صوت ديمقراطي جذري

1.6.06

حماس .. متى تحسم ترددها لصالح الفلسطينيين؟


أكــرم ألــفي

فوز حركة "حماس" الساحق جعلها تنفرد بالمشهد السياسي الفلسطيني بعد أكثر من 40 عاما من سيطرة حركة "فتح". ولكن وفقا لرؤية المشهد من بعيد تجعل الواقع الفلسطيني الجديد هو بمثابة تحول كيفي طبيعي لتغيرات كمية تراكمت عبر نحو 12 سنة من ابرام اتفاقات أوسلو. ويمكنني وصفه بشروق شمس جديدة طال انتظارها للبعض ولكن الشمس ان لم تكن رفيقة فإنها تعمي الابصار وتحرق النبت الصغير وتجفف المياه القليلة في البئر.
تباينت ردود افعال بشأن فوز "حماس" في الانتخابات الفلسطينية بين المرحبين بشدة ومعبتبرنها فوز للمقاومة واخرى متشائمة ترى فيها انتصار للديماجوجية السياسية وللصوت العالي في السياسة العربية غير كونها بداية لعملية استلام الاسلاميين للسلطة في المنطقة. فالبعض وصل إلى إلى اعلان وفاة "السلام" و "الأمل" في الشرق الأوسط وبين المروجين لجنة جديدة في شرق نهر الأردن بقيادة "حماس". ولتجاوز هذه الرؤى الانفعالية علينا ان نضع انتصار "حماس" في سياقه الداخلي والاقليمي ، وكذلك ان نضع استراتيجية وخطاب ونخبة الحركة تحت عدسة مجهر التوازنات وقياس العلاقة الجدلية بين الخطاب والامكانيات والممارسة، وصولا لوضع الحدث في إطاره الواقعي.
بداية ؛ فإن سيطرة "حماس" على الساحة السياسية الفلسطينية تأتي على ضوء متغيرين اساسيين: الأول هو غياب شارون عن الساحة الإسرائيلية وطرح ايهود اولمرت الجزء الثاني من خطة فك الارتباط ووضع خريطة نهائية لإسرائيل قبل 4 اعوام مما يعني تسابق الفلسطينيين على الارض مع الزمن للحيلولة دون انهاء قضية الحدود نهائيا بدون مشاركتهم، والثاني انتقال حركة ''حماس'' ذاتها نحو مزيد من البراجماتية والاعتدال منها استعدادهم للتوصل إلى هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل تقوم على انسحاب هذه الأخيرة إلى حدود 1967 ، والأكثر من ذلك لم تستبعد ''حماس'' إمكانية التفاوض مع إسرائيل أو تعديل ميثاقها الذي مازال يدعو إلى القضاء على الدولة العبرية، وهو ما عبر عنه وزيرالخارجية محمود الزهار في حوار اخير مع الجزيرة بالتأكيد على عدم رفض وجود وسطاء دوليين للتفاوض مع إسرائيل، وهو ما لا ينفي في الوقت ذاته استمرار الجناح المتشدد "بالخارج" متمثلاً في خالد مشعل الذي يعلنها صراحة برفض التفاوض ووصل به الأمر لاتهام "فتح" بالخيانة" مما تسبب في صراع داخلي "دموي" داخل غزة .
في الوقت نفسه، فقد طرح صعود "حماس" اسئلة صعبة مثل الصراع بين الحكومة ومؤسسة الرئاسة، وتغير توجهات السياسة الخارجية للحكومة من قبلة مصر إلى البحث عن قبلة جديدة في دمشق وطهران. إلى جانبالزمات المالية الخانقة ومنع المساعدات عن الفلسطينيين.
إلا أن المهم لنا التأكيد على أن "حماس" ليست هي البديل الذي يقبله اليسار الديمقراطي بدون نقد، فهو نموذج للحركات الاسلامية ذات الخطاب القومي الديماجوجي، ولكن في الوقت نفسه يجب علينا التعاطي ايجابيا على تغيراتها السياسية ومشاهدة اثر تحولها إلى سلطة في الخطاب والممارسة لخدمة الشعب الفلسطيني بالفعل وليس الخطاب الايديولوجي الجامد.
فالتغير يأتي عبر الصراع ، وبالتالي فإن التحولات في "حماس" لن تصل المحطة مثل قطار على قضيب، بل ستشهد تموجات يمينا ويسارا قد تجعلها تفقد في النهاية المحطة لتترك المكان لبديل اخر اكثر عقلانية ولاصحاب مشروع الدولة الفلسطينية العلمانية الديمقراطية، ولكن هذه امانينا التى لا يجب ان نسقط في خطأ فرضها على الواقع السياسي.

لماذا انتصرت "حماس"؟

"من له أذنان فليسمع .. من له عينان فليري".
هل يمكن لعاقل ان يجد في فوز "حماس" بالانتخابات الفلسطينية انقلاباً في الحياة السياسة الفلسطينية فكافة الدلائل في الشارع الفلسطيني خلال السنتين الاخيرتيين تتدلل على هيمنة "حماس" على الشارع الفلسطيني وخاصة في قطاع غزة بشكل شبه مطلق، في المقابل فإن "فتح" منقسمة بشدة، وتطالها اتهامات بالفساد وقصور قيادتها شاهد على "موتها الاكلنيكي" وسط بيوت وعشش الفلسطينين الذي يزرح نحو 60% منهم تحت خط الفقر، فكيف للناخب ان يصوت لصالح اثرياء (النضال والسلام) ، وحلم التسوية لم يأت إلا كوابيس، والانفلات الأمني وهز الاستقرار تباشره بنادق مناضليهم الصغار المنفلتين والغاضبين. في المقابل فإن اليسار الفلسطيني يحتفظ باحلامه بأن تحمله الجماهير على الاعناق في لحظة سرمدية غير منظورة سوى في كتاب (10 ايام هزت العالم)، والبدائل الاخرى تحتفظ ببدلها النظيفة ورابطات العنق الجميلة في تصور واهم ان الخطاب العقلاني يقنع جمهور يبحث عن رغيف خبز ويعيش يومه بيومه بين بنادق الاحتلال وضغط الفقر القاتل.
قد يروج البعض هنا لوصفة "التصويت الاحتجاجي" الشهيرة التى نقلها المحللين العرب من كتب وتحليات الديمقراطية الغربية ليشددوا على ان الجمهور الذي انتخب "حماس" لم يصوت للحركة الإسلامكية بل احتجاجا على فساد "فتح" . ولكنى اطال هؤلاء العباقرة من المحللين بتكملة قراءة التحليلات الغربية عن التصويت الاحتجاجي وان يكفوا عن قراءة النظريات بطريقة (لا تقربوا الصلاة) العربية الشهيرة. فالتصويت الاحتجاجي يعبر عن نفسه بالتصويت لخيار غير منافس على السلطة بمعني انه قريب من وضع ورقة الانتخاب بيضاء او ابطالها احتجاجا على المتنافسين الكبار. ولكن عندما يكون هناك حزبان كبار يتنافسان ولم يصعد طرف ثالث في النتائج فهذا يبطل تماما وجود تصويت احتجاجي.
هكذا كان المنطقي ان تفوز حماس فالقارئ المتوسط يعرف ان هذه الحركة هى الأكثر شعبية اليوم بين الفلسطينيين فهذه معلومة عامة لا تحتاج لتفسيرها عبر التبرير والتوزير (العقلي) بالقول ان الجمهور أكثر عقلانية من اختيار التيار "الحماسوي" ولكنه فقط غاضب وسيعود لرشده، وكأن العقلانية الوحيدة ان يصوت الناخبين لمن يرغب فيه القابضين على "جمرة" الإعلام العربي.
هكذا كان من الطبيعي والمنطقي ان تفوز "حماس" في انتخابات حرة تحسب لمحمود عباس (ابو مازن) الذي يحاسب للاسف على أخطاء سلفه ياسر عرفات. ولكن هذا الفوز طعمه في حلق قيادت "حماس" مثل العلقم ، فطعمه مر حتى لو حاوله وضع قطع سكر ولكنها تذوب سريعا لتبقي المرارة.
"حماس" اخطأت مرتين ، المرة الأولي أنها لم تعلن موقفها من اوسلو صراحة قبل الانتخابات في الوقت التى رسخت فيه فعليا شرعية "اوسلو" بدخولها الانتخابات، والمرة الثانية انها "تجملت" وهي تقول انها ضد السلام، فيما جعلتها الانتخابات العمود الاقوي الذي ترتكز عليه التسوية منذ وفاة عرفات بتحويلها إلي الحاكم الفعلي للسلطة الفلسطينية.
فواقعيا لقد كسبت التسوية "حماس" وخسر"ت الحركة" كل عاطفية خطابها عن التحرير الكامل ولاءات "الخرطوم" الشهيرة (القمة العربية في أغسطس 1967 التى اكدت على رفض التفاوض مع إسرائيل).
لقد اصبحت "حماس" رضت ام ابت ليس فقط جزء من عملية التسوية (المعطلة مؤقتاً) بل لاعب رئيسي فيها، فقيادتها للسلطة يلزمها على التعاطي مع استحقاقات اوسلو وباريس وشرم الشيخ لتستطيع ادارة شؤون الفلسطينيين اليومية بدءاً من نقل مريض لمستشفي في القدس مرورا بعبور العمالة لبناء مستوطنات جديدة ودخول المواد الغذائية... الخ.
كانت حماس تحلم ان تمنحها الانتخابات وزارات خدمية في حكومة تقودها "فتح" فتزيد قدراتها على توفير الخدمات من شعبيتها وفي نفس الوقت تغسل يديها من مصافحة الإسرائيليين والعملية السلمية، ولكن الانتخابات جاءت بما لا تشهي السفينة فاوصلتها للشاطئ مبكرا عن موعد الوصول واصح على القطبان ان يرسو بها والا ثار الركاب عليه.
وهكذا وجدت "حماس" نفسها مطالبة بمنع "كوادرها على الاقل" من ضرب المستوطنات الإسرائيلية بالصواريخ ، ومنع مظاهر التسلح للحفاظ على الاستقرار الذي هو قاعدة اي إمكانية لتوفير الوظائف لمئات الالوف من العاطلين الذين ينتظرون عملا توفره السلطة الجديدة.
وواقعيا، هناك تقف ثلاث معضلات اساسية يجب على "حماس" حلها لتجاوز الهوة بين ما تدافع عنه ايديولوجيا وما ستقوم به علي الارض لترسو بالسفينة وهي ميثاقها المتشدد ونخبتها المترددة وقواعدها المتحمسة.
فلا يمكن ان تقود "حماس" السفينة الفلسطينية في عام 2006 وحتى 2010 وهي تحمل ميثاقا يري ضرورة القضاء على إسرائيل هدفاً استراتيجيا. فان أراضت أن تبقي فعليها ان تقوم مثل "فتح" بتغير ميثاقها وهي الوضعية التى ظهرت بوادرها في تصريح قبل 4 اشهر لمحمد نزال عضو المكتب السياسي لحماس والتى اكد فيه ان الميثاق ليس قرآناً ويمكن تغيره. ولكن فزع القيادة من الضغوط جعلها تتراجع عنه بل وتنتقده بعد اقل من 24 ساعة في مهرجان جماهيري في رام الله. ثم جاءت خلال الشهرين الاخيرين التصريحاتالمتناقضة بين الميل للتشدد القادم من دمشق مقر خالد مشعل، والميل للتهدئة وللواقعية على لسان رئيس الوزراء اسماعيل هنية ووزير خارجيته محمود الزهار.
صحيح انه ليس هناك بعد تبلور للمواقف المتباينة داخل "حماس" ولكن هذا لا ينفي ان كافة الدلائل والمؤشرات تقود إلي وجود معسكرين في التعاطي مع الواقع الجديد وعل دائما الأكثر تشددا هو الاكثر بعدا عن الحياة اليومية للفلسطينيين الذي يدرك اي معايش للوضع ان العلاقة مع الإسرائيليين حيوية للمواطن العادي وان حاول تجنب هذه الحقيقة فسيتذكرها عندما يشتري مآكله بالشيكل الإسرائيلي!.
في المقابل ، هناك القاعدة المتحمسة والمندفعة والتى تضغط دائما (بفعل طبيعة التنظيمات السياسية الراديكالية) نحو التشدد والمواجهة، وهي القاعدة الشبابية التى لا توزن الامور بميزان السياسة بل بقوة العاطفة والحماسة ، وهنا يطرح هل تتمكن قيادة حماس التى فقدت باغتيال الرنتيسي، وهو عقلها الأكثر حنكة، أن تتجاوز هذه المعضلات ام انها ستدخل في ازمة "المراوحة " التى قد تشل ( ولو مؤقتاً) ليس فقد الحركة ولكن أيضاً المجتمع الفلسطينية.
وهنا فإن على القوى العقلانية والديمقراطية ان تستعد للحظة "الشلل" القادمة وللكن الا تساهم في الاسراع بقدومها، حيث ان المطلوب ان تنضج تجربة "حماس" وتسقط مثل التفاحة بعد ان تنضج تماما على الشجرة، فاسقاطها عنوة سيقويها ويعلى من الخطاب الراديكالي "الفرغ" الذي يهدد مستقبل القضية الفلسطينية بمجملها. وهنا انتهي بقول ايهود اولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي لصحيفة "جيروزاليم بوست" أن فوز "حماس" لا يمثل اي قيد على خطة ترسيم الحدود الإسرائيلية، وهو ما يعني أن على الجميع ان يحول دون استثمار تل ابيب فوز "حماس" لتنهي القضية بمفردها وهو ما سيدفع ثمنه ليس فقط الفلسطينيين بل المنطقة كلها.

No comments: