مقدمة
انطوت صفحة الانتخابات الرئاسية في مصر ببقاء حسني مبارك في الحكم. فهل تحققت نبوءة "الواقعيين" بأن لا شيء سيتغير في هذا البلد، وبأن التعديل الدستوري لفتح منصب رئيس الجمهورية لكل الحالمين به لم يكن أكثر من مسرحية هزلية ستؤدي إلى إعادة إنتاج الوضع القائم؟ في الحقيقة لا. فمصر 2005 ليست كمصر عام 2004، لقد بدأ الماء السياسي الآسن في الحركة بعد أن زكمت رائحته الأنوف، خاصة في السنوات الأخيرة حينما وصل نظام يوليو إلى مرحلة الشيخوخة التي تميزت بتحلل وركود سياسي ليس له نظير في تاريخ مصر الحديث. بتعديل المادة 76 دُفع النظام دفعاً إلى قبول درجة أعلى من التسييس للحياة في مصر، يمكن للمعارضين فيها أن يتحركوا بشكل أكثر حرية للمطالبة بإسقاط النظام القائم. وهو ما فعلوه في حدود قدراتهم ومواردهم، فنجحوا أحياناً وفشلوا في أحيان أخرى.
لقد نجحوا في إيصال صوت جديد إلى بعض المصريين، صوت يتحدث بلغة جديدة لم يتح لهذا الشعب أن يستمع إليها منذ نصف قرن. وتحقق ذلك جزئياً بفضل الاستخدام الجيد نسبياً لوسائل الاتصال الحديثة – الانترنت والفضائيات - والتي لجأت إليها الحركة الديمقراطية أخيراً للهروب من سيطرة الدولة على كل وسائط الاتصال الأخرى. هذا الصوت الديمقراطي الجديد نجح في الوصول إلى بعض الناس، ولكنه لم ينجح في استمالة معظمهم لكي يشاركوا لوضع حد للاستبداد السياسي في مصر، فالمسألة لا تزال في بدايتها.
لا زال التيار الديمقراطي المصري في مرحلة تشكله الأولى، وهي مرحلة الدعوة لإنهاء الاستبداد. ولكن لكي ينجز التيار الديمقراطي مهام إقامة نظام سياسي حر عليه أن ينتشر في المجتمع، عليه أن يحصل على تأييد جماعات وفئات من الناس تلتقي مصالحها مع الحرية السياسية والديمقراطية. وهذا ما نفتقر إليه في مصر حتى هذه اللحظة. المزيد من الناس يميلون إلى تبنى الفكرة الديمقراطية، ولكن أقل القليل قد اقتنع أن الديمقراطية ستحقق مصالحه المباشرة، أو تتيح له مصادر للقوة تسمح له بتحسين شروط حياته المادية والمعنوية. الناس مهمومون بتأمين حياتهم اليومية الشاقة المليئة بالتحديات والكوارث التي تتهددهم طوال النهار والليل، والتي قد تجهز عليهم لو التفتوا إلى اليمين أو اليسار. لذلك فالناس تسير في طريقها المرسوم لا تلتفت حولها حتى تصل إلى بر "الأمان"، الذي لا يصلون إليه أبداً.
لا تزال الحركة الديمقراطية محصورة في أوساط النخبة التي يميل بعض أفرادها إلى تبني الديمقراطية كقيمة في حد ذاتها. ولكنها لم تستطع جذب فئات وجماعات واسعة على أساس أن الديمقراطية ستخدم مصالحها الاقتصادية والاجتماعية. كم فردا شارك في المظاهرات الأخيرة لأنه يتوقع من النظام الديمقراطي أن يغير حياته اليومية إلى الأفضل؟ أقل القليل. كم تيار سياسي له برنامج سياسي/ اقتصادي ديمقراطي. هناك برامج سياسية ديمقراطية ولكن ليس هناك برامج اجتماعية مرتبطة بالآليات الديمقراطية. برامج التيارات السياسية في مصر لها أن تتحقق نظرياً دون أي حاجة لنظام ديمقراطي. فالتيار الإسلامي يمكن له أن يقيم دولته الورعة عن طريق صندوق الانتخابات أو عن أي طريق أخر، والتيار "الليبرالي" يمكن له أن يقيم دولة "نمر على النيل" أي الدولة القائدة للنمو الرأسمالي بدون ديمقراطية، والتيار اليساري له أيضاً أن يؤسس دولته الاشتراكية بواسطة الحزب القوى وبدون تجذير الآليات الديمقراطية. وبالرغم أن هناك أنصارا للديمقراطية في التيارات السياسية في مصر، فإن الحرية والديمقراطية لم تتجذر بعد في برامجها. البرنامج الديمقراطي الشامل ليس مجرد برنامج قديم أضيف له ملحق عن الحقوق الديمقراطية، وإنما برنامج انبنى منذ البداية من داخل الفكرة الديمقراطية.
لقد فكرنا في هذا الملف انطلاقاً من الفرضية اليسارية التقليدية وهي أن الصراع السياسي عموماً، وحول الديمقراطية على وجه الخصوص، ليس منبت الصلة عن المصالح المباشرة للأفراد والجماعات، ولا يدور بمعزل عن التطورات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد. وعلى هذه الأرضية قررنا أن نتعرض "لقوى ومشكلات التغيير في مصر". الواقع الاقتصادي والاجتماعي يتطور، هناك فئات اجتماعية صاعدة، وهناك فئات أخرى في حالة غروب. ففي الوقت الذي تتحلل فيه البيروقراطية العليا الحاكمة لأنها استنفذت تماماً أي دور تاريخي لها، تعلو أسهم الرأسمالية المصرية. قد نختلف في تقييمنا لدور هذه الطبقة، ولكن من الصعب أن نختلف على أن مصر تشهد نمواً تراكمياً في العلاقات الرأسمالية، حتى لو ظل هذا النمو تحت إشراف وسيطرة البيروقراطية الحاكمة. والحقيقة أن نمو الرأسمالية يؤدي بالضرورة إلى نمو فئات أخرى تعمل لديها ومرتبطة بها، مثل "الطبقة الوسطى الجديدة" والطبقة العاملة التي تشتغل لدى القطاع الخاص. ومن هنا فقد خصصنا ثلاث مقالات في الملف للتعرض لعلاقة هذه الفئات الثلاثة بعملية التغيير السياسي. هذه المقالات لا تنتهي إلى إجابات تبسيطية مريحة، من نوع أن الطبقة العاملة الجديدة هي طبقة ديمقراطية. فمواقف الفئات الاجتماعية في المجال السياسي تتوقف على اعتبارات كثيرة اقتصادية وسياسية، كما أن تتغير تبعا للظروف. لكننا بشكل عام نرى أن نمو وتطور الطبقة الرأسمالية وبالتالي اتساع رقعة الطبقات العاملة لديها (الوسطى والعاملة) ينمي من فرص التيار الديمقراطي في التوسع والانتشار.
وبالتوازي مع نمو العلاقات الرأسمالية التي تنتشر في مصر تشهد الساحة الفكرية والاجتماعية والفنية تغيرات مهمة وإن كانت في بدايتها. فمن ظهور دعاة إسلاميين جدد، ينتهجون أساليب جديدة في الدعوة، لا يخفى على الكثيرين مدى تأثرها بالنزعة البروتستانتية المحافظة التي تجتاح بعض البلاد، خاصة الولايات المتحدة، ومدى تلونها بالفردية التي تتلازم مع نمو الرأسمالية، ومدى تكيفها مع احتياجات فئات اجتماعية تبحث عن تدين من نوع جديد ليس بمقدور المؤسسات والأفكار الدينية التقليدية تلبيته. هكذا فقد خصصنا مقالاً في هذا الملف لقضية التدين "البورجوازي" الجديد للطبقة الوسطى والذي يعمل على تنميته دعاة مثل عمرو خالد. كما أجرينا حديثاً مع باتريك هينني، أحد الباحثين الذين عملوا طوال السنوات الأخيرة على رصد هذه الظاهرة وتحليلها. وقد خصصنا في هذا الملف أيضاً مقالاً لمتابعة وتحليل جيل التسعينات من الفنانين، وهو الجيل الذي يمكن فهمه من خلال عنوان رئيسي وهو الفردية. فبفعل شيخوخة وأفول نظام يوليو لم يعد هذا النظام قادراً على حشد الفنانين خلف ما كان يسمى بالمهام والقضايا القومية الكبرى، وبفعل ضعف موارد الدولة الناتج عن أزمتها المالية أصبحت أجيال من الفنانين تعتمد على مصادر خاصة (محلية وأجنبية) في تمويل منتجاتها الفنية. وقد انعكس ذلك في نمو ميل الفنانين للتعبير عن همومهم الفردية، وهو أمر الذي قد يثمنه البعض باعتبار أن الفن الحقيقي لابد وأن ينطلق من التجربة الفردية الحقيقية المعاشة للفنان، ولكنه يمكن أن يقلق البعض الأخر باعتبار أن الإغراق في الفردية ليس إلا تعبيراً عن اغتراب اجتماعي للفنان عن المجتمع الواسع.
علاوة على ذلك تعرضنا لقضية "الإصلاح من الداخل" من خلال التعرض لأكثر صياغات "التيار الإصلاحي في الحزب الوطني" تبلوراً من خلال كتابات مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، عبد المنعم سعيد، والذي يلعب دوراً بارزاً في أمانة السياسات. نحاول في هذا المقال تبيان تناقضات وحدود الخطاب الإصلاحي الذي يطرحه هذا الكاتب.
بالإضافة إلى ذلك تعرضنا لبعض الفئات الاجتماعية الأخرى التي كان لها صوت مرتفع داخل حركة التغيير العام الماضي وعول عليها بعض الناس أكثر من اللازم، فتناولنا دور المتعلمين من خلال قد حركة كفاية بالذات، باعتبارها نموذجاً للتجمعات التي لا تزال حركيتها السياسية محدودة بمنطق التظاهر الذى يجسد تقيدها بالإيديولوجيا القومية وفكرة "الطليعة" التي تخترقها، وتجعلها تتصور أنها تمثل تلقائيا قيادة شعب بأكمله. كما تناولنا حركة القضاة لبيان حدودها بالرغم من تقديرنا لأهمية المواقف التي اتخذتها هذه الفئة الاجتماعية طوال العام الماضي. وحدود دور القضاة ينبع من طرحهم نوعين من المطالب، نوع يخص مصالحهم الفئوية كقضاة، ونوع أخر يخص مصالحهم كمواطنين يرغبون في العيش في بلد حر، وأن السلطة تساوم بالنوع الأول من المطالب لكي يتخلى القضاة عن المطالب الديمقراطية العامة، وهو الأمر الذي يقبله قطاع من القضاة. هذه هي حدود الحركة الحالية للقضاة، فالمنطق يقول أن القضاة لا يمكن أن ينوبوا عن مجتمع بأكمله في النضال الديمقراطي.
نتعرض في هذا الملف أيضاً للقضية الطائفية في مصر، باعتبارها مشكلة مفصلية في بناء "الجماعة الوطنية" القادرة على انجاز مهام التغيير. كانت "الوحدة الوطنية" التي توصلت إليها النخبة المصرية في عام 1919 هي أحد أهم أدوات بناء التوافق الوطني حول طرد الاحتلال البريطاني في مصر. فبالرغم من قلة نسبة المسيحيين في مصر (حوالي 10%) تبدو مشاركة قطاعات منهم محورية في أي حركة تدعي لنفسها تمثيلاً "قومياً". لقد صاغت ثورة 1919 "الوحدة الوطنية" ارتكازاً على شعار "الدين لله والوطن للجميع". وهذا الشعار تجاوزه الزمن، لأن القضية الخلاف الطائفي في مصر ينصب على طبيعة الدولة وليس على طبيعة الوطن، لذلك ربما يكون الشعار الأنسب الذي يطرح إجابة ما على قضية تجاوز الطائفية في مصر، هو شعار "الدين لله والدولة للجميع".
بهذا نكون قد تعاملنا مع بعض قوى مشكلات التغيير السياسي في مصر. وللأسف يغيب عن تناولنا مسألة مفصلية في بناء "التوافق الوطني" حول التحول الديمقراطي وهي علاقة الرجل بالمرأة وعلاقة المجتمع بالمرأة. فكما أن "الوحدة الوطنية بين عنصري الأمة" كانت أساسية في بناء "التوافق الوطني" حول التحرر من الاستعمار، فإن "تحرير المرأة" كان من ضمن البرنامج الاجتماعي لنخبة 1919. وبالقياس على ذلك يمكن القول أنه لن يكون هناك حركة ديمقراطية واسعة في مصر إلا بالتوصل إلى حل لقضية العلاقات المتردية بين الجنسين في هذا البلد. لكن ربما لأهمية الموضوع، ولقصور معرفتنا به، لم يتسن لنا أن نطرح جديداً لحل هذه المعضلة. ولكننا سنعود إليها بالتأكيد في عدد قادم، لأنها قضية لا يستقيم الحديث عن الحرية والديمقراطية في مصر دون التعرض لها.
وإذا كان لنا أن نبسط الأمور من أجل التلخيص، يمكن لنا القول بأن تعرضنا لقوى ومشكلات التغيير في مصر، قد انتهى بنا إلى الخلاصة الآتية: هناك تحولات اقتصادية واجتماعية تحدث في مصر تزيد من فرص الحركة الديمقراطية في الاتساع وفي جذب أنصار لها من بعض الفئات الاجتماعية. وهناك تحولات فكرية تتجه نحو الفردية والإنجاز والحرية وتهجر القاموس السياسى والثقافى الشعبوى القديم، تواكب هذا الحراك الاجتماعى وتدعمه. هذه التحولات فى مجملها لن تأتي بالضرورة بالديمقراطية، ولكنها تفتح الطريق أمامها.
صوت ديمقراطي جذري
29.8.06
قوى ومشكلات التغيير في مصر
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment