمات جارية وأبواب للتوعية عن الحقوق التي يكفلها الدستور والقانون الإيراني والمواثيق الدولية ومقالات ينتقد فيها الخبراء بنود قوانين بعينها. وكثيراً ما تنشر خطابات مفتوحة من المتهمين السياسيين أو وكلائهم إلى رئيس القضاء. ولم تعكس الصحافة فقط ما يدور من نقاشات عامة بل خلقت الحيز العام public sphere -تلك المساحة التي أشار إليها هابرماس كأساس للتحول الديموقراطية. كما أن اهتمام الصحف بنشر تفاصيل المحاكمات أدى إلى خروج الحقل القضائي إلى المجال العام، أي أن القضاء أصبح تدريجياً في مركز اهتمام المجتمع وأصبحت أحداثه ومفرداته أكثر تداولاً.

آفاق و حدود الإصلاح من خلال الساحة القانونية
صحيح أن من يتطلع إلى الأحداث السابق ذكرها تتراءى له صورة شديدة القتامة عن وضع العدالة الإيرانية، فهي تبدو وكأنها أداة في يد المحافظين من الفئة الحاكمة، مثلها مثل أي جهة تنفيذية، لا تتسم بأي استقلالية. وهذا صحيح لحد كبير، خاصةً إذا ما نظرنا لعملية تعيين القضاة والتي تخضع كليةً لقرار رئيس الجهاز القضائي، الذي بدوره يتم تعيينه بقرار من المرشد -الوليّ الفقيه آية الله سيد علي خامنئي. وغني عن الذكر إن تولي منصب الوليّ الفقيه -الذي يملك اليد العليا في سياسة إيران الداخلية والخارجية- يتم بقرار من مجلس الخبراء، ولا يترك هذا المنصب شاغله إلا بوفاته. وهنا لنا أن نتساءل إذا كان اللجوء للعنف بقتل القاضي المحافظ مسعود مقدسي في شهر أغسطس الماضي -والذي حكم في أكثر القضايا السياسية حساسيةً- ينم عن فشل الجهود القانونية للمطالبة بصيانة حقوق المواطنين السياسية. هل قتله أحد أقارب أو أصدقاء ضحاياه؟ هذا ما لا نعرفه حتى الآن. ولكن من الممكن أن يؤدي يأس الناس من قدرة القانون على الحد من تعسف السلطات إلى لجوء بعضهم لعمليات انتحارية.
وللإجابة عن السؤال المتعلق بمدي نجاح استراتيجية اللجوء للقضاء يتعين لنا أن نبحث عن تأثير السياسة الحقوقية الجديدة للمجتمع المدني -ليس فقط على مؤسسات الدولة بل على خطاب رجالها. فلا يصعب على من يتابع تصريحات المسئولين في إيران أن يلاحظ انتشار المفردات القانونية legality وحقوق المواطنين بل كان شعار سيادة القانون أهم شعارات حملة خاتمي في الانتخابات الرئاسية. و كما رأينا فإن المتابعة الجيدة التي قامت بها الصحف لتفاصيل ما يدور في المحاكم و مؤسسات تطبيق القانون جعل رئيس الجهاز القضائي محمود هاشمي شهرودي لاعبا رئيسيا في الساحة السياسية يوجه تصريحاته للرد على أسئلة وانتقادات المعسكر الإصلاحي. ففي أبريل 2004 أصدر شهرودي مشروع إصلاح في صيغة "توجيهات" وجهها للقضاء والشرطة ورجال المخابرات بهدف تعزيز حقوق المواطنين. وتحتوى التوجيهات على 15 نقطة -منها وجوب احترام مبدأ البراءة حتى تثبت الإدانة، ومراعاة حق المقبوض عليهم في توكيل محامي، والامتناع عن التعذيب وسوء المعاملة. وبرغم أهمية ما تمثله تلك "التوجيهات" من اعتراف -الأول من نوعه- عن حقيقة التعذيب في السجون الإيرانية،لم تلق توجيهات شهرودي أي ترحيب من جهة المحامين بسبب تجنبها تحديد وسائل وطرق الإشراف على تطبيقها ومعاقبة منتهكيها. وذهب المحامي محمد شريف إلى حد نقد مبادرة شهرودي قانونياً إذ أن الدستور الإيراني يحتوي على نفس النقاط المذكورة، بعبارة أخرى أجدر بالسلطات أن تقوم باديء ذي بدء بتطبيق الدستور قبل إصدار توجيهات.
ممكن أن تكون مبادرة شهرودي مجرد تظاهر بالرغبة في إعلاء مبدأ سيادة القانون و ترسيخ استقلالية الجهاز القضائي، ولكنه يعبر عن واقع الضغوط التي تواجهها السلطة في مواجهة المطالبة بالإصلاح. والمثير للتساؤل هو ما تلى مبادرة شهرودي ببضعة أيام من سماح القضاء لعدد من المعتقلين السياسيين بالخروج المؤقت منهم الطالب أحمد باطبي والصحفي أكبر غانجي بالاضافة إلى مجموعة من الليبراليين المتهمين بالتآمر لقلب النظام. وتزامنت تلك الإفراجات المؤقتة مع نقل الصحف للجدل الدائر عن الاعتقال السياسي الذي أثاره طرح النواب الإصلاحيين لتعريف للجريمة السياسية في البرلمان. وأثناء محاضرة للرئيس خاتمي أقر فيها بوجود معتقلين سياسيين "تم حبسهم بسبب أفكارهم" -وقال انه عبر عن امتعاضه من خلال كتابته لخطابات للمسئولين- اعترض شهرودي على تصريحه بحجة أن مصطلح المعتقل السياسي غير وارد في تشريعات إيران! إذن يمكننا القول بأن مبدأ القانونية و احترام الحقوق الدستورية قد فرض نفسه على خطاب السلطة وإن حاولت السلطة اللجوء إليه في بعض الأحيان للتحايل على القانون.
إذن يمكن القول أن تسيس القضاء من ناحية وفرض طابع قضائي judiciarisation على النزاع السياسي من ناحية أخرى كان له تأثير لا يمكن تجاهله على قواعد ومحتوى اللعبة السياسية في إيران. وبعيداً عن التوهم بأن أجهزة الدولة بإيران تخضع أخيراً وتدريجياً لواقع التحول الديموقراطي، يتبين لنا من الخطاب الذي تتبناه السلطة بما فيها عناصرها الأكثر محافظة أن ثمة مفردات وحجج تكتسب شرعية وتفرض نفسها حتى على إجراءات الفئة الحاكمة لقمع معارضيها، فتلجأ لمراوغات مستندة على قراءات حرفية للقانون أو تلجأ لخطاب ذو مفردات ديموقراطية دون المساس بالمؤسسات السلطوية وآلياتها، الأمر الذي يوقعها في شباك تناقضاتها.
وحتى إذا كان التحول الذي طرأ على سياسة الدولة خطابي بحت وغير مؤسسي، فانه يستمد أهميته مما يشير له من تغير جذري في مصدر شرعية الحكم في إيران وتحوله من دور المقاومة للعدو الخارجي وللإمبريالية وخدمة مصلحة النظام الإسلامي إلى دور الصائن لحقوق المواطنين وللديموقراطية ولحرية الفكر والتعبير. ويتحول الخطاب السياسي من الدعوة للاتحاد من أجل مقاومة الشر الخارجي إلى خطاب يفترض أن مصدر العلل داخلي وأن على المواطنين المشاركة في صياغة السياسات. وبناءً عليه يزداد الحديث عن الحقوق والمواطنة ويتراجع خطاب واجبات الرعايا. وبالتوازي تتحول المعارضة عن الخطاب الثوري إلى الإصلاحي. وتنضم حجج الإصلاحيين لمبدأ كانط بأن التشريع يجب أن يخضع لسيادة الشعب وما يملي عليه عقله، و أن المرجعية النهائية للتشريع ما هي إلا الإجماع العام public consensus. كما ينطوي خطابهم على إعلاء حقوق الإنسان وتجاوزه اتهامات الاغتراب والإمبريالية. وبرغم العثرات التي يواجهها المجتمع المدني في إيران في ظل رفض خضوع السلطة للقانون، يمكن الجزم بأن الخطاب الحقوقي ومبدأ سيادة القانون اكتسبا الشرعية اللازمة لوضع قواعد ومعايير جديدة للعبة السياسية هي – بالتعريف - في صالح الإصلاحيين.