التوريث أنواع، من الأخ للأخ كما في السعودية، من الأب إلى الابن كما في المغرب والأردن وسوريا، من رئيس إلى رئيس أخر كما حدث لمصر منذ وفاة البكباشي جمال عبد الناصر مؤسس النظام المصري. لقد تعود الشعب المصري على التوريث من رئيس إلى رئيس، بما يحمله ذلك من مظاهر التطور والتحضر التي تجعل المؤسسات فوق الأفراد. فالمؤسسات الحاكمة هي التي كانت تتوافق على رئيس الجمهورية وليس عائلة أو قبيلة ما. لذلك فظهور خطر توريث السلطة من مبارك الأب إلى الابن يؤرق العديد من المثقفين والسياسيين، لأنه بالطبع علامة من علامات انهيار مؤسسي شامل يضرب حتى مؤسسات السلطة نفسها. وجود جمال مبارك كبديل محتمل لأبيه هو بلا شك أحد أعراض الأزمة الخانقة التي يمر بها نظام الحكم كما يمر بها المجتمع السياسي. فجمال مبارك يمثل بالنسبة للبعض ملاذاً أمناً من المجهول، أو فرصة لتحقيق مكاسب فئوية أو شخصية أو صاحب مشروع لتحديث المجتمع. بهذا المعنى تيار جمال مبارك لا يقتصر فقط على الانتهازيين السياسيين ولكن يضم أيضاً من يرى فعلاً مصلحته في وصول هذا الشخص إلى كرسي الرئاسة، وهم بالتحديد قطاعات واسعة داخل الرأسمالية وقطاعات أقل داخل الطبقة الوسطى الحديثة، وقطاعات أقل كثيراً داخل شرائح اجتماعية فقيرة نجحت أموال وخدمات جمعية شباب المستقبل وجمعيات المرأة الموالية لسوزان مبارك في كسب ولائها. جمال مبارك يقوم إذن بعقد صفقات مع فئات ومجموعات وأفراد. لهذا فمهما أقسم بغليظ الإيمان أنه لن يرشح نفسه، لن يصدقه أحد، لان البنية الأساسية للوصول إلى السلطة تتراكم في يده.
مشروع جمال مبارك هو مشروع سياسي لرأسمالية مأزومة، لا تستطيع الوصول إلى السلطة فتبحث عن "واسطة" داخلها. ما هو المشروع البديل للرئاسة؟ أحد قيادات الحزب الوطني الأخرى؟ ربما، أحد قيادات الجيش؟ جائز، أحد قيادات أجهزة الأمن؟ محتمل. كل المشروعات المطروحة سيئة. المشروع الوحيد المحترم هو رئيس قادم من أعماق المجتمع، آت على رأس برنامج مجتمعي يحظى بتأييد فئات واسعة من شعبنا. هذا هو الحلم، وهذا هو الهدف البعيد وربما القريب إذا تحلينا ببعض التفاؤل. إذا غاب هذا الحلم عن الناس، مال بعضهم إلى تأييد أقل البدائل سوءً في نظرهم، وتناحر بعضهم مع البعض الأخر في الاتفاق على البديل الأقل سوءً لتمهيد التربة له. وهو أمر مؤسف لأنه يعني أن معارضة السلطة سقفها شديد الانخفاض حتى ولو صرخت بسقوط رئيس الجمهورية وأسرته، وحتى ولو تمسكت بالشكل "الجمهوري" للحكم. لم يثبت حتى الآن أن النظم الاستبدادية الجمهورية أو الجماهيرية أقل وطأة من النظم الاستبدادية الملكية حتى نستشهد من أجل الحفاظ على الطابع الجمهوري لنظامنا المستبد.
لنتذكر أن هدفنا الأول هو النضال من أجل أن يصل إلى كرسي الرئاسة شخص حاصل على تأييد أكثر من نصف الشعب المصري، وأن هدفنا الثاني هو الحيلولة دون انتصار أسوأ المرشحين للرئاسة إذا كان ولابد الاختيار ما بين الأسوأ والأقل سوءً. لقد اهتم التيار الديمقراطي كثيراً بالعمل على الهدف الثاني، ولكن للأسف لم يصل بعد إلى توافق على أقل البدائل سوءً، لقد عمل أكثر من اللازم في الهدف الثاني حتى أنه نسى الهدف الأول وهو تحقيق الديمقراطية بالنضال الديمقراطي. لقد التفتنا أكثر من اللازم للشروخ القائمة في النظام السياسي، وهي شروخ حقيقية، لكن أحد أهم آليات تجديد الاستبداد في مصر هو إخراج انقسامات السلطة بطريقة مشخصنة تلخص الموضوع في أسئلة لا تلمس لب الموضوع من نوع جمال مبارك أم عمر سليمان؟ هذه الشخصنة تعوق رؤية الأزمة الحقيقة في مفاصل النظام السياسي كما في الدولة. تركيز المعارضة في الهجوم على جمال مبارك، لم يعكس تكثيف السخط على النظام وتجسيده في شخص أو مجموعة أشخاص تمهيداً لإزاحتهم، بقدر ما كان وقوعاً في هاوية شخصنة الصراعات السياسية والاجتماعية، الأمر الذي يعمي الرؤية عن الصراع الحقيقي الدائر كما يحول دون المساهمة الفعالة فيه.
السياسة المصرية هي "فيلم عربي" كبير، وهي بذلك تحتاج لدراما حية من أجل شغل مقاعد المتفرجين. الفيلم الدائر الآن بنجاح متواصل منذ عدة سنوات هو فيلم جمال مبارك يصارع عمر سليمان، وهو ما يصعب تجاهله لأنه يُُبث على الهواء مباشرة من وسائل الإعلام العامة والخاصة، وبهذا فهو يجذب انتباه المهتمين بالشأن العام ويجعل من الحصافة متابعته من وقت إلى أخر. ولكن علينا ألا ننسى عندما نشاهد هذا الفيلم العربي أنه مجرد "فيلم عربي"، وأننا متفرجون عليه، وأن لدينا فيلماً أخر نحاول أن نخرجه في قاعة أخرى، وأننا نشارك بالحضور في فيلم جمال مبارك وعمر سليمان فقط للترويج لفيلمنا الأصلي، فيلم مصري يتأسس على حق المتفرجين في اختيار الممثلين، هذا الفيلم الذي لا زلنا نتعثر في كتابة نصه لأننا غارقين حتى الأذان في مشاهدة "الفيلم العربي".
صوت ديمقراطي جذري
1.6.06
البوصلة تعاتب : من يناهض نوعاً واحداً من التوريث
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment