صوت ديمقراطي جذري

1.6.06

القطاع العام ليس من الاشتراكية في شيء

عمرو عبد الرحمن


العزيز بعلى والزملاء:
شكراً على إثارة هذا الموضوع وعلى التعليقات المهمة. أظن أن هذا الحوار على درجة كبيرة من الأهمية حيث أنه سيساهم فى بلورة التوجه الفكرى للبوصلة على المدى البعيد حتى لو أسفر عن التباين فى العديد من المواقف بشأن العديد من القضايا. لدى ثلاثة تعليقات أساسية حول موضوع الخصخصة. وأود التوضيح من البداية انى أعنى بالقطاع العام هنا مؤسسات قطاع الأعمال العام المعرفة وفقاً لقانون 203 وهى تبلغ فى أفضل التقديرات 167 منشأة صناعية وتجارية. ولاأعنى الاستثمار الحكومى فى مجال الخدمات مثل الطرق والطيران والصحة والتعليم وخلافه. فالأخير يحتاج لمناقشة أخرى أكثر استفاضة.
أولاً: لا أفهم بواعث هذا الخلط المتعمد والسائد فى الجدل العام بشأن مسألة الخصخصة بين مؤسسات الدولة الأصيلة والتى لايستقيم تعريف الدولة بدونها مثل الجيش والشرطة والقضاء وبين بعض المؤسسات الإقتصادية والتى تقيمها طبقات- أكرر طبقات- كجزء من مشروعها السياسى كطبقة ساعية للهيمنة فى أى مجتمع!!!!! لاتوجد دولة بدون جيش ولكن جائز جداً أن توجد دولة بدون عمر أفندى وبنزايون والمقارنة هنا غير ذات موضوع. واستراتيجية التوسع فى الاستثمار الحكومى لمواجهة البطالة هى بنت العقد الثالث والرابع من القرن العشرين وتخلى عنها الفكر الاقتصادى العالمى فى مجمله بعد ثلاثة عقود فقط حققت فيها هذه الاستراتيجية ما حققت من انجازات وجرت على دولها ما جرت من اخفاقات. هذا ليس موضوعنا على أية حال ولكن ما أود التشديد عليه ان الدولة البرجوازية الحديثة وسوقها الرأسمالى قد ظهرا للوجود قبل هذا التاريخ بثلاثة قرون على الأقل ولم يكن من أدوات تدخلها القطاع العام. ظلت الضرائب والبنك المركزى والسياسة النقدية مثل التسعير الجبرى والتعريفات الجمركية أدوات أصيلة ولم يكن من ضمنها القطاع العام على الإطلاق. وما ينبغى التشديد عليه هنا هو أن الاستثمار الحكومى هذا يتم فى سوق رأسمالى تحكمه قاعدة العرض والطلب فى التحليل الأخير. بمعنى أن الكفاءة الاقتصادية هنا هى لب الموضوع . ومن ثم فإن تدهور الكفاءة سيؤدى بالمستهلكين الى سلع أخرى أرخص ثمناً وأكثر جودة وهى حالة الأسواق الشعبية فى مصر مثل وكالة البلح والعتبة لشراء القمصان الكورية والبناطيل التركية بأسعار تقل عن نصف أسعار القطاع العام. وبالتالى فالإصرار على فرضية أن سلع القطاع العام أرخص وأكثر قدرة على الوصول الى "الجمهور" لا تستند الى أى حجة على الإطلاق حيث أن هذا الجمهور له تفضيلاته أيضاً ولا يمكن أن تحتكر مؤسسات القطاع العام ذوق هذا الجمهور مع الاستمرار فى تقديم خدمة رديئة إلا فى حالة إغلاق السوق وفرض أوضاع احتكارية. فالمنشأة الإقتصادية الحكومية هى فى التحليل الأخير منشأة إقتصادية وينبغى التعامل معها على هذا الأساس. ينبغى ان يكون ذلك واضحاً من البداية لتجنب أى خلط.
ثانياً: فى الحالة المصرية أود الإحالة لمؤلف جيد جداً فى هذا الصدد لعادل غنيم وهو "رأسمالية الدولة التابعة فى مصر" للوقوف على أبعاد مأزق استراتيجية الاستثمار الحكومى الموسع فى السوق الرأسمالى. فى هذا المؤلف يشير غنيم الى اتجاه البرجوازية المصرية الى التوسع فى الاستثمار الحكومى لصالح مشروعها الدولتى والذى لاقى مساندة من الغالبية الكاسحة من الشعب المصرى نتاج اعتبارات أيديولوجية وسياسية متعددة. ومع تشكل بيرواقرطية متنفذة من رحم هذه المؤسسات تسعى الى الانتقال لصفوف الرأسمالية كان النهب المنظم أو ما يطلق عليه فى الإعلام سياسات التخسير هوالسبيل الوحيد أمام هذه الشريحة للانتقال لصفوف البرجوازية. ويورد غنيم أمثلة شيقة جداً حول وقوف هذه الشرائح بحزم أمام أى محاولة لإصلاح القطاع العام أو حتى ضخ استثمارات جديدة فى منشآته إذ تشكل أى محاولة لإصلاح هذه المنشآت إخلالاً بالشرط الموضوعى لهيمنتها السياسية والأيديولوجية. وفى المقابل لم يكن أمام التحالف الإجتماعى الحاكم فى هذه الحقبة إلا التوسع فى سياسة المنح والاقتراض من الخارج للابقاء على نفس المستوى من الانفاق الإجتماعى فى حين بقي قطاع الدولة خرباً ولم تكن استثمارات القطاع الخاص قد نمت الى الحد الكافى الذى يسمح لها بلعب دور محورى فى عملية التنمية. هذا ما أطلق عليه غنيم رأسمالية الدولة التابعة: نظام للهيمنة السياسية والأيديولوجية لبيروقراطية الدولة العسكرية والأمنية القائم على نهب القطاع العام والتوسع فى سياسة المعونات والديون فى ذات الوقت. إذا أضفنا ما يقوله عادل غنيم على ما ذكرته فى مداخلتى السابقة من انعدام الاستقلالية لجهاز الدولة نستخلص الآتى: أن أى محاولة لمقرطة مصر بالمعنى الواسع للكلمة وليس بالمعنى الليبرالى الضيق تعنى بالضرورة العصف بنموذج هيمنة البيروقراطية وأيديولوجيتها الدولتية ولن يتحقق ذلك إلا بتصفية الأساس الإقتصادى لهذه الهيمنة وهو قطاع الأعمال العام المؤسس خلال الحقبة الناصرية وليس مؤسسات الدولة البرجوازية من جيش وشرطة وقضاء وهى مؤسسات سابقة على وجود هذه البيروقراطية. فمسألة بيع القطاع العام بالنسبة لى هى مسألة تصفية لعلاقات سلطة قائمة تقف حائلاً دون مقرطة المجتمع أكثر من كونها دعوة مجردة لإطلاق آليات السوق تولى أفضلية للملكية الخاصة على ملكية الدولة. اتمنى أن يكون ذلك واضحاً أيضاً.
ثالثاً: إذا اتفقنا على أن الموضوع برمته هو مسألة سلطة تكون الدعاوى الى إصلاح القطاع العام بمثابة دعوى هذه البيروقراطية نفسها الى العصف بشروط هيمنتها أو دعوى رجال الأعمال الجدد الى إصلاح مؤسسات لا تعنيهم فى شئ. بمعنى آخر إنها دعوى لاتسندها أية قوة إجتماعية مستعدة لتحمل تكلفتها الباهظة. قد يكون لهذه الدعوى معنى فى بلاد دولة الرفاهة فى أوروبا الغربية حيث يعبر القطاع العام عن توازن قوى ديمقراطى فى جوهره أو فى بعض دول جنوب شرق آسيا حيث لايزال القطاع العام يلعب دوراً تنموياً مهماً ولكن هذه الدعوى فى مصر هى دعوة خيالية تعبر عن أمنيات أكثر ما تعبر عن حساب سياسى دقيق. أما إذا كانت القوى الاجتماعية المعنية هى العمال والفلاحين، وهم الملاك الحقيقيون على الورق لهذه المنشآت، فالأمر سيستغرق وقتاً طويلاً جداً- ربما عدة عقود- الى أن يكون هؤلاء على درجة من التنظيم والتنفذ بما يسمح لهم بالإضطلاع بهذه المهمة الشاقة. وخلال هذه السنوات ما العمل إذن؟؟؟؟ أن يتم تعبئة عمال القطاع العام للإبقاء على منشآتهم خاسرة ويتحملوا هم وأبنائهم للجيل الثالث على الأقل خسارتها مع المطالبة البائسة باستقلالية تنظيمهم النقابى فى مواجهة طبقة تعتمد فى سلطتها على هذا القطاع العام نفسه؟ أم القبول بخصخصة هذا القطاع مع النضال من أجل شفافية هذه العملية وضمان حقوق العاملين واستقلالية التنظيم النقابى والتى ستتحول الى مطالب منطقية ومشروعة فى أى ديمقراطية برجوازية أظن أننا على أعتاب الولوج اليها قريباً؟ السؤال متروك لتقدير الزملاء. بعض القوى اليسارية تفضل الحل الأول مثل الاشتراكيون الثوريون والاشتراكيون المصريون وحزب الشعب مع البديل الأول، وهو بديل لا يقتضى أى عمل جاد من قوى اليسار اللهم التنبيه والفضح والإثارة الصحفية التى تصب فى النهاية شئنا أم أبينا لصالح إطالة أمد الهيمنة البيروقراطية. أما البديل الثانى فهو يعنى عملا يومياً دؤوباً فى صفوف الطبقة العاملة من أجل انتزاع حق التنظيم النقابى المستقل والرقابة على عملية البيع وضمان حقوق العاملين وهى مهام كما أسلفت ممكنة وتؤدى لمكاسب تتزايد يومياً. ويمكن فى هذا الصدد ذكر الكثير الذى تحقق بناء على هذه الاستراتيجية.

شكراً على الملاحظات القيمة وألف تحية





No comments: