صوت ديمقراطي جذري

29.8.06

بناء الدولة الوطنية الديمقراطية والنظام الدولى: هل من معادلة جديدة؟


عمرو عبد الرحمن


يمثل احتكار الأجهزة الأمنية لصياغة السياسة الخارجية وتعريف "المصلحة الوطنية" بصددها ركيزة أساسية للنظام السياسى القائم، وسببا رئيسيا لمحدودية الإنجاز على صعيد العلاقات الخارجية وتحقيق المصالح المصرية فى المنطقة، ودافعا لإشاعة نمط إيديولوجى غير فاعل من العداء للغرب على أساس مبدأ الهوية، تبنته المعارضة فى صراعها مع النظام. فى هذا المقال يحاول عمرو عبد الرحمن أن يصوغ موقفا يساريا ديمقراطيا أوليا يُخضع استراتيجية العلاقات مع النظام الدولى والإقليمى لمقتضيات بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، التى تقوم على تحالف ديمقراطى واسع وتستفيد من بيئة دولية مواتية لمثل هذا المشروع.

على مدار ثلاثة عقود خلت أو أكثر حظيت المقارنة بين مشروعى محمد على وجمال عبد الناصر لبناء الدولة الوطنية الحديثة باهتمام غير مسبوق بين الدارسين والنشطاء السياسيين المصريين. ومصدر الجاذبية فى هذه المقارنة واضح: تجربتين لبناء الدولة الوطنية، تعتمدان على الذات وتسعيان لإقامة علاقات متوازنة مع السوق الرأسمالى العالمى، تنهاران تحت وطأة هزيمة عسكرية أمام القوة الإمبريالية المهيمنة على النظام الدولى. ويستنتج غالبية الباحثين فى هذا الشأن نتيجة واحدة تبدو وكأنما أعدت سلفا وتردد بشكل ميكانيكى، وهى أن أى مشروع للنهوض الوطنى المصرى سيكون لزاما عليه الاصطدام بالقوى المهيمنة على النظام الدولى، وهى قوى غربية فى مجملها. ولما كان حديث الإصلاح السياسى الدائر فى مصر لا يعنى فى جوهره إلا إحياء مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية الحداثية، كان لزاما على النشطاء السياسيين الحاملين لهذا المشروع الإصلاحى بحث هذه الفرضية بحثا جادا والإجابة على السؤال الذى تطرحه، وهو هل الصدام مع النظام الدولى القائم حتمى أم أن هذا النظام يشكل، الآن على الأقل، بيئة مواتية لنمو هذا المشروع نموا ناجزا؟
سنغامر بالإجابة على هذا السؤال كالتالى: ليس قدرا على مشروع بناء الدولة الوطنية المصرية أن يصطدم بالقوى المهيمنة على النظام الدولى، بالعكس، يتيح هذا النظام القائم منذ نهاية الحرب الباردة فرصا لنمو هذا المشروع أكثر من أى وقت مضى. من جهة أخرى، سنغامر بافتراض أن شيوع هذه النظرة التشاؤمية مرده فى التحليل الأخير إلى هيمنة أطروحات الإنتليجنسيا الوطنية المنتمية إلى نهاية الستينيات بإيديولوجيتها القومية/ الشعبوية على ساحة الجدل الفكرى والسياسى فى مصر منتفعة من أجواء الحساسية تجاه الغرب "الاستعمارى" التى نشرتها الناصرية ولم يقاومها أو يسعى النظام الحالى لاستبدالها بأى خطاب إيديولوجى بديل. أكثر من ذلك، نفترض أن هذه الإنتليجنسيا بأطروحاتها تلك قد تواطأت على احتكار الأجهزة الأمنية، دون غيرها، لعملية صنع السياسة الخارجية المصرية. فى ضوء هاتين الفرضيتين سنحاول صياغة رؤية بديلة بشأن إدارة البيئة الخارجية لمشروع بناء الدولة الوطنية تستهدف تحقيق مصالح تحالف اجتماعى عريض غير خاضع لهيمنة الإيديولوجيا الناصرية.

سياسة الاحتكار الأمنى للسياسة الخارجية
نقطة البدء فى تحليلنا هى منتصف السبعينيات، والتى نؤرخ بها لبداية تحلل طويل المدى لنظام الاستبداد الشعبوى الذى أرست الناصرية دعائمه. يرتكز هذا النظام على حكم البيروقراطية بالتحالف مع البرجوازية الزراعية والشرائح العليا من الطبقة الوسطى الجديدة. واحتلت البيروقراطية بجناحيها المدنى والعسكرى موقع الطبقة القائدة لهذا التحالف والمحتكرة لعملية صنع القرار بما فى ذلك إدارة العلاقة مع النظام الدولى. وقد تم تأمين هيمنة هذا التحالف، بما فى ذلك موقع البيروقراطية القيادى داخله، من خلال إنشاء دولة كوربوراتية (أى قائمة على تجميع المجتمع فى منظمات مصالح، نقابات عمالية مثلا، تحت الهيمنة المباشرة للنظام) لا تعترف بالمبادرة الحرة للأفراد ولا تدعوهم للمشاركة فى عملية صنع القرار بقدر ما تعترف بحقهم فى نصيب عادل من فوائض النمو المتحقق. ويتحقق ذلك من خلال ما يطلق عليه الزبونية: وهى آلية توزيع هذه الفوائض داخل تلك التنظيمات الفئوية من نقابات عمال واتحادات أهلية ونقابات مهنية ومنظمات أعمال، والتى انضوت جميعها فى تنظيم سياسى واحد هو الاتحاد الاشتراكى العربى، كان هدفه ضبط المجتمع وليس تسييسه. ومع مواجهة هذا النظام لأزمات انهياره الأولى بعد هزيمة 1967 بدأت بوادر تحلله تظهر للعيان. على أنه من المعروف أن تحلل هذا النمط الإدماجى من التنظيم لم يقترن بتحولات ديمقراطية جذرية تدرج قطاعات أوسع من المواطنين فى عملية صنع القرارات الاستراتيجية للمجتمع بقدر ما كسرت احتكار بيروقراطية الدولة لهذه العملية وأسست لاحتكار أوليجاركية من فلول هذه البيروقراطية متحالفة مع شرائح رأسمالية احتكارية صاعدة.
وجاءت أولى إرهاصات تأسيس هذا النمط مع توجيه ضربة قاصمة للاتحاد الاشتراكى العربى: الجهاز السياسى للبيروقراطية المهيمنة لصالح الحاكم الفرد خلال أزمة مايو 1971. وفى أعقاب هذه الأزمة حملت الرياح كثيرا مما لم تشتهِ سفن الحركات الديمقراطية المصرية حيث تم تصفية النمط التعبوى للمشاركة وأصبح المواطن غير مطلوب منه حتى التأييد الشكلى للبيروقراطية، وتم تكريس احتكار القلة للقرار السياسى بتحويل جميع الملفات الاستراتيجية إلى غابة من الأجهزة الأمنية بعيدا عن تقلبات المجال السياسى غير المأمونة، والذى لم تعد تثق به الأوليجاركية الحاكمة كساحة مناسبة لإعادة إنتاج هيمنتها. ومع مرور الوقت فرضت هذه الأجهزة إيقاعها ومنطقها الخاص على إدارة هذه الملفات الاستراتيجية: الهدف الرئيسى من عملية الإدارة تلك هو منع الأوضاع من التدهور والإبقاء عليها تحت السيطرة، الأمر الذى يعنى عدم الإخلال بأى من المصالح الموروثة حتى لو اقتضى الأمر انتهاج سياسات متضاربة فى ذات الوقت. والمحصلة متروكة لتخمينك عزيزى القارئ، وإن كان من الواجب التذكير ببعض ملامحها: تراجع السياسة من حيث هى تدبر عقلانى/ إبداعى لخيارات استراتيجية من أجل الوصول إلى بدائل تحظى بأكبر قدر ممكن من الإجماع مقرونا بترهل البيروقراطية التى أصبحت معدومة المسؤولية تقريبا عن أىٍ مما هو موكل إليها من مهمات، وترتب على ذلك تفش غير مسبوق للفساد. بكلمة واحدة: تراجع الميراث المؤسسى الرشيد للدولة الوطنية لصالح إدارة تصريف أعمال تدير أزمة ممتدة دون أى أفق سياسى للمستقبل، وهو ما يُعَد الرئيس مبارك المولع "بالاستقرار" خير ممثل له.
بالطبع لم يكن ملف علاقات مصر بالنظام الدولى استثناءا من عملية التحول تلك. على العكس تماما، جاءت عملية احتكار هذا الملف على قائمة أولويات النظام الحالى، وسرى عليه ما يسرى على بقية الملفات الاستراتيجية الكبرى. لا أدل على ذلك من الدور الذى يلعبه الرجل القوى عمر سليمان، رئيس جهاز المخابرات العامة، فى مد الصلات المباشرة مع إسرائيل أو التوسط بين الفصائل الفلسطينية المسلحة. كذلك الحال بالنسبة للسودان، الذى أضحى منذ فترة طويلة ملفا أمنيا خالصا. أما عن العلاقة مع الشركاء الاستراتيجيين للنظام المصرى وعلى رأسهم الولايات المتحدة فحدث ولا حرج. هذا ناهيك عن التداخل المتصاعد بين عمل الخارجية المصرية وعمل أجهزة المخابرات، الأمر الذى انتهى على المستوى اليومى إلى ازدواجية معترف بها بحكم الأمر الواقع فى الانتماء الوظيفى لحوالى نصف الطاقم الدبلوماسى المصرى. واقترن ذلك التطور الخطير بتخصيص إدارة جديدة فى جهاز مباحث أمن الدولة معنية بإدارة اتصالات مباشرة مع السفارات الأجنبية الموجودة فى القاهرة بغير الرجوع إلى تعقيدات البيروقراطية فى الخارجية المصرية.
وتشمل الملفات الأمنية أيضا الملف الاقتصادى والعلاقات الاقتصادية الدولية. فكما يعرف الجميع، ترفع أجهزة الأمن القومى الفيتو تجاه العديد من الإجراءات الاقتصادية التى أوصى بها صندوق النقد الدولى، خصوصا فى مجال رفع الدعم عن السلع الرئيسية، خوفا مما يمكن أن ينجم عنها من اضطرابات وانفلات أمنى (وهو ما بات يعرف فى الصحافة العالمية باسم عقدة يناير المصرية، فى إشارة واضحة لانتفاضة الخبز التى أعقبت تحرير أسعار عدد من السلع الأساسية). أكثر من ذلك مازالت هذه الأجهزة تلعب الدور الأهم فى عرقلة عدد من الاتفاقات الاستراتيجية مع العديد من الأطراف الدولية، خصوصا الأوروبية منها، على الرغم من انتهاء كافة الأعمال التحضيرية.
غير أن سياسة الإبقاء على الأمر الواقع وإعادة إنتاج الموروث قد أدت لاختلالات عميقة فى أداء النظام المصرى على الصعيد الدولى، عنوانها العجز عن صياغة هوية وتوجه واضحين للسياسة الخارجية المصرية. فقد ورث النظام الأمنى هذا ميراثا متناقضا للسياسة الخارجية المصرية: تقاليد ناصرية شبه إمبراطورية تحكم حركة مصر فى محيطها العربى، تتصادم أحيانا مع المصالح الأمريكية فى المنطقة، ومشروعا ساداتيا غير مكتمل لإعادة تعريف المحيط الإقليمى لمصر فى ارتباطه بالشرق أوسطية، وعلامته الأبرز هى السلام "المنفرد" مع إسرائيل. حاول نظام مبارك أن يمسك العصا من المنتصف من خلال السعى الدائم للحفاظ على دور الزعامة الإقليمية المصرى فى المحيط العربى دون توريط نفسه بلعب دور نشط فى أىّ من الصراعات الإقليمية الدائرة على حدوده، وهى معادلة يعد استمرارها من المستحيلات. يستثنى من ذلك حسم النظام لأحد الخيارات الاستراتيجية الكبرى وهو الاشتراك فى حرب الخليج الثانية.
بخلاف ذلك ظل السلام مع إسرائيل باردا، حتى هذه اللحظة، ولم تسعى مصر إلى الاستفادة من الممكنات التى تتيحها أجواء السلام مع إسرائيل، إلا على استحياء شديد من خلال إجراءات اقتصادية بالأساس كتوقيع اتفاق الكويز. فى المقابل لم تذهب مصر بعيدا فى دعم الطرف الفلسطينى، وظلت العقلية الأمنية المصرية العتيدة متحفظة بشدة تجاه أى انخراط نشط فى دعم الأمن الفلسطينى إلى أن قبلت بذلك فى ظل ظروف أسوأ بكثير نتيجة محدودية خياراتها الاستراتيجية. وعلى الصعيد العراقى كان الارتباك سيد الموقف. فبينما أعلنت مصر رفضها القاطع للحرب على العراق بادرت بعد شهور قليلة بالعمل ضمن الإطار الإقليمى والدولى لدعم الحكومة العراقية الوليدة. وبعدها بشهور أقل كانت الخارجية المصرية تعلن أنها لن ترفع تمثيلها الدبلوماسى فى العراق نافية تعرضها لأى ضغوط أمريكية بهذا الشأن، حتى تم اكتشاف رفع التمثيل بعد خطف السفير المصرى وقتله. الأنكى هو تراجع الدولة المصرية أمام عصابات الزرقاوى وخضوعها لابتزاز الرأى العام الداخلى سريعا بتقليص البعثة الدبلوماسية المصرية.
ثم ماذا عن السودان؟ لم يسمح بأى دور سياسى نشط خلال حقبة الثمانينات يحول دون كارثة انقلاب مايو 1989 أو على الأقل يتنبأ بها. الأنكى من ذلك أن العقلية الأمنية الساعية إلى التكيف مع الأمر الواقع بأقل الخسائر المكنة فى التعامل مع الشأن السودانى زينت للنظام القبول بالترابى والبشير، ونشرت هستيريا التواجد الإسرائيلى بجنوب السودان عند منابع النيل كمبرر لهذا التأييد المشئوم. وكانت المحصلة النهائية هى تقلص "الدور" المصرى فى السودان، واضطرار النظام إلى الاعتراف بجارانج نائبا للرئيس السودانى بعد أن كان يوصم بالعمالة لإسرائيل. الطريف أن تقلص الدور المصرى فى محيطه الإقليمى اقترن بسعى مصر للحصول على مقعد دائم فى مجلس الأمن، وسعيها الدءوب لاستعادة أمجادها فى القارة الإفريقية والتى تواجه فيها منافسة شرسة مع جنوب أفريقيا. هل يذكر أحدكم تجمع الكوميسا الهزلى عندما سعت الدولة المصرية إلى غزو أسواق رواندا وبوروندى دون أى عائد اقتصادى واضح؟
اقترن هذا التدنى فى أداء السياسة الخارجية المصرية وتراجع "الدور" المصرى الإقليمى بتلفيقية إيديولوجية أثيرة لنظام مبارك تحتل فيها القوى الفاعلة فى النظام الدولى موقع المفاوض الصعب المتحين الفرص للانقضاض على "الدور" و"المكانة" المصريين، والذى تتطلب مواجهته حكمة وتمرسا لا يتحملان أى تأثر بعوارض الرأى العام، ولا تتوفر إلا لدى الأجهزة الأمنية. وهو ما يعنى عمليا نشر دعاية ديماجوجية تجاه الغرب لا تصدر عن أى عداء متأصل فى السياسة المصرية لتلك القوى بقدر ما تبرر احتكار الأمن للقرار السياسى الخارجى المصرى. هذا وقد أظهر النظام فى مصر قدرة يعتد بها على التكيف، والتلاعب بمؤتمرات مناهضة التطبيع ومظاهرات الشوارع التى تطالب النظام بمواقف أكثر صدامية مع الولايات المتحدة وإسرائيل. هل يوجد مثال أبلغ من أداء الإعلام المصرى فى أعقاب اندلاع الانتفاضة الثانية؟ لن نخوض كثيرا فى التفاصيل، ولكن ما يعنينا هنا هو التشديد على حقيقة أن تخبط السياسة الخارجية المصرية بين لعب دور إقليمى مهيمن والانكفاء الذاتى داخل الحدود لم يكن ناتجا عن خلل فى الأداء يمكن تصويبه بسلاسة بقدر ما نتج عن مصادرة السياسة الخارجية المصرية لصالح الأجهزة الأمنية بالانقلاب على التراث المؤسسى للدولة الوطنية المصرية وهى المعادلة التى تشكل شرط إعادة إنتاج القلة الحاكمة لهيمنتها السياسية والإيديولوجية.

تواطؤ المعارضة
فى ذات الوقت الذى بدأ النظام يصوغ فيه "لا توجهه" الخارجى مع منتصف السبعينيات، اتجهت غالبية قوى المعارضة القومية والإسلامية واليسارية، وحتى الليبرالية التقليدية ممثلة فى حزب الوفد الجديد، إلى تبنى مواقف شديدة الراديكالية تجاه علاقة مصر بالنظام الدولى. لن نتعرض هنا لفرضيات الحركة الإسلامية التقليدية أو الراديكالية، فقد نالت حظها من الاشتباك النقدى فى مواقع عديدة، ولكن ما يعنينا هنا هو أطروحات التيارات القومية العربية واليسارية بشأن طبيعة النظام الرأسمالى العالمى وعلاقته ببنية الدولة المصرية، إذ أنها ظلت لفترة طويلة محصنة من النقد، وكانت المحصلة هى هيمنتها على لغة الجدل السياسى اليومى فى الإعلام المرئى والمسموع والمقروء.
تتأسس هذه الرؤية على فرضية بسيطة مفادها أن القوى الرأسمالية الاحتكارية من شركات متعددة الجنسية وإمبراطوريات مالية كبرى، المحمية بظلال القطب الأمريكى الأوحد، ترتكن فى عملها فى الإقليم على طبقات محلية حاكمة، وظيفتها الموضوعية هى حماية تلك المصالح، وأن تلك الطبقات تستمد شرعيتها أساسا من العلاقة بـ"الإمبريالية"، ولا تبحث لها عن قاعدة تأييد محلى. فى هذا السياق يكون القمع أو الإيديولوجيا الدينية المحافظة هما السبيل الوحيد لحفظ شرعية هذه الأنظمة المتهالكة التى يستحيل عليها إنجاز مهمة التحول إلى رأسمالية ناجزة. وهنا يكمن الجذر التاريخى للتمييز بين أنظمة رجعية وأخرى ثورية أو تقدمية تسعى للإفلات من هذه العلاقة الشاذة عن طريق مواجهة الاحتكارات وظهيرها السياسى، الذى هو الولايات المتحدة. ويحدث ذلك عن طريق التأميم وإتباع إجراءات جذرية لتوزيع الدخل مثل الإصلاح الزراعى أو التوظيف واسع النطاق.
أضيف لاحقا إلى هذا النظام الفكرى المتماسك فرضية أخرى مفادها أن هذه الأنظمة بتبعيتها للولايات المتحدة تتواطأ موضوعيا مع إسرائيل ومحاولاتها المستمرة لفرض الهيمنة على العالم العربى، وهو ما عُرف لاحقا فى أدبيات الحركة القومية العربية فى جيلها الثالث بطبعاته الراديكالية الفلسطينية بمعضلة "التجزئة". ما يعنينا هنا فى هذه الأطروحات أنها تفضى إلى نتيجة وحيدة مفادها أن أى نضال ديمقراطى ضد الأنظمة القائمة مقدر له أن يصطدم حتما بالولايات المتحدة وإسرائيل ومن ورائهما الرأسمالية العالمية فى مجملها، وأن عليه تاليا أن يتوجه توجها عروبيا خالصا لمواجهة التجزئة وإنجاز مشروع توحيدى عربى خالص. فهل مازالت هذه الفرضية صالحة للتطبيق على واقع النضال الديمقراطى المعاصر فى مصر؟
للإجابة على هذا السؤال ينبغى العودة قليلا إلى الوراء. اكتسبت هذه التحليلات شعبية غير مسبوقة فى أوساط اليسار والقوميين وبعض الفصائل الإسلامية عندما تبنتها بالكامل فصائل الثورة الفلسطينية الصاعدة منذ منتصف الستينيات مثل حركة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية. ووجد هذا النظام الإيديولوجى قبولا حسنا لدى الإنتليجنسيا المصرية التى كانت موزعة ما بين التيارين اليسارى والقومى العربى، لأنه ملأ لديها فراغا إيديولوجيا خلفته الناصرية بعد هزيمتها. وإذا كانت الناصرية على شعبويتها وتوجهاتها العروبية التى لا تخطئها العين هى فى التحليل الأخير، على المستوى النظرى طبعاً بغض النظر عن التطبيق، مشروع لبناء الدولة الوطنية من خلال تعبئة الفوائض المحلية والقضاء على أشكال الإنتاج ما قبل الرأسمالية، لم تكنُّ هذه الرؤى الثورية القومية كثيرا من الود لفكرة بناء الدولة الوطنية أو حتى الاعتراف بوجود مشكلة تخلف فى القوى الإنتاجية. فالأزمة فى جوهرها وجميع أوجهها عندهم سياسية محضة ولا يمكن البحث عن بدائل لها من تخلف أو غيره من التحليلات التى تفترض مراحل سابقة على الثورات الموعودة لتقويض دعائم الدولة الوطنية؛ وهى التحليلات التى كانت سائدة خلال الأربعينيات فى صفوف الحركة اليسارية المصرية.
يمكن إرجاع هذا الافتتان جزئيا إلى ظروف نشأة هذه الإنتليجنسيا المصرية التى تشربت إيديولوجيا "الشعب المعلم" من أبواق الدعاية الناصرية بغير الانغماس فى أى فعل سياسى حقيقى قائم على تجميع وتعبئة مصالح هذا الشعب. فكل المطلوب هو التمثيل المجرد لهذا الشعب "العظيم" الذى لا يأتى حسه الباطل من بين يديه ولا من خلفه دون أية مسئولية حقيقية تجاه أبنائه. أضف إلى ذلك أن استبعاد كوادر هذه الإنتليجنسيا من أية ممارسة فعلية لصنع القرار (وهو جوهر فعل الدولة المدنية الحديثة) جعلها تستهجن أى نزوع إلى الرشادة أو التقنية فى صناعته. بعبارة أخرى كانت هذه الرؤى الرومانسية فى جوهرها تحمل خصومة لمنطق الدولة الوطنية الذى لا يتسع لتمثيل حرارة التصاقها بشعبها. فى النهاية توارت مفاهيم التخلف والتقدم والتنمية إلى الخلف لصالح مفاهيم الثورة و"الانتفاض". ومع توزع عناصر هذه الإنتليجنسيا على مختلف التيارات السياسة وغزوها لأغلب المواقع الإعلامية الفضائية الخارجة عن سلطة الدولة الوطنية سادت هذه الرؤية التبسيطية رويدا رويدا حتى أصبحت من قبيل البديهيات المستقرة. فمثلا يتحدث برنامج حزب التجمع عن أهمية تشكيل تحالف وطنى لبناء الدولة الوطنية القادرة على إنجاز مهمات النمو، فى حين أن الرؤية التى يتبناها كوادره مغرقة فى نزوعها السياسوى بشأن الصدام الحتمى مع الإمبريالية فى أى نضال ديمقراطى.
كانت هذه الرؤية قادرة على فرض جاذبيتها فى نهاية الستينيات مستظلة بالمد الثورى فى فيتنام وأمريكا اللاتينية. غير أن استمرار التشبث بمقولات أصبحت تنتمى إلى التاريخ الفكرى وفقدت صلاحيتها كنموذج تفسيرى لأمر يثير الدهشة. على أى حال ليس هذا مقام التعرض للانتقادات الموجهة لافتراضات مدرسة التبعية و امتداداتها فى الفكر السياسى المصرى. ولكن ينبغى التشديد على أن هذه التنظيرات المبسطة اتسمت بالتركيز المفرط على العلاقات البنيوية القائمة داخل النظام الدولى بغير أية إشارة لأدوار الفاعلين الاجتماعيين فى إنتاج وإعادة إنتاج هذه الأوضاع أو إدخال تعديلات جذرية عليها. فى هذا السياق لم تستطع هذه الأطروحات أن تقدم تفسيرا مقبولا لتجارب النمو الرأسمالى الناجح فى شرق وجنوب شرق آسيا وبعض بلدان أمريكا اللاتينية والتى أحدثت تعديلات جوهرية فى أوضاعها داخل النظام الدولى بغير صدامات دموية أو حتمية بالقوى الإمبريالية المهيمنة.
قد يحاجج البعض بأن هذه التجارب قد نشأت فى ظل رعاية أمريكية من أجل الحد من امتداد النفوذ السوفيتى لهذه البلدان. ولكن ماذا عن تجارب النمو فى شرق أوروبا، والتى اقترنت بمستويات من عدالة التوزيع لا تقارن بالسائدة فى بلدان المنطقة العربية، فى أعقاب انهيار النموذج السوفيتى وانتفاء الحاجة الاستراتيجية لمحاصرته؟ لا نجد تفسيراً منطقياً اللهم إلا بعض الإشارات لدور القوى الخارجية مثل الاتحاد الأوروبى فى دعم تجارب النمو فى أوروبا الشرقية. حسن، إذا كان هناك استنتاج يمكن الخلوص إليه بتتبع هذه التحليلات هو أنه على عكس فرضيات مدرسة التبعية كان الانفتاح على الاقتصاد العالمى بكل ما يحتويه ذلك من مخاطر أفضل للنمو الاقتصادى المحلى مائة مرة من كل تجارب "فك الارتباط" التى تحدثت عنها هذه النظريات. ويظل المعيار الحاكم إذن لنجاح أية تجربة هو مدى إخضاع العلاقات الاقتصادية الخارجية لضرورات التراكم المحلى وليس العكس، وهو ليس بالهدف المستحيل فى ظل أنظمة شرعية تستند فى حركتها على تحالفات اجتماعية واسعة كما هو الحال فى الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا.
هذا وتمدنا الحالة المصرية بالعديد من الأمثلة على تهافت هذا البناء النظرى/الإيديولوجى لأغلب الفصائل القومية واليسارية المصرية. تشير جميع الدراسات التاريخية والاقتصادية الموثقة إلى أن النمو الرأسمالى فى مصر، شأنه شأن بقية تجارب العالم لم يتخذ يوما مسارا خطيا ثابتا يعيد إنتاجه بغض النظر عن الحقب التاريخية التى يمر بها. أما من حيث اثر تلك العلاقات مع السوق الرأسمالى العالمى على استقلالية القرار الخارجى المصرى فلا نلحظ ذلك التزاوج الماهوى بين تزايد الاعتماد على السوق العالمى وتبعية القرار السياسى. بل نستطيع المغامرة بالقول بأن القرار السياسى المصرى كان أكثر حرية وقدرة على المناورة والإفلات من فخ سياسة الأحلاف الدولية خلال حقبتى الخمسينيات والستينيات، وهى الفترة التى تزايد فيها اعتماد الاقتصاد المصرى على السوق العالمى لتأمين احتياجات النمو المحلى من تكنولوجيا ومواد خام ناهيك عن الاقتراض المباشر من الخارج لتمويل النمو المحلى، خصوصا من الشريك السوفيتى. كل ذلك لم ينعكس، إلا فى أضيق الحدود بالطبع، على استقلالية القرار الخارجى المصرى. بل ولم يتمكن حتى من كبح جماح الانجرار المصرى للحرب مع إسرائيل عام 1967. على العكس من ذلك تماما، كانت المراحل التى اتسم بها القرار السياسى المصرى بتماهيه التام مع التوجهات الأمريكية على وجه الخصوص خلال حقبة الثمانينات هى الحقبة التى زادت فيها درجة تهميش الاقتصاد المصرى داخل الاقتصاد العالمى إلى درجات غير مسبوقة، سواء من حيث درجة اعتماد التراكم الرأسمالى المحلى على رؤوس الأموال الخارجية، فى شكل استثمارات مباشرة على سبيل المثال، أو من حيث الإسهام فى حركة التجارة الدولية. فى هذا السياق كان القبول ببرنامج الإصلاح الاقتصادى المفروض من صندوق النقد الدولى هو المحصلة الطبيعية للأزمة الاقتصادية التى تسببت فيها الإجراءات الاحتكارية التى توازت مع تدفق الفوائض البترودولارية على الاقتصاد المصرى مع نهاية السبعينيات. مع العلم أن هذه الإجراءات الاحتكارية لصالح القطاع العام والرأسمالية المحلية حظت بتفضيل شرائح ما يسمى بالبرجوازية الطفيلية والتى تحظى بالنصيب الأوفر من سهام النقد الإيديولوجى للإنتليجنسيا المصرية بوصفها القاعدة المحلية لعمل الرأسمال الاحتكارى العالمى.
وقد قاومت هذه الرأسمالية، وما زالت، مستغلة نفاذها المباشر إلى أجهزة الدولة، أية محاولة لإعادة النظر فى الإجراءات الحمائية التى يتبعها الاقتصاد المصرى لصالح هذه الشرائح الرأسمالية الموصومة بصفة الكمبرادورية. أى أن النظام المصرى دفع فاتورة انعزاله عن السوق العالمى وإجراءاته الحمائية من استقلالية قراره السياسى وليس العكس على الإطلاق. وكان رضوخه لضغوط المؤسسات الاقتصادية الدولية ناتجا عن فشله السياسى فى السيطرة على الأزمة الاقتصادية وليس نتيجة حتمية لعلاقة بنيوية ما مع النظام الرأسمالى العالمى. أكثر من ذلك تسقط هذه التحليلات تماما من حساباتها فترات النمو الرأسمالى التى تمت فى ضوء الانفتاح على آليات السوق الرأسمالى العالمى بغير صدام حتمى مع الإمبريالية الأمريكية. على سبيل المثال تتجاهل هذه التحليلات فترات النمو الصناعى المحدود خلال الفترة الأولى من حكم مبارك أو خلال النصف الأول من عقد التسعينيات وتتعامل معها كأنها لم توجد قط، إذ أنها تتناقض جذريا مع تصوراتها الميتافزيقية عن الصدام الحتمى مع الرأسمالية العالمية. كذلك تستهجن هذه التيارات محاولة دفع النمو الرأسمالى المحلى وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة على يد المجموعات الليبرالية داخل الحزب الوطنى وهياكل الدولة المختلفة بغير سبب واضح على حد علمنا اللهم إلا الربط الميكانيكى بين تلك المحاولات وتبعية القرار السياسى الخارجى المصرى. بعبارة أخرى وبدون أية مبالغة، تحتفى هذه التحليلات بالتوجهات الصدامية مع الغرب الرأسمالى حتى وإن عصفت بمشروع النمو الرأسمالى المحلى "المعتمد على الذات"، وتستهجن أى نمو رأسمالى محلى مستند إلى برجوازية وطنية إذا لم يكن فى صدام محتدم مع الغرب. هل نحن فى حاجة إلى تبيان أن هذا القناع الأيديولوجى الواهى لمنظرى التبعية المصريين لم ينجح إلا فى صب الماء فى طاحونة القوى القومية والإسلامية التى تكن عداء للغرب من حيث هو غرب؟ لم يكن ذلك من قبيل الصدفة ولكنه كان نتاجا طبيعيا لإيديولوجيا الإنتلجسنيا الوطنية الناصرية والتى اغتنت من شيوع المحافظة التقليدية تجاه الانفتاح على الاقتصاد الرأسمالى العالمى والغرب الحداثى لدى جمهرة الفلاحين والبرجوازية الصغيرة والتى تم تعريفهم بدءا على أنهم "الشعب".
وهكذا اقترن الاستنكاف عن الخوض التفصيلى فى حديث العلاقة مع العالم الخارجى وكراهة الدولة الوطنية "بنت الاستعمار وقاعدته" بالضغط الدائم على النظام لاتخاذ مواقف أكثر صدامية على الصعيد الدولى تبدأ بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل ولا تنتهى بالإحجام عن إرسال السفراء للعراق استجابة لرغبات عصابة الزرقاوى وأتباعه. أصبح النظام هنا محور الضغط وأداته بغير أى دور للمعارضة فى صياغة إبداعية لبدائل للسياسة الخارجية المصرية. فليس من المتصور مثلا أن تتصدى قوى المعارضة لقطع العلاقات مع إسرائيل! ولاقى ذلك كله هوىً فى نفس النظام القائم إذ أنه كان تسليما مبطنا باحتكار النظام وأجهزته الأمنية لملف العلاقة مع الخارج كليةً، بل أن النظام استطاع استغلال هذه المشاعر العدائية لدى النخبة المعادية للغرب الرأسمالى فى توسيع هامش مناوراته الدولية والتى يحتكرها وحده أيضا. وفى هذا السياق، استقر الحوار المجتمعى حول إدارة البيئة الخارجية للتقدم عند مستوىً متدن من الجدل بين منظرى النظام/ الأمن ومناضلى المعارضة، يستبطن إقرارا من الطرفين بكراهة الانفتاح على النظام الدولى، مع اختلاف فى درجة هذه الكراهة، مشفوعا بإقرار ضمنى آخر بحق القلة الأمنية/ العسكرية البيروقراطية فى الاستئثار بهذا الملف دون غيرها من برجوازيات أو سياسيين يقال عنهم دائما أنهم مستعدون "لبيع الوطن بثمن بخس". فهل من بديل يستلهم أطروحاته بعيدا عن سيطرة الأجهزة الأمنية والإنتليجنسيا المستظلة بالرجعية الريفية؟


محددات رئيسية لعلاقات مصر الخارجية
النقاط التالية تشكل النتائج التى يمكن استخلاصها من التحليل النقدى السابق، والتى يمكن اعتبارها فى نظرنا محددات أساسية لأى موقف من إدارة البيئة الخارجية لأى مشروع للنهضة المصرية. وعلى الرغم من الإقرار بإمكان الخروج ببدائل متعددة عن طريق التركيب بين هذه المحددات إلا أننا سنحاول الخروج برؤية يسارية ديمقراطية تأخذ فى اعتبارها المصالح التى تمثلها.
أولا: فى مختلف مراحل النمو الرأسمالى المصرى كان الصدام مع البيئة الخارجية من عدمه رهنا بالتوجهات السياسية للتحالف الاجتماعى الحاكم، وكانت استقلالية القرار السياسى الخارجى رهينة بكفاءة الأداء الاقتصادى من عدمه بغض النظر عن طبيعة النظام الاقتصادى القائم. وتمثل هذه الخلاصة أهمية قصوى لنا فى محاولة استلهام محددات رئيسية لموقف أية قوة ديمقراطية من إدارة البيئة الخارجية لمشروع بناء الدولة الوطنية، فى ضوء أن الصدام مع الخارج ليس قدرا محتوما، ويمكن تلافيه مع الاحتفاظ باستقلالية القرار المصرى فى ذات الوقت.
ثانيا: النظام فى مصر ليس خائنا أو عميلا لأحد. المشكلة تكمن فى عدم وضوح رؤية النظام بصدد سياسته الخارجية وتأرجحها بين السعى للعب دور إمبراطورى أو الانكفاء داخل الحدود، على نحو ما حاولنا أن نوضح. وقد نتج هذا التأرجح عن احتكار الأجهزة الأمنية لعملية تشخيص المصالح الوطنية وصياغة أهداف وتكتيكات السياسة الخارجية. وقد أسفر ذلك عن تدنى قدرة النظام على لعب أى دور إقليمى نشط، مما أنتج فراغا استراتيجيا هائلا فى الإقليم، كان من المنطقى أن تتقدم القوة الإمبراطورية الأمريكية لشغله.
لقد أصبح من مسلمات فكر العلاقات الدولية أن فائض القوة يحتاج إلى فراغ استراتيجى لتصريفه فى أشكال حروب أو مشاريع هيمنة. وظاهرة تصريف فائض القوة تلك كانت ملازمة لغالبية الإمبراطوريات الكبرى التى عرفها التاريخ، ومن ضمنها الإمبراطورية الأمريكية. ويتجه فائض القوة إلى مناطق الفراغ الاستراتيجى التى تتسم بتحلل أنظمتها السياسية وانهيار شرعيتها وليس إلى المناطق التى تشكل تهديدا حقيقيا للنفوذ الإمبراطورى. وهو ما يفسر جزئيا أن الحروب الإمبريالية الأمريكية الأخيرة كانت ضد يوغوسلافيا فأفغانستان فالعراق، وهى جميعا مناطق فراغ استراتيجى بالمعنى السابق ذكره، ولم تتجه إلى الصين مثلا أو المكسيك، وهى قوى صاعدة تشكل تهديدا حقيقيا لهيمنة الأمريكية على المدى البعيد. بعبارة أخرى، نحن ندفع من استقلالنا الوطنى فاتورة هامشيتنا فى الاقتصاد العالمى وتقوقعنا المحلى، على خلاف مقولة القوميين التى تعزو الهامشية إلى المؤامرات الاستعمارية الإمبراطورية.
ثالثا: النظام الدولى القائم و الذى خلف انهيار الإتحاد السوفيتى، وإن كان يتسم بالنزوع الإمبراطورى تحت قيادة القطب الأوحد الأمريكى والنزوع الاحتكارى الرأسمالى، إلا أنه ما زال يقدم بيئة مواتية لعديد من بلدان ما كان يعرف سابقا بالعالم الثالث لتحقيق مستويات أعلى من التنمية الاقتصادية والتنافسية والوصول إلى علاقات أكثر توازنا مع العالم الخارجى تخدم أهداف التنمية المحلية. ويعود هذا بالأساس إلى خفوت حدة التنافس الاستراتيجى المستعر بين القوى العظمى طوال فترة الحرب الباردة والذى كان وبالا على العديد من تجارب التنمية المبشرة فى مناطق الصراع الكبرى. هل يوجد مثل على ذلك أفضل من الشرق الأوسط والحالة المصرية على وجه الخصوص، والتى كانت الحروب المتكررة التى استنزفتها منذ حرب السويس وانتهاء بهزيمة 1967 بمثابة ضربات متتالية لمشروعها التنموى؟ ألم يكن التدخل الأمريكى والسوفيتى لدعم الانقلابات العسكرية المتوالية فى المنطقة بمثابة محفز دولى لنزع الاستقرار المطلوب لنمو الدولة الوطنية ببناها المؤسسية وهياكلها الاجتماعية الحديثة؟ ألم يكن التنافس الاستراتيجى على الموارد الطبيعية، وعلى رأسها النفط، داعما رئيسيا لتشجيع نمو الإيديولوجية الإسلامية المحافظة فى الجزيرة العربية وتخطيها لحدودها الجغرافية لتحظى بانتشار غير مسبوق بكل ما حملته تلك الإيديولوجية من عداء مبطن وظاهر لمشروع الدولة الوطنية؟ أعتقد أن بشائر تحلل كل ذلك بدت ظاهرة للعيان وأن فرص التحول الديمقراطى والنمو الرأسمالى السلمى بدون لغة الانقلابات أصبحت أعلى بما لا يقارن بشرط توافر القدرة على استغلالها.
رابعاً: استنادا إلى الفرضيتين السابقتين يمكن الوصول إلى استنتاج مبدئى مفاده أن الدولة المصرية يمكنها أن تنجز مستويات أعلى من التنمية الاقتصادية، وأن تصل إلى توزيع أكثر عدلا لعوائد هذه التنمية، وأكثر من ذلك أن تنتهج سياسة دفاعية وخارجية أكثر توازنا داخل ذات النظام الدولى القائم، شريطة إنجاز تعديلات جوهرية على تركيب التحالف الاجتماعى الحاكم وأنماط العلاقات التى ينسجها مع الطبقات الاجتماعية المسودة لصالح تلك الأخيرة. هذا التطور من شأنه فى نظرنا أن يكسر احتكار المؤسسات العسكرية والأمنية (والذى تواطأت على استمراره معظم قوى المعارضة المصرية)، لصالح مشاركة أرحب فى الجدل حول الخيارات الاستراتيجية للنظام المصرى، بما يجعل السياسة الخارجية أكثر موائمة لأهداف النهضة المحلية.

ملامح أولية لموقف يسارى ديمقراطى بشأن إدارة البيئة الخارجية للإصلاح
أولا: إن الأولوية القصوى لأى مشروع يسارى يستند على حلف اجتماعى واسع يضم كل العاملين بأجر هى استكمال بناء الدولة الوطنية الديمقراطية بما يتطلبه من مستويات نمو مرتفع وتوزيع عادل للدخل ومقرطة أعلى بكثير من المتحقق حاليا فى ظل النظام الحالى. فهذه القوى الاجتماعية فى حركاتها وأشكالها التنظيمية لا تميل بطبيعتها إلى المشاريع الهوياتية/ الإيديولوجية، وإنما إلى الحس العملى البراجماتى وترشيد سلوك الدولة بعيدا عن الجموح الإيديولوجى. وبالتالى لا يعبر مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية التى تدير علاقاتها الخارجية بمنطق تعظيم المكاسب وتحجيم الخسائر الممكنة عن رؤية فكرية مجردة بقدر ما يعبر عن ميل طبيعى لدى حلف اجتماعى صاعد ممكن، وإن كان لايزال يفتقر الى أشكال تنظيمه المستقلة عن بيروقراطية الدولة.
ثانيا: الاندماج فى الاقتصاد الرأسمالى العالمى أصبح حتمية لا ينبغى إضاعة المزيد من الوقت فى الجدل الإيديولوجى حولها. الجدل الحقيقى ينبغى أن يتوجه إلى كيفية تحقيق الاستفادة القصوى من هذه البيئة الدولية المليئة بالفرص والمخاطر لصالح الأغلبية. وعليه، ينبغى إخضاع العلاقات الاقتصادية الخارجية لمنطق التراكم المحلى والتوزيع العادل للثروة والدخل. وهو الأمر الذى يمكن تحقيقه من خلال فرض شروط موضوعية على الاستثمار المحلى والأجنبى بشأن حقوق العمال وظروف العمل، على أن تضطلع بهذه المهمة تنظيمات هؤلاء العاملين أنفسهم وليس بيروقراطية الدولة الكوربوراتية فى سياق ابتزازها لرأس المال. تشير تجارب النمو الرأسمالى الناجح فى بلاد يشتد فيها عود الحركات العمالية يوميا كالبرازيل والمكسيك وجنوب إفريقيا إلى أن رأس المال الأجنبى، والمحلى، عادة ما ينصاع لتلك الشروط فى حالة ضبط الفساد المستشرى فى أجهزة الدولة وتحجيم نفوذ البيروقراطية، فلا يمكن مواجهة الحركات الإجتماعية الصاعدة الى الأبد دون تقديم تنازلات جوهرية. مرة أخرى الصدام ليس قدرا.
ثالثاً: أخذا فى الحسبان الفرضيتين السابقتين، يمكن الخلوص إلى أن علاقات مصر بمحيطها العربى ينبغى إخضاعها للمصلحة الوطنية المصرية فى استكمال مشروع دولتها الوطنية وليس العكس. فسيبقى التنسيق المصرى/ العربى فى القضايا والتحركات الاستراتيجية فى مجال السياسة الخارجية المصرية ضرورة ورصيدا مهما للمناورة على الصعيد الدولى، خصوصا فى مجال تحجيم السياسات التوسعية الإسرائيلية التى تظهر على السطح بين الحين والآخر. بالإضافة إلى ذلك، سيبقى البناء على المشترك الثقافى المتحقق بالفعل بين الدول العربية قائما فى مختلف المجالات الممكنة للتعاون والإنتاج الثقافى. وفى هذا السياق تستثمر مصر رصيدا غير مسبوق من الحضور الإعلامى المتميز فى المجالات الأدبية والفنية المختلفة، أى أنها لا تنشئ توجها من العدم. أما الإصرار على لى عنق الحقائق والدفع بمشاريع التكامل التى يرتبها الجوار الجغرافى والمشترك الثقافى إلى آفاق لا تتحملها، كمشاريع للتوحيد السياسى على سبيل المثال، أو الإصرار على إنشاء سوق عربية مشتركة (وهى مشاريع تفتقر إلى كل من الحد الأدنى من القبول العام والمرتكزات المادية داخل كل بلد عربى على حدة)، لا ينتج فى الواقع إلا مزيدا من الأعباء على كاهل السياسة الخارجية المصرية لا تستطيع الوفاء بها، بالإضافة إلى فتور فى العلاقات العربية/ العربية يصاحب أية محاولة توحيد قسرى تقودها مصر أو غيرها.
آن الأوان أن تعترف القوى القومية والإسلامية وغالبية القوى اليسارية المصرية بأن النظام العربى القائم منذ نهاية الحرب العالمية الأولى والمتمركز على الدولة الوطنية هو نظام شرعى ويحظى بقبول عام داخل كل بلد عربى على حدة وأن قاعدة شرعيته تتزايد يوميا. ولا يوجد تعبير عن هذه الحقيقة أدق من أفول نجم الحركات القومية التى اجتاحت العالم العربى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وكذلك تحول الفصائل الكبرى من الحركات الإسلامية إلى التكيف مع واقع الممارسة السياسية على الصعيد الوطنى المحلى بغير أية طموحات أممية إسلامية جامعة، حتى لو أنكرت ذلك فى رطانتها الإيديولوجية. أكثر من ذلك، أن التعبئة الإعلامية الضخمة التى رافقت الانتفاضة الثانية ثم الحرب على العراق مضافا إليها ما تموج به شبكة الانترنت من مواد تحريضية وإمكانيات للتواصل ما بين القوميين العرب دون التقيد "بحدود الأقطار المصطنعة"، والتى تفوق أكثر أحلام ميشيل عفلق (المفكر البعثى) وردية بشأن وحدة النضال القومى، لم تساهم ولو بقدر ضئيل فى إقالة الحركة القومية العربية من عثرتها التى يبدو أنها ستطول. ولم تتحول الكراهية المتزايدة للسياسات الأمريكية فى المنطقة إلى رصيد تنظيمى للحركة القومية العربية.
رابعا: الحديث عن إعادة هيكلة علاقة مصر بمحيطها العربى يستتبع بالضرورة حديثا عن مستقبل علاقة مصر بالصراع العربى الإسرائيلى، والعلاقة بإسرائيل باعتبارها المنافس الاستراتيجى الأهم فى الإقليم. هنا أيضا تشكل فكرة رد الاعتبار لمشروع الدولة الوطنية نقطة البداية فى المناقشة. فى هذا السياق، يجب التذكير بإحدى البديهيات، وهى أن أى مشروع تنموى لا يمكن أن يكتب له النجاح فى ظل توتر إقليمى يهدد دائما باندلاع حروب تستنزف كل فوائض التنمية المتحققة بالفعل. وبالتالى يكون أحد أهم أهداف السياسة الخارجية فى مرحلة إطلاق النمو هى تحجيم احتمالات نشوب حروب إقليمية والابتعاد عن السياسات التى تفضى فى النهاية إلى ذلك. فالمواجهة مع إسرائيل لا يمكن ولا ينبغى أن تكون هدفا فى ظل أى مشروع تنموى طموح.
فى المقابل ستستمر مشكلة مواجهة الميول التوسعية للسياسة الخارجية الإسرائيلية. وهو ما لا يمكن أن يتم إلا بضغط متواصل على الولايات المتحدة لانتهاج سياسات أكثر توازنا فى علاقتها بإسرائيل. يضاف إلى ذلك توظيف الممكنات التى تتيحها العلاقات الأوروبية/ العربية فى إضافة المزيد من الضغوط على إسرائيل، خاصة من خلال توظيف الكيانات التى تضم أطرافا عربية وأخرى إسرائيلية كالمجالس المنبثقة عن اتفاقيات الشراكة مثلا، سواء كانت وزارية أو برلمانية. هذا ليس كلاما مرسلا، بل له ما يعززه على أرض الواقع من شواهد. على سبيل المثال يعتبر الانسحاب الإسرائيلى من غزة فى أحد أوجهه منتجا جانبيا لتوظيف ورقة الضغط الأمريكية والأوروبية بكفاءة عالية نجحت فى بناء إجماع فى تلك الدوائر على الانسحاب الإسرائيلى الكامل مقترنا بتفكيك مستوطنات القطاع. هذه إحدى الخبرات القليلة الناجحة لمؤسسات السياسة الخارجية المصرية والتى ينبغى تأملها والبناء عليها فى أى مشروع يهدف إلى بناء الدولة، لا إلى الانقلاب على تلك المؤسسات بالكامل.
أضف إلى ذلك بديهية أخرى استقرت فى العلاقات الدولية وهى أن استمرار طرف فى تشكيل تهديد إقليمى لمدة تربو على النصف قرن هو المستحيل بعينه، وأن أية محاولة لتمرير هذا الادعاء لا يمكن تبريرها إلا إذا كان هذا الطرف لا يسرى عليه ما يسرى على بقية المجتمعات الإنسانية من تحولات فى بناها الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية. والمجتمع الإسرائيلى شأنه شأن أى مجتمع فى النظام العالمى الجديد يتجه إلى الاستقرار على معادلة للحكم قوامها طبقة وسطى واسعة لا تسائل الدولة فى هويتها أو حدودها وفقا لمرجعيات إيديولوجية كبرى بقدر ما تسائلها فى شرعية سياساتها الاقتصادية والاجتماعية على المستوى المحلى، وهو ما يفرض قيودا حقيقية على أية ميول توسعية إسرائيلية فى المستقبل.
خامسا: القضية الأخيرة والأكثر إثارة للجدل فى تصور أية قوة يسارية لإدارة البيئة الخارجية بما يحقق أهداف بناء الدولة الوطنية الديمقراطية هى الإحراج الناجم عن تبنى القوى الخارجية الدولية المهيمنة على حركة التفاعلات فى النظام الدولى لخطاب قوى اليسار بشأن الديمقراطية والتداول السلمى لسلطة. الأمر الذى يضع هذه القوى فى مأزق تاريخى، خاصة أن هذه الضغوط الدولية على النظم العربية (كمصر والسعودية مثلا) تأتى فى إطار فرض قبول غير مشروط بالاحتلال الأمريكى للعراق أو السياسات التوسعية الإسرائيلية، وهو ما يضع هذه القوى موضوعيا فى صف الضغوط الأمريكية التى تستهدف إحداث خلخلة فى أنماط الشرعية القائمة، فى طبعتها الثورية السورية أو طبعتها المحافظة السعودية، و التى لم تعد قادرة على حفظ الأمن و المصالح الاستراتيجية الأميريكية فى الإقليم. يفاقم من دراما الموقف الحقيقة البسيطة التى مفادها أن قادة حركة المعارضة لمبارك يأتون فى أغلبهم من خلفيات قومية أو ناصرية، ناهيك عن معارضة الإخوان المسلمين، وهى فى مجملها قوى اقتاتت فى حركتها السياسية وخطابها الإيديولوجى على معارضتها للسياسة الأمريكية فى المنطقة.
فى هذا السياق قد يطرح البعض مقولة مفادها أن النظام القائم يتحمل مسؤولية هذا الوضع ولا يجوز تحميله لقوى الوطنية الديمقراطية التى تناضل فى سبيل تلك المطالب قبل التحول الأخير فى سياسة الإدارة الأمريكية. إذا سلمنا بصحة هذه المقولة يكون المدخل الطبيعى لصياغة موقف وطنى ديمقراطى من التدخلات الأمريكية بشأن قضية الإصلاح السياسى هو تعديل شروط هذه العلاقة التى تربط أنظمة المنطقة بالولايات المتحدة كلية. وهى العلاقات التى لم تعتن كثيراً بمطالب التنمية والعدالة فى الإقليم لصالح مفاهيم عامة عن "الاستقرار" ترجمتها فى الواقع العملى هى حماية أمن إسرائيل ونفط الخليج. هذه المعادلة لم تفلح الا فى خلق حالة دائمة من التوتر الإقليمى بين العرب وإسرائيل ألقت بظلالها على التطور الديمقراطى فى كل بلد عربى على حدة على هيئة انقلابات عسكرية أو شيوع إيديولوجيات إسلامية محافظة تتخاصم مع شرعية الدولة الوطنية الحديثة. وعليه ينبغى أن تضغط القوى الديمقراطية فى اتجاه تعديل الشروط المستقرة للعلاقات المصرية الأمريكية فى اتجاه ما يمكن أن نطلق عليه "صفقة جديدة" New Deal مع الإقليم، يتم بمقتضاها ربط الالتزام الأمريكى "المعلن" بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، بالتزام بالانغماس النشط فى حل الصراع العربى الإسرائيلى وجدولة الانسحاب من العراق إلى جانب الامتناع عن دعم أية اتجاهات انقلابية فى السياسة العربية كما كان الحال خلال فترة الحرب الباردة وما بعدها.
بالإضافة الى ذلك إلى ينبغى توجيه المعونات الأمريكية إلى دعم القدرات المؤسسية للدولة المصرية فى مجالات كالإصلاح القضائى أو الإدارى فى شراكة مع منظمات المجتمع المدنى. مرة أخرى هذا ليس حديثا مرسلا إذ يشهد الإقليم على سابقة هامة بشأن صياغة علاقة دول الإتحاد الأوروبى بالمنطقة فى ضوء صفقة متكاملة لا تجتزئ قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان عن قضايا التنمية والأمن والسلام الإقليميين. على أى حال لا يمكن تقييم حصاد العقد الفائت فى هذا الصدد ولكن التراجع عنه والارتداد عليه تتحمل مسئوليته فى المقام الأول حكومات المنطقة التى لم تتعامل بالحد الأدنى من المسئولية مع هذا المشروع واعتبرته فرصة لإقالة دول المنطقة من عثراتها المالية وأزمات شرعيتها الطاحنة. زاد من الطين بلة الجموح العدوانى الإسرائيلى والهجمة الإمبراطورية الأمريكية على المنطقة والتى حولت الحديث عن دعم الأمن والسلام الإقليميين إلى حديث ينتمى للماضى.
إحياء تلك المشاريع سواء مع الشريك الأوروبى، أو الشريك الأمريكى المحتمل، لا يمكن انتظارها من الطرف الخارجى على الإطلاق. فكما كانت أزمة الشرعية الممتدة سببا فى فشل تلك المشاريع مع بداية الألفية الجديدة تصبح محاولة البحث عن شرعية جديدة تضخ الدم فى أوصال الدولة المصرية مدخلا لإحيائها. وقد علمنا تاريخ المنطقة البائس مضافا إليه تحولات السياسة الدولية أن الطريق الوحيد للشرعية فى عالمنا هو الطريق الديمقراطى الدستورى القائم على انتخابات حرة نزيهة. فهل آن الأوان لأن ندرك أننا ندفع ثمن سلطوية أنظمتنا من مكانتنا الدولية واستقلالنا الوطنى؟ أرجو ذلك، وإن كانت الشواهد تدل على أن غالبية القوى الإسلامية والقومية تسعى لامتطاء حصان طروادة الديمقراطى لإعادة الكرة من جديد والانقلاب على ما تبقى من ميراث الدولة الوطنية الديمقراطية.







No comments: