صوت ديمقراطي جذري

29.8.06

اليسار الديمقراطي الفلسطينى.. إلى أين؟


بيسان عدوان


كان ظهور مصطفى البرغوثى مرشحا قويا فى الانتخابات الرئاسية الفلسطينية علامة بارزة على نشأة تيار يسارى ديمقراطى فلسطينى إلى جوار سلطة فتح والتيار الإسلامى. فى هذا المقال تلقى بيسان عدوان الضوء على تشكل هذا التيار وبرنامجه والمشكلات التى يواجهها وآفاق حلها.

منذ فترة زمنية ليست بالقصيرة تشهد الساحة الفلسطينية الداخلية حالة من الاستقطاب السياسي بين تيار السلطة بقيادة حركة فتح وبين تيار الإسلام السياسي بقيادة حركة حماس، وقد تعمق هذا الاستقطاب في الآونة الأخيرة بعد حوار القاهرة ونتائج الانتخابات المحلية وتشكيل هيئة للإشراف على ملف الانسحاب من غزة، بما أصبح يشكل تهديدا للقضية والشعب الفلسطينيين بدخوله في المحرمات كالاقتتال، وتجاوز الخطوط الحمراء المتعارف عليها وطنيا.
فى ضوء ذلك، هناك شعور واسع الانتشار ورغبة عميقة فى الأوساط التي تقع بين التيارين وخارجهما، والتي تملك رؤية مغايرة لرؤيتهما، قائمة على ضرورة العمل لبناء تيار أو ائتلاف واسع وعريض يتميز برؤية ديمقراطية بأبعادها السياسية والاجتماعية والحقوقية. وبرغم تشكل بوادر لهذا التيار الثالث أو القوة الثالثة في الحياة السياسية منذ الانتخابات الرئاسية في يناير 2005 وخوضها غمار الانتخابات، إلا أن بناءها لم يكتمل حتى الآن لأسباب مختلفة، منها ما يتعلق بالأفراد داخل هذا الجسم ومنها ما يتعلق بالمناخ السياسي السائد في الساحة الفلسطينية.
لقد شجعت تطورات الجسم السياسى الفلسطينى على تشكل هذا التيار الثالث. فمن جهة استشرت حالة التفتت داخل الجسم الفتحاوي كما تبينها الاستقالات الجماعية خلال عامي 2004 -2005 وتراجعت شعبيته داخل الشارع الفلسطيني. لقد تكبدت فتح خسائر كبيرة بحكم إدارتها للبلاد في السنوات العشر الماضية وبسبب الفساد المتفشي في مؤسسات السلطة واستفحال مراكز القوى في السلطة وسعيها وراء المصالح الذاتية، مرورا بالانفلات الأمني وغياب القانون والعدالة، وانتهاءً بعدم إنجاز المشروع الوطني. ومن جهة أخرى وصلت حركة حماس إلى نقطة لم تعد تكسب بعدها أرضا جديدة أو إنجازا جديدا يحل مشاكل الناس المتراكمة بفعل فساد السلطة وبفعل القمع والاغتيالات والتدمير المنهجى من قبل الجبروت الإسرائيلي المدعوم أمريكيا على الشعب الفلسطيني. هذا بالإضافة إلى أن حماس غير مرغوب فيها كتيار ديني من شأنه إقلاق دول الجوار، مما أغلق أمامها أفق السعى إلى الفوز بالسلطة وتطبيق برنامجها. كما أن عزوفها عن المشاركة في الانتخابات الرئاسية وعن تدعيم مرشح المعارضة الديمقراطية (مصطفى البرغوثي) كطريقة لتغيير النهج السابق، أظهرها وكأنها تبتعد عن الدفاع عن مصالح الناس والتصدي للإصلاح. فكان موقفها بمثابة تأييد لاستمرار فتح في السلطة.

تشكل التيار الثالث الديمقراطي
برغم محاولات البعض تجاهل التحولات التي حدثت على صعيد الخارطة السياسية الفلسطينية، ظهرت قوة التيار الديمقراطي في تحالف "المبادرة الوطنية" واللجان العمالية المستقلة و"الجبهة الشعبية" والمستقلين في تجربة الانتخابات الرئاسية وما تلاها من انتخابات المرحلة الثانية للمجالس المحلية، إضافة إلى استطلاعات الرأي التي تصدر عن مؤسسات مهنية، والتي أشارت جميعها إلى وجود قوة ثالثة كبيرة على الساحة السياسية الفلسطينية اتسمت بتميز في طرح موقفها السياسي والاجتماعي بعيدا عن الاستقطاب بين خطابى فتح وحماس السائدين. كما ظهرت قبل ذلك في التحالفات الديمقراطية التي نشأت في النقابات المهنية المختلفة. حصلت هذه القوة على قرابة العشرين في المائة من الأصوات في "انتخابات الرئاسة" فى يناير من هذا العام، وعلى عضوية أكثر من عشرين مجلس محلي في الضفة الغربية. والواقع أن استطلاعات الرأي تشير منذ عدة سنوات إلى وجود أغلبية صامتة لا تقل عن 40% - 45% من الناس، ممن ليسوا جزءا من الاستقطاب بين "فتح" و"حماس". ومن الواضح أن الانتخابات الرئاسية قد أثبتت وجود تيار ثالث ديمقراطي قوي ومؤثر استطاع مرشحه الحصول على حوالى 22% من الأصوات الصالحة رسميا، وما يصل إلى 30% من الأصوات، إذا حذفنا الآثار الناجمة عن خرق القانون والتصويت المتكرر الذي جرى في الساعات الثلاث الأخيرة، وتبعثر جزء من الأصوات بين عدد من المرشحين . وترافق مع ذلك بروز حركة كفاحية نشطة وعالية خلال سنوات الانتفاضة الحالية، عملت فى قضايا مقاومة بناء جدار الفصل، والوقوف إلى جانب قطاعات واسعة من أبناء الشعب الفلسطيني، مثل المعلمين، العمال، الأطباء وغيرهم، تعاني نتائج سوء إدارة السلطة الوطنية الفلسطينية لموارد البلد الاقتصادية.
وقد ارتبط البروز القوي لهذا التيار بالإعلان عن تشكيل "المبادرة الوطنية الفلسطينية" وتعزز بتطور مهم وتاريخي بتحالف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مع المبادرة الوطنية واللجان العمالية المستقلة خلال الانتخابات الرئاسية، إضافة إلى الدكتور عبد الستار قاسم الذي سحب ترشيحه للرئاسة لصالح مرشح هذا التيار.
يتشكل هذا التيار من مجموع الفصائل الوطنية الديمقراطية (الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وحزب الشعب والنضال وفدا والمبادرة الوطنية) ومن الهيئات والمؤسسات المجتمعية، بما فيها النقابات ومنظمات المجتمع المدني، ومن الشخصيات العامة الديمقراطية. وكان بروز "المبادرة الوطنية" كمعبر عن هذا التيار قد اكتمل في الانتخابات الرئاسية الماضية ، حيث صيغت الأهداف الرئيسية لهذا التيار منذ عام 2002 وأُعلن عنها في بيان المبادرة في يونيو 2002.
وكان إعلان الجبهة الشعبية عن دعم مرشح الرئاسة مصطفى البرغوثي والتحالف مع المبادرة الوطنية تحولا مهما وإيجابيا فى فكرها وممارستها السياسية، تتوقف أهميته على مدى قدرته على اختصار الطريق لنشوء تيار وطني ديمقراطي واقعى، بحيث تكون ملامحه واضحة ومميزة بالفعل والعمل في الواقع وليس في الخطاب فقط، عن طرفى الاستقطاب. وتكمن أهمية الدعم الذي منحته الجبهة الشعبية لمرشح الرئاسة البرغوثي في نقطتين:
أولا: سد احد النواقص التي كانت تعاني منها حملة مصطفى البرغوثي، وهو البعد التاريخي النضالي وإرث الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير (وشارك فى ذلك أيضا دعم الدكتور حيدر عبد الشافي الزعيم التاريخي المستقل والعضو المؤسس للمنظمة).
ثانيا: ترافق إعلان الجبهة الشعبية لدعم البرغوثي مع إصدار بيان مشترك يحدد معالم برنامج وطني ديمقراطي سيحكم هذا التحالف، يرتكز إلى رؤية سياسية مشتركة ومنهج لقيادة النضال الوطني للشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى رؤية متكاملة للقضايا الاجتماعية والاقتصادية، تهدف إلى إجراء تغيير شامل في نهج إدارة عملية التنمية الاجتماعية بما يحقق حرية وكرامة المواطن ويؤمن استقراره، مما سيساهم في تقوية وتعزيز المجتمع الفلسطيني وقدرته على الصمود في وجه التحديات التي تواجهه.
والواقع أن مبرر وجود تيار ثالث يكمن في قدرته على طرح موقف وطني متماسك، يرفض كلا من طرح الحقوق الأساسية (التي تمثل الحد الأدنى الوطني) للمساومة، والحفاظ عليها كأيقونة مقدسة دون القدرة على تحقيقها بسياسة عملية؛ وطرح موقف ديمقراطي متماسك يطالب بالاحتكام إلى الشعب بصورة دائمة، وليس حسب الحاجة والمصلحة الفئوية، وإلى القانون؛ وباحترام حقوق الإنسان وحرياته العامة والخاصة؛ والمساواة بين المرأة والرجل؛ والعدالة والتقدم والتنمية. والواقع أن الاتجاه الثالث لن يولد فعلا إلا عندما يثبت دعاته أن القضيتين الوطنية والديمقراطية مترابطتين ولا يمكن فصل الواحدة منهما عن الأخرى، وتكون المسافة بينه وبين الاتجاهات الأخرى واضحة، فلا يغازل اتجاها ما على حساب برنامجه، بل يعمل على بلورة نفسه بصورة مستقلة.

البرنامج اليسارى الديمقراطى:
دعت "المبادرة الوطنية" إلى التصدي للضغوط الإسرائيلية والخارجية واستمرار الكفاح الوطني من أجل إنهاء الاحتلال والاستيطان وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية المستقلة على كامل الأراضي المحتلة عام 1967، وحماية حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، والعمل على كسر الحصار الإسرائيلى وإفشاله. كما طالبت بإصلاح جذري حقيقي وشامل يتجنب أنصاف الحلول، ويتم برؤية فلسطينية كفاحية متفائلة بهدف تعزيز الصمود الوطني والوحدة وإعادة الثقة للمواطنين والمناضلين الفلسطينيين وأبناء الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات.
ودعت المبادرة إلى إنشاء قيادة طوارئ وطنية ترسم استراتيجية وتضع أهدافا وطنية مشتركة وتلغي كل ازدواجية في الخطاب السياسي وتحقق الوحدة والالتزام على قاعدة المشاركة الفعلية في صنع القرار، وتعد لانتخابات ديمقراطية حرة ومباشرة وتنفيذ خطة لدعم الصمود الوطني بمساندة الفقراء ودعم العائلات الفقيرة ومكافحة البطالة وتلبية احتياجات التعليم والصحة. كما طالبت بحماية تضحيات الانتفاضة والشعب الفلسطيني الغالية وتحويلها إلى منجزات سياسية.
ونستطيع أن نرصد ما يميز هذا التيار من حيث موقفه المتماسك والواقعي من القضية الوطنية، وضربه المثل في تجسيد الديمقراطية الحقيقية، من خلال استعراض برنامجه. يبدأ البرنامج بالمطالبة بإنشاء قيادة طوارئ وطنية موحدة ترسم استراتيجية وتضع أهدافا وطنية مشتركة يلتزم بها الجميع على قاعدة المشاركة الكاملة في صنع القرار، وتخضع فيها الاعتبارات الفصائلية والتنظيمية والذاتية للمصلحة الوطنية العليا. ويترافق ذلك مع بناء سياسى ديمقراطى يتمثل فى مقرطة مؤسسات منظمة التحرير، بما في ذلك إجراء انتخابات لمجلسها الوطني. أما الشق الثالث فهو المطالب الاجتماعية متمثلة فى تلبية احتياجات الفقراء والمحتاجين، ومساندة الفئات المتضررة، على أن يتم الإصلاح بشكل ديمقراطى، بتعزيز وتوسيع تشكيل اللجان الشعبية الوطنية واللجان القطاعية والمؤتمرات الشعبية لتتولى مهام دعم الإصلاح الحقيقي وتعزيز الصمود الداخلي، وتحقيق المشاركة والرقابة الشعبية في توجيه ومراقبة أموال ومشروعات إعادة الإعمار وتوزيع المساعدات بعدالة كاملة وشفافية مطلقة وتخطيط تنموي سليم.
ومن الناحية الإجرائية يطالب البرنامج بإجراء انتخابات حرة وديمقراطية ونزيهة ودورية لكافة المؤسسات الوطنية، بما في ذلك الرئاسة وبرلمان الدولة الفلسطينية والمجالس البلدية والقروية، على أن تجرى في ظل وجود دولي يضمن نزاهتها ويحول دون أية تدخلات إسرائيلية فيها، بما في ذلك إخراج القوات الإسرائيلية. ويقرر أن الانتخابات الديمقراطية جزء من مقومات بناء الدولة الفلسطينية ويجب التعامل معها كقضية مقاومة كفاحية لفرض الاستقلال الوطني الفلسطيني ليشمل سائر الأراضي المحتلة وفي مقدمتها مدينة القدس الشرقية المحتلة، رابطا بذلك بين الديمقراطية والقضية والوطنية.
وتلى ذلك النقاط التفصيلية التى تم جمعها تحت عناوين رئيسية، أولها: فصل السلطات وتوازن أدوارها واحترام استقلالية الهيئات التشريعية والقضائية في التطبيق الفعلي. بما يحقق الشفافية وإلغاء المحسوبية فى شغل الوظائف ورفع كفاءة المؤسسات لتحقيق خدمة كريمة للمواطن، ومقرطة النظام بتعزيز دور المجالس البلدية والقروية المنتخبة وتحقيق استقلال ميزانيتها، وبصفة خاصة تلبية احتياجات المناطق الأقل تطويرا والأكثر فقرا، وخاصة المناطق المهددة بالاستيطان، وتأكيد دور المواطنين كمرجعية لعمل هذه المجالس. ويتطلب هذا كله إلغاء تعددية الأجهزة الأمنية والحد من سطوتها بمنع قادتها من التدخل في الأمور السياسية والإعلامية وتقييدهم بقرارات القيادة الشرعية المنتخبة، وابتعادهم الكامل عن الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية، مع تحديد موازنة رسمية واضحة لهذه الأجهزة.
والعنوان الثانى هو سيادة القانون واستقلال القضاء وتحقيق الأمن والأمان للمواطنين، الأمر الذى يتطلب إصلاح الجهاز القضائى والقوانين ذاتها، بما فى ذلك إلغاء محاكم أمن الدولة. والثالث هو مكافحة البطالة وتشغيل العمال والعاطلين عن العمل. ويشمل هذا العنوان أيضا إلغاء كافة الاحتكارات الاقتصادية، وتأمين حرية الاستثمار بشكل عادل ومتساوٍ لكافة الفلسطينيين، أى وقف تلاعب النفوذ الإدارى والعسكرى بالنشاط الاقتصادى الحر. أما الرابع فهو تأمين العيش الكريم والصحة والتعليم والضمان الاجتماعي وحماية حقوق المرأة، بإقامة نظام شامل للتأمين الصحى وإقراض طلبة الجامعات وتعزيز التعليم، إلى غير ذلك من المطالب النوعية.
يتناول البرنامج أيضا قضية الإفراج عن الأسرى والسجناء المعتقلين فى سجون الاحتلال وتفعيل دور الجاليات الفلسطينية فى الخارج وتعزيز دور منظمات المجتمع المدني واستقلاليتها ودورها التنموي وتكريس مبادئ الديمقراطية والشفافية في عملها، ومواصلة وتوسيع حملة التضامن الشعبية الدولية مع الشعب الفلسطيني ونضاله العادل.
على هذا النحو يربط البرنامج بوضوح النقاط الوطنية والاجتماعية بإصلاح ديمقراطى عميق للسلطة الفلسطينية، بما يجعل المطلب الديمقراطى بفروعه المختلفة محورا لكل القضايا الأخرى.

مشكلات التيار الثالث وآفاق تجاوزها
برغم النجاح الذى حققه التيار الثالث فى الانتخابات الرئاسية فإنه فشل فى استقطاب أصوات المستقلين فى الانتخابات البلدية، خاصة في مرحلتها الثانية، التي شهدت استقطابا ثنائيا حادا بين حركتي "فتح" و"حماس"، حيث استطاعت هاتان الحركتان بكل الطرق الممكنة ضم القسم الأكبر من المستقلين في قوائمهما بحيث حصلتا على حوالي 90% من المقاعد والأصوات، بينما لم تحصل كافة الفصائل الأخرى والمستقلون وكل ممثلي التيار الثالث سوى على أقل من 10%، الأمر الذى يدفع إلى توقع فشل التيار الثالث فى الحصول على أصوات المستقلين في الانتخابات التشريعية القادمة، والتي تعد التحدي الأهم في الحياة السياسة الفلسطينية. وفيما يتعلق بالمعيقات والتحديات التي تواجه هذا التيار عموما فيمكن إيجازها في عدة نقاط كالتالي :
- يظل مفهوم الأبوية والعصبية راسخا في بنية الأحزاب اليسارية الديمقراطية، فهى نتاج ثقافة مجتمع أبوي عنوانه التعسف، ولا يحمل في طياته النظرة الموضوعية الطبقية. وما زالت قيادة التيار الديمقراطي تعمل ضمن النهج القديم من فئوية وشخصانية ومصلحة خاصة مغيبة البعد الوطني العام.
- عدم ترسخ روح الديمقراطية في داخل الأحزاب اليسارية، وعدم تداول السلطة داخلها.
- محدودية القاعدة وضعف العضوية الحزبية.
أما فيما يخص مشاركة هذا التيار في الانتخابات التشريعية القادمة والتحديات التي يواجهها فيمكن أن نقول إن أهمها هو تفتته بسبب عدم وجود صيغة تنظيمية خلاقة مرنة تتجاوز الصيغ البيروقراطية التي شهدتها الساحة الفلسطينية، وتبتعد عن الهلامية المائعة الموجودة في الأطر التنظيمية التي لدينا، تتفق مع متطلبات المرحلة بشقيها، سواء المتعلق بمهمات التحرر الوطني، أو المتعلق بمهمات البناء الديمقراطي.
فبرغم الاتفاق حول ضرورة وجود تيار ديمقراطي يساري إلا أن الاختلاف بين القوي والشخصيات التي تشكل هذا التيار قد برز منذ انتخابات الرئاسية الماضية وأصبح واضحا للعيان مع البدء بتشكيل قوائم انتخابية في انتخابات المجلس التشريعي القادم، مما حال حتى الآن دون بلورة تيار ديمقراطي ثالث في الحياة السياسية الفلسطينية، يكون في استطاعته أن يكون شريكا في النظام السياسي الفلسطيني ، وقادرا على كسر الثنائية السياسية داخل الحياة الفلسطينية.
نشرت الصحف الفلسطينية منذ أسابيع أخبارا عن لقاءات واجتماعات لقوي متعددة قيل أنها تيار ديمقراطي جديد، وأنها في طور إقامة شكل نهائي لقوي هذا التيار. إلا أن الحديث كان عن تشكيل قوائم لتيارات "ثالثة" للانتخابات التشريعية وليس عن تيار ثالث واحد. لقد أصبح واضحا للعيان أن هناك محاولات تجري لتفكيك التيار الديمقراطي من خلال بعض الأعضاء الجدد عليه، وقد برزت تجليات هذا بوضوح خلال الانتخابات الرئاسية مع وجود أكثر من مرشح للرئاسة يتنافس على موقع الرئاسة، وكان رفض تنازل اثنين منهم لصالح المرشح الأكثر حظا وحضورا بين الجماهير مؤشرا على ذلك، بعد أن أغلقا الطريق والفرصة لإنجاح الحوار وتجاهلا غياب مصلحة التيار الديمقراطي في وجود أكثر من مرشح في هذه المعركة الحاسمة، ومدى انعكاس ذلك على مستقبل استكمال بناء وتطوير التيار الديمقراطي.
هناك جملة من العوامل الذاتية والفردية داخل التيار تحول دون اتفاق أطراف التيار الثالث وتوحيد صفوفه. فالعصبوية التنظيمية والمصالح الخاصة والشخصية والتنظيمية الأنانية، وضيق الأفق، والأوهام والمراهنات التي ستثبت الأيام بطلانها، ما زالت تحول دون استمرار الحوار بين الفصائل وتحقيق الآمال التي عقدها المخلصون من أبناء هذا التيار. وإذا لم يستطع التيار الثالث أن يوحد صفوفه لخوض الانتخابات التشريعية، وخاضت فصائله الانتخابات بصورة منفردة فربما يصاب بضربة قاتلة، حيث سيعجز العديد من فصائله وشخصياته عن تحقيق تمثيل فى المجلس التشريعي القادم أو ستحصل على تمثيل ضعيف، حيث يساعد القانون على إنجاح ممثلي الفصائل الكبيرة، وما تكتله من عائلات وعشائر.
كيف يمكن أن يخرج هذا التيار من أزمته والأزمات اللاحقة لتجنب اندثاره وتفتته، خاصة في الانتخابات التشريعية القادمة؟ ربما يجب التركيز على القضايا التالية:
أولا: على التيار الديمقراطي أن يهتم بصياغة برنامجه السياسي الاجتماعي خاصة قضايا الفقر والبطالة وترسيخ قيم العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والفوضى واعتبار أن سيادة القانون معركة لا تقل أهمية عن مواجهة الاحتلال الإسرائيلي مع ضرورة الحفاظ على الثوابت الوطنية.
ثانيا: أن يتمسك بضرورة التوحد مهما كلف الأمر، بحيث يتجاوز المحاصصة لصالح تقاسم المواقع بطرق ديمقراطية، والاتفاق على آليات وإجراءات واضحة في هذه العملية، وتبنى منهج الشفافية في حملاته الانتخابية .
ثالثا: أن يقدم هذا التيار شخصيات تتسم بالوطنية والأخلاق والقدرة على المساهمة في حياة برلمانية ديمقراطية، وأن يكون الجمهور الفلسطيني على ثقة من أدائها واستعدادها للالتزام ببرنامج ورؤية التيار الوطني الديمقراطي، وامتلاك آليات واضحة لمراقبة ومحاسبة ممثليه داخل البرلمان.
لا شك أن قوة هذه التيار ستتعزز إذا نجح فى ضم كل قوى المعارضة الديمقراطية، كما أن قبول جميع الفصائل الفلسطينية بوقف الأنشطة العسكرية، وإعلان التهدئة وانضواء الحركات الإسلامية في النظام السياسي يفتح الباب على مصراعيه لتطور نمط المقاومة والكفاح الشعبي الجماهيري الذي برزت من خلاله قدرات القوى الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني.






No comments: