صوت ديمقراطي جذري

29.8.06

المتعلمون والسياسة : قراءة فى مشهد المظاهرات الراهن وجذوره


شريف يونس

تحمل مظاهرات المتعلمين فى الشهور الأخيرة مفارقة بين قصوية الشعارات ومحدودية الحركة. يتناول شريف يونس هذه المفارقة من خلال إلقاء الضوء على الإيديولوجية القومية لحركة "كفاية"، كتفسير لطبيعة نشاطها، والجذور التاريخية لهذه الظاهرة متمثلة فى سياسات الهوية، وإمكانية تطوير الكفاح الديمقراطى على نحو يتجاوز الرؤى النخبوية للحركة الراهنة وآفاقها القومية.


كانت مظاهرات الشهور القليلة الماضية ضد "التمديد والتوريث" مظهرا أساسيا للتغير الملموس فى المجال السياسى فى مصر. فللمرة الأولى، منذ أوائل السبعينيات، تتوالى مظاهرات ضد النظام، تطالب بتغييره. وقد نجحت الحركة بالفعل فى اجتذاب بعض الشباب إليها ليدخلوا المجال السياسى، وأخذت حركات التغيير والتحالفات السياسية تتكاثر، فمن "كفاية" ظهر "شباب من أجل التغيير"، كما ظهرت حركات لصحفيين وكتاب وفنانين وأطباء من أجل التغيير، وتلقت الحركات المشكلة من قبل، مثل حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات والمهندسون الديمقراطيون والمحامون الديمقراطيون زخما جديدا. ونشطت جمعيات حقوق الإنسان والجمعيات المهتمة بالحقوق السياسية خصوصا، وأصبحت تقاريرها تلقى صدى واسعا فى الصحف المستقلة والحزبية، وتلقى اهتماما أوسع بكثير مما سبق. كما تلقت حركة القضاة لنيل استقلالهم عن السلطة التنفيذية دَفعة جديدة بحكم تغير المناخ العام وأصبحت مطالبهم فى بؤرة الأحداث، باعتبارها ضمانة أساسية من ضمانات النظم الديمقراطية، فضلا عن كونهم أكثر الفئات المحتجة نفوذا وتماسكا، واحتفاظا بالتقاليد الليبرالية.
وبصفة عامة انتشرت روح من التفاؤل بتغيير ديمقراطى ما، وبقدرة على مواجهة آلة قمع النظام وتدخلاته البوليسية. أضف إلى ذلك تحقق بعض النجاحات الجزئية على هامش الحركة، مثل انتصار عمال الإسبستوس بحصولهم على حقوقهم، وانتصار رمزي ولكنه مهم لحركة 9 مارس. هذا فضلا عما أثارته الحركة ومظاهراتها من مناقشات فى أوساط عديدة بحكم إذاعة أنبائها على الفضائيات، وما تعرضت له أحيانا من قمع، تلاه تدخل دولى (أمريكى وأوربى أساسا). وقد لقيت هذه الأحداث الجديدة صدى فى منتديات الإنترنت المصرية بصفة خاصة، فكثرت المناقشات السياسية بين الشباب، وبدا وكأن البلاد على مشارف عصر جديد من الحيوية السياسية.
ومع ذلك يلاحظ أن هذه المظاهر كلها ما زالت محصورة بالأساس فى فئة واحدة، هى المتعلمين (الإنتليجنسيا). فهم الذين يتصدرون الساحة السياسية/ الإعلامية من مظاهرات، وبيانات، ومنهم تتشكل عضوية جمعيات حقوقية واجتماعية، وتجمعات سياسية على نمط "كفاية"، فضلا عن أصواتهم فى الصحف والفضائيات ككتاب وصحفيين وكشهود. ولكنها حركة لا تشمل فئة المتعلمين كلها، فمعظم النشطاء لهم صلة بالعمل العام من قبل بدرجة أو بأخرى. ومن حيث المكان، ما زال معظم النشاط (بما فيه المظاهرات) محصورا فى "وسط البلد"، فأماكن احتشاد النشطاء وتجمعهم الاستراتيجية تجدها فى نقابتى الصحفيين والمحامين بالقاهرة، ولا تبعد مواقع منظماتهم المختلفة كثيرا عن هذا المركز.
بالمقارنة حتى بأحزاب المعارضة التى تنهال عليها هذه الحركة البازغة بتنويعاتها بالنقد الحاد، واضح أنها تفتقر بشدة إلى أساس تنظيمى وكوادر وانتشار مكافئ، سواء طبقيا أو جغرافيا، فضلا عن أنها تعتمد إلى حد كبير على كوادر حزبية ما زالت محتفظة بولائها الحزبى. هذا ناهيك عن مقارنتها بالنظام الذى يمد أذرعه كالأخطبوط إلى كل قرية، بأجهزته الإدارية، وأمنه الذى يتولى وظائف سياسية عديدة، وحتى "حزبه" الوطنى. ومع ذلك تبدو هذه الحركة، وقلبها "كفاية"، ألمع ما يظهر على الساحة السياسية الآن. فلماذا؟
على خلاف أية فعالية أخرى، لفتت مظاهرة "وسط البلد" أنظار الإعلام، بفعل قصوية شعارها الرئيسى نفسه "لا للتوريث ولا للتمديد"، بما يعنيه ذلك من مواجهة مباشرة مع رموز السلطة ومخططاتها. فضلا عن أن الحركة بدأت مع تصاعد التذمر من مخططات نقل السلطة لجمال مبارك ولجنة السياسات، والذى بدا لوهلة مخططا وشيك التنفيذ، وهو تذمر طال قطاعات عديدة من داخل السلطة، لها أيضا اتصالاتها مع قطاعات من المعارضة تشاركها الرؤية "القومية" التى سنعرض لها مطولا فى هذا المقال. وأضيف لهذا كله الظرف الدولى المواتى المتمثل فى المشروعات الأمريكية لإضفاء طابع ديمقراطى ما على نظم المنطقة فى إطار استراتيجية عامة لمكافحة الإرهاب والأصولية الإسلامية. وقد ساعدت هذه الظروف الدولية والمحلية، مع فقر الحياة السياسية (سواء من حيث وضع حزب النظام أو أحزاب المعارضة) فى ظل النظام القائم، فى تحقيق صدارة حركة "كفاية" وتوابعها، على محدوديتها.
مع غياب طبقات المجتمع الأساسية عن المشهد السياسى، تصدرت هذا المشهد حركة تفتقر بشكل واضح إلى القدرة على جذب طبقات أخرى أكثر ثقلا وأهمية، بل القدرة على جذب جمهور واسع عموما. وأصبح فقر الحركة السياسى، متمثلا فى اقتصارها على حمل مطلب لا يرقى إلى مستوى برنامج (ومن ثم يطلق عليها البعض حركة مطلبية: أى متمحورة حول مطلب وهي في الحقيقة حركة احتجاجية بلا مطالب حقيقية) ميزة لها، حيث مكنها من جمع ممثلى اتجاهات مختلفة لا يجمع بينها سوى رفض النظام. وبناء على هذه الصدارة الإعلامية وصلت الحركة إلى حد مناقشة تنظيم عصيان سياسى، بل وقيل مدنى أحيانا. مثل هذه المفارقات تحتاج إلى فهم، لا إدانة، كما تحتاج إلى نظرة إلى المستقبل تحاول أن تبحث إمكانية تجاوز هذه الحركة ومشكلاتها.

مشهد المظاهرة: تقرير حالة
تبين المظاهرات كما قلنا أنها تجمع جمهورا قليلا (حوالى مائتين فى أغلب الحالات، ويصل إلى بضعة ألاف في حالة غياب التدخل الأمني)، من أفراد مسيسين فى معظمهم. جمهور المظاهرة الأساسى هو جنود وضباط قوات القمع من أمن مركزى (أى مجندون) وشرطة، يبلغ عددهم بضعة أضعاف المتظاهرين (فى معظم الأحوال)، مهمتهم الأساسية إبعاد الجمهور المدنى العابر الذى قد يتوقف للفرجة، وإشاعة جو من الإرهاب بفعل الاحتشاد الأمنى ذاته. هناك أيضا عدد من الصحفيين والمصورين ومراسلى الإذاعات والفضائيات بكاميراتهم.. ومن هؤلاء يصل المشهد إلى الجمهور عبر الصحف والميديا. الحماية الأساسية للمظاهرات كما ذكرنا إعلامية ودولية.
بصفة عامة يبدو أن النظام قد نجح، برغم استمرار الحركة، فى عزلها عن طريق الحشد الأمنى المحيط بها، مما جعل الجمهور العام غير قادر إلى حد كبير على تقييم حركة التظاهر أو فهمها. فتعليقات غير المشاركين (فى حدود ما سمعته، مباشرة وعبر أطراف أخرى) تتراوح بين القول بأن المتظاهرين مأجورين من الدولة(!!) على أساس أنها تريد الظهور بمظهر ديمقراطى أمام العالم، أو مدفوعين من الولايات المتحدة، ربما تأثرا بدعاية النظام فى هذا الشأن، أو أنهم أبطال يواجهون النظام الشرس، ولكن لا فرصة لهم للنصر. فى كل الحالات يكون المتظاهرون أمام الجمهور صنفا خاصا من البشر (سواء كأبطال أو كعملاء)، يقومون بأفعال بعيدة عن أحلامهم (لأنها إما مرتبطة باتصالات سرية ما، أو دون كيشوتية)، ولكنها بالقطع لا تمثلهم بالمعنى الحقيقى للتمثيل، ناهيك عن أن يعتبروها قيادة "للشعب" نحو المستقبل. ويمكن فى أفضل الأحوال أن يعتبرونها تعبيرات عن سخطهم العام على الأوضاع والنظام.
لا شك أن هذه النتائج من أحد أهم نواحيها ترجع إلى عقود من إغلاق المجال السياسى بالكامل، وتمزيق الروابط الحرة بين المواطنين وسيطرة النظام على جميع التنظيمات الأهلية، وتعريف ذلك باعتباره الديمقراطية السليمة التى "تخصنا"، وجزءا لا يتجزأ من مفهوم الوطنية وضمانات "حماية الوطن"، فيما يقال، بحيث يبدو النشاط السياسى العلنى المعارض مريبا فى عين المواطن. وهو من جهة أخرى، نتيجة سيادة إرهاب الدولة عبر العقود، الذى ولَّد لدى المواطنين حالة من الخوف المزمن من جميع الأجهزة الأمنية (وهو إرهاب يتعدى بكثير مسألة مواجهة معارضى النظام، ليمتد إلى كل من يجد نفسه مضطرا لمواجهة أية سلطة، كبرت أو صغرت) بدءا بقسم الشرطة وأمين الشرطة. وبالتالى يصعب على المواطن أن يفهم كيف "يشتم" المتظاهرون الرئيس ويظلون أحياء بعد ذلك، إذا لم توجد قوة كبرى تسندهم.
ولكن ما يعنينا أكثر هنا هو دور تصورات هذه النخبة المتظاهرة عن نفسها ورؤيتها لدورها فى مواجهة هذا الوضع. وأول ما يلاحظ هنا هو أن هذه النخبة لا تبالى عمليا بالهوة التى تفصلها عن الجمهور، حيث واصلت تكتيك التظاهر، وواصلت التركيز على شعار رفض مبارك، الذى يساهم بارتفاعه فى تعميق الانفصال. وفوق ذلك طرحت المظاهرات مطلب رفض الرئيس دون أن تقدم أى مرشح بديل، أو تؤيد مرشحا آخر. وبينما تمسكت برفض الانتخابات بمجملها، بحجج قانونية وسياسية، لم تطرح على نفسها بجدية إمكانية إقامة نظام سياسى بديل يحل محل الانتخابات التى دعا إليها النظام، لأنها ببساطة إمكانية غير متوفرة الآن، لها أو لغيرها. وباختصار ظهرت الجماعة السياسية المتظاهرة كجماعة غاضبة، وإن تكن جسورة، أكثر منها كمشروع سياسى بديل. وبالتالى طرحت نفسها على الجمهور كتعبير ما عن "غضبه" المفترض، لا كقيادة سياسية له، يوثق بقدرتها على قيادة تغيير حقيقى محسوب.
طرحت "كفاية" وغيرها حزمة إصلاحات دستورية وديمقراطية (موجودة فى البيان التأسيسى لحركة "كفاية" مثلا، مثل إلغاء حالة الطوارئ ووضع دستور عن طريق جمعية تأسيسية)، ولكن هذه المطالب (التى طرحتها المعارضة منذ سنوات) لم تصل بعد إلى الجمهور، بالمعنى السياسى، أى لم يتبين له سواء أهميتها أو كيفية تحقيقها، ولا يبدو أن ثمة جهد جدى قد بُذل لإقناع الجمهور بها، بل أنها لم تحظ بعناية تُذكر فى المظاهرات ذاتها.. فالأمر لا يتجاوز رفعها على بضع لافتات تضيع وسط اللافتات الكثيرة التى تحمل شعارات سقوط مبارك، ولم يكن لها وجود يُذكر فى الهتافات، وهو ما يعطينا هنا مؤشرا أوليا على طبيعة الاهتمامات الرئيسية للحركة.
لهذا كله تمثل إنجاز المظاهرات الأساسى فى الكسر الجزئى لهيبة النظام. فصور القمع على الفضائيات والتصريحات الدولية الناقدة للنظام، والهتافات نفسها، وشت بأن سيطرته غير مطلقة، وأنه ليس حرا تماما (على خلاف الضباط "الأحرار") فى التعامل مع مواطنيه المعارضين. وهو يظل جزئيا طالما استمرت هيمنة أجهزة الأمن والبيروقراطية على كافة المؤسسات وتفاصيل الحياة العامة. وبالإضافة إلى ذلك، كانت الحركة بمثابة نوع من التدريب السياسى لكثير من الشباب المسيس والقابل للتسييس بين المتعلمين، وإخراجا لقطاعات من النخبة السياسية من حالة الركود المزمن السابقة.

الحركة القومية فى لباس ديمقراطى
هنا يجب أن نتوقف لنتساءل عما وراء المظهر.. أى ماهية تصورات هذه الحركة وطبيعتها. وسوف أتناول "كفاية" نموذجا، مسترشدا فى هذا الاختيار بالإعلام الذى اختزل مجمل الحركات المتظاهرة (عدا الإخوان) فى "الحركة المصرية من أجل التغيير" الشهيرة بـ"كفاية". وبرغم احتجاجى شخصيا على هذا الاختزال فإنه ناتج عن واقع التشابه الكبير فى شعارات الحركات المختلفة أثناء التظاهر، فضلا عن أن المشاركين فى المظاهرات المختلفة هم نفس الأشخاص تقريبا.
والأمر يتجاوز مجرد تشابه الشعارات والمطلب الرئيسى السائد، بل يمتد إلى إصرار ضمنى على الشطب على كل تنوع. تدور المناقشات داخل حركات للمرأة أو الكتاب والفنانين أو الصحفيين أو المحامين أو المهندسين أو أساتذة الجامعات حول ما إذا كان الواجب التركيز على المطالب الديمقراطية النوعية للجماعة المعينة (مثل مطالب تحرر المرأة مثلا، أو حرية التعبير بالنسبة للكتاب والفنانين، الخ)، أم التمسك بالشعار الواحد العام (ضد التوريث والتمديد). كما تدور المناقشات حول ما إذا كان الواجب النزول إلى الشارع ضد السلطة، أم عقد مؤتمر (مثلا) لبلورة المطالب الديمقراطية لهذه الفئة أو تلك. وفى معظم الحالات ينتهى الأمر بانتصار منطق التظاهر ومنطق المطلب العام. لم يفلت من ذلك حتى الآن ربما سوى حركة القضاة، وحركة 9 مارس المطالبة باستقلال الجامعات. وبعبارة أخرى، انتصر اتجاه انصباب الحركات النوعية فى مطلب إسقاط النظام.
ويبدو أن ثمة فكرتين وراء هذا السلوك. الأولى هى أن المطالب النوعية نفسها لا يمكن تحقيقها إلا فى "وطن حر"، أو بعبارة أوضح، بعد إسقاط النظام. وقد دارت بالفعل مناقشات من هذا القبيل فى تجمعات مختلفة. غير أن المشكلة التى تواجه هذه الفكرة هى أن الحركة الديمقراطية يصعب أن تتقدم بغير نشطاء من أجل الديمقراطية فى مجالات عديدة، ونضال ديمقراطى متعدد المواقع يكون بمثابة تدريب سياسى للسكان، أي بغير نقابات قوية، وجمعيات أهلية فاعلة، وأنشطة لمواجهة السلطة الاستبدادية وتحكم الأمن فى مختلف المواقع. والأهم من ذلك أن التحول الديمقراطى يصعب أن يتحقق بغير ثقافة ديمقراطية عامة بين بعض قطاعات السكان على الأقل، تتعلم بالممارسة احترام الآراء الأخرى والتفاوض والتوفيق بين المقترحات وعقلانية التحرك.. وهى ثقافة ما زالت مفتقدة حتى الآن. بغير دخول الطبقات الأكثر ثقلا، وبغير الثقافة الديمقراطية، تظل التظاهرات نخبوية.
ويقف التمحور حول مطلب إسقاط مبارك عقبة أمام توسيع أفق الحركة الديمقراطية ويعزلها عن الجمهور غير المستعد للجرى خلف مطلب لا يستند إلى قوة حقيقية تناسبه. هناك (مثلا) مئات من الكتاب والفنانين ممن هم على استعداد للنضال من أجل مطالبهم الديمقراطية النوعية، بل ومطالب ديمقراطية عامة، من قبيل رفع يد السلطة عن الجمعيات والنقابات، بغير المطالبة بهذا المطلب المستحيل. وبالتالى تخسر الحركة الديمقراطية العامة جهود الكثيرين، كما تفقد إمكانية تحقيق تقدم على جبهات عديدة، يشكل كل منها جانبا مهما من أى تحول ديمقراطى مفترض.
والفكرة الثانية والأهم هى أن النضال من أجل أهداف نوعية يبدو "صغيرا" فى أعين النخبة التى تتحدى النظام وأمنه فى الشارع. المهمة تبدو أنها لا تقل عن إنقاذ وطن بعمل بطولى كبير، ينحى المطالب "الصغرى" جانبا، حتى ولو اعترف بأهميتها، ويميل لإخضاعها للهدف الكبير. ويتضح الهدف الكبير من البيان التأسيسى لـ"كفاية"؛ فالحركة قامت لمواجهة:
المخاطر والتحديات الهائلة التي تحيط بأمتنا، والمتمثلة في الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق، والاغتصاب والعدوان الصهيوني المستمرين على الشعب الفلسطيني، ومشاريع إعادة رسم خريطة وطننا العربي، وآخرها مشروع الشرق الأوسط الكبير، الأمر الذي يهدد قوميتنا ويستهدف هويتنا، مما يستتبع حشد كافة الجهود لمواجهة شاملة على كل المستويات: السياسية والثقافية والحضارية، حفاظا على الوجود العربي لمواجهة المشروع الأمريكي الصهيونى.
أما الديمقراطية (ولم تُذكر بالاسم) فتأتى مشروطة فى المقام الثانى. فالمبرر الآخر لقيام الحركة هو أن "الاستبداد الشامل في حياتنا الذي أصاب مجتمعنا يستلزم إجراء إصلاح شامل سياسي ودستوري يضعه أبناء هذا الوطن وليس مفروضا عليهم تحت أي مسمى"، بغير تحديد لمنطق هذا الإصلاح.
وواضح أن المطلب الأول (حماية القومية والهوية وما أشبه) مطلق غير مشروط، بينما المطلب الثانى (إصلاح له نكهة ديمقراطية) مشروط تماما بألا يكون إصلاحا "مفروضا"، والمفهوم أنه غير مفروض من القوى الخارجية المشار إليها، أى مشروط بالمطلب الهوياتى. وبتعبير أكثر صراحة عن إخضاع الديمقراطية للهوياتية، ورد فى بيان "كفاية" بشأن القبض على أيمن نور، أن الديمقراطية هى "السبيل الوحيد لمواجهة المؤامرات الإمبريالية والعدوانية الصهيونية، والانتصار على التحديات والتهديدات التي تحيط بمصر والمنطقة من كل جانب"، بما يعنى أنه لو كان ثمة سبيل آخر لأيدناه (مثلا انقلاب عسكرى وطنى!). ويعنى ذلك أيضا أن الديمقراطية لا تنبع وفقا لمنطقها من كونها حقا للمواطنين، وإنما تصبح أقرب إلى واجب فرعى من واجباتهم تطرحه الظروف كأداة "لإنقاذ الوطن".
وبسبب غلبة الإيديولوجيا القومية، تتراجع عمليا الروح الديمقراطية. والواقع أن حركة "كفاية" قد أعلنت منذ البداية أنها ترفض الأفراد الذين لهم علاقة بأى تمويل أجنبى، بما فى ذلك أعضاء منظمات حقوق الإنسان، حتى ولو كانوا مناضلين معروفين من أجل الديمقراطية. كما ثارت مناقشات من قبيل "فلان" أمريكانى و"فلان" تطبيعى...الخ. وبناء على ذلك فشلت مثلا إمكانية الاندماج بين "كفاية" و"الحملة الشعبية من أجل التغيير" اليسارية. فمعيار الانتماء للحركة هو الإيديولوجيا القومية، لا الديمقراطية. وتعبر بعض الكتابات فى الصحف الحزبية والمستقلة عن نفس التوجه، أى إخضاع التحالف الديمقراطى لأجندة القوميين ومفاهيمهم، حتى أن أحدهم كتب فى "الدستور" أنه إذا كانت الديمقراطية تتسع للتطبيعيين، فـ"بلاها ديمقراطية" بتعبيره: "ديمقراطيتنا" المخصوصة وإلا فلا.
ويفسر ترتيب الأولويات بوضوح لماذا يغلب منطق التظاهر على منطق بناء القوى الديمقراطية، ولماذا يسود شعار إسقاط مبارك فوق كل المطالب الديمقراطية والقضايا النوعية. فالديمقراطية هنا فى الواقع أداة تُستخدم لإنقاذ الوطن من حكم يعتبر من وجهة نظر قادة "كفاية" "عميلا"، أو "تابعا". والحال أن هذا المنطق كله الذى يشرط الديمقراطية بأفكار التيار القومى بحجة الوطنية متهافت، لأن أى إصلاح ديمقراطى يعنى توسيع المجال السياسى ودخول قطاعات أعرض من السكان فى تقرير مصيرها السياسى. الديمقراطية لا تعطى أصواتا للأجانب، وإنما لمواطنين محرومين من الحقوق السياسية، يُفترض أن لهم الحق المطلق فى تقرير مصير بلادهم. أما الضغوط الخارجية فهى تمارس على كل الأنظمة، سواء كانت استبدادية أو ديمقراطية.
وبصفة عامة فإن الديمقراطية ليست مجرد وصفة صالحة لتنفيذ أجندة معينة، قومية أو دينية، بل هى علامة من علامات التقدم الاجتماعى، لما توفره للطبقات الحديثة من مجال مفتوح للصراع، بإخضاع البيروقراطية لمجال سياسى متاح لتاثير مخططات مختلفة تخدم قوى وطبقات مختلفة. وبهذا المعنى فهى مقياس صحيح للتقدم الاجتماعى بصفة عامة، أو لـ"التنمية البشرية" بالمصطلحات المعاصرة. فالدول التى تتمتع بقدر أكبر من الحرية الداخلية، والقادرة على فتح مجالات التنافس، يكون الناس فيها أكثر شعورا بكرامتهم، وأكثر قدرة على الحركة، وأقل تعرضا لسلطة مانعة قاهرة يجب أن يحصلوا منها على إذن قبل أى تحرك فاعل. والمواطن الحر، بالمعنى البرجوازى، ما زال هو أرقى مواطن فى عالمنا المعاصر، ليس فقط اقتصاديا وسياسيا، بل أيضا معرفيا وأخلاقيا (إذا فهمنا الأخلاق بمعنى أوسع قليلا من مفاهيمنا عن "أصالتنا الشرقية"، غير أن هذا موضوع يطول شرحه).
الأخطر من ذلك أن حركة محدودة بهذا الشكل تطلب مطلبا قصويا إلى هذه الدرجة، لا تلعب فى الواقع سوى دور استدعاء قوة أخرى لتحقيق مطالبها.. أى إنها تقدم ذريعة لقوى غير ديمقراطية (انقلاب عسكرى مثلا) للقيام بالمهمة التى عينتها: إنقاذ الوطن. ولعل ما نُشر من ترحيب ضمنى بفكرة تعيين رئيس المخابرات نائبا للرئيس فى "العربى الناصرى"، أو الاحتفاء بشخصيات من قبيل عزيز صدقى أو طارق البشرى، لم يعرف عن أى منهما ميل للديمقراطية، مؤشر على آفاق وأحلام بعض قادة الحركة.

سياسى "كفاية" الطليعى
والحال أن هذه التصورات الكامنة فى منطق حركة "كفاية" وقادتها تتطلب تفسيرا. والتفسير الأول والأبسط هو أن الحركة نفسها قامت على أكتاف عناصر قومية من أحزاب وتيارات مختلفة. معظمها تيارات معادية فى مواقفها الأساسية للديمقراطية بالمعنى المفهوم.. من ناصريين وأعضاء فى حزب العمل وما يسمى "اليسار الوطنى". فمثلا المنسق العام (جورج اسحق) عضو سابق بحزب العمل (امتداد مصر الفتاة)، الذى انتفض أعضاؤه ضد رواية تحكى عن القمع الجارى فى ظل أتعس الأنظمة الشمولية فى العالم العربى، وتبنوا الشعارات الدينية مع رواجها ومجدوا ما يسمى "الصحوة الإسلامية". وهناك المتحدث الرسمى الناصرى باسم الحركة (عبد الحليم قنديل)، وهو ليس الناصرى الوحيد، الذى لم يكف يوماً فى جريدته "العربى" عن تحريض أجهزة الدولة الأمنية على الفتك بكل من تسول له نفسه مخالفة صحيح الوطنية بشأن مسألة الصراع العربى الإسرائيلى. وحتى بعض الشخصيات اليسارية مرتبطة تاريخيا بأفكار القومية العربية، والانشغال بالكفاح الفلسطينى، بما يكاد يشبه طبعة قومية من اليسار. وهم على كل حال قد كشفوا عن إيديولوجيتهم صراحة فى بيانهم التأسيسى الذى تحدث عن العرب والعراق وفلسطين أساسا، وفى مقالاتهم.
ولأنهم قوميون و"هوياتيون" بصفة عامة، اعتبروا أنفسهم تلقائيا ممثلى الشعب. فالقوميون يميلون بطبيعة إيديولوجيتهم ذاتها إلى تصور "الأمة" ككيان واحد مصمت متحد، وبالتالى يناسبه تعبير واحد ما عن مصالحه المتحدة الجوهرية، التى تتمثل بالتحديد فى الحفاظ على ما يسمى هويته (التى يختلف الهوياتيون بالطبع فى تحديد ما إذا كانت مصرية أو عربية أو إسلامية، وفحوى هذه الهوية أيا كانت). ولأن الهوية شىء غامض تماما، فإنها لا تتحدد إلا من خلال نقيضها، أى تعيين عدو رسمى لها يرمى لتدمير هذه الهوية. ومن هنا الاحتشاد حول أفكار المؤامرات الخارجية ضد هويتنا التى يهددها الغرب أو إسرائيل أو التحالف المسيحى اليهودى أو غير ذلك. ومن هنا حملت "كفاية" من اللحظة الأولى شعار مكافحة أعداء الهوية، بغير أن تحدد كيفية بناء هذه الهوية نفسها.. فهى بالنسبة لهم شىء معطى وبديهى ولا يتعرض لقوة أو ضعف، وإنما يوجد أو لا يوجد.
والهوية الواحدة تتطلب كما أسلفنا تجسيدا واحدا وحيدا، هو بالطبع بطل الهوية المتصدى للأعداء، بل أن هذا هو مبرر وجوده الوحيد. وهذا ما يفسر لنا أن من وقعوا البيان التأسيسى لـ"كفاية" أنفسهم لم يتورعوا عن أن يعتبروا أنفسهم، بكل "تواضع"، "رموز[ا] سياسية وفكرية وثقافية ونقابية ومجتمعية"، فهم أكبر من مواطنين، رموز، وبالتالى فاجتماعهم فى كفاية "يرمز" للوطن! وما اتفقت عليه "الرموز" هو بالطبع مشروع الوطن، من خرج عليه فقد خان. ومن هنا اعتبرت "كفاية" نفسها "حالة فريدة من الوفاق الوطنى بين كافة القوى الوطنية المصرية دون تمييز أو استثناء".. وبالتالى لا يخرج عنها سوى الخوارج على الوطن.
ولأن الهوية باطنة فى الشعب، أو لنقل أنها هى "فطرته"، فإن دور البطل، أو "الرمز"، أو "وفاق القوى الوطنية"، لا يتعدى إيقاظ هذه الفطرة واستدعائها. فالشعب يئن ويشكو، ويعرف أصدقائه وأعدائه، ولكنه فريسة اليأس، ينتظر البطل الشجاع الذى يعبر عنه ويواجه السلطة، فيوقظ "فطرته الوطنية" النائمة فى أعماقه، فيأتى من كل حدب وصوب، ويحقق ما وعد به عبد الحليم قنديل وزملائه أنصار الحركة من الوصول إلى مظاهرة مليونية، أو "مئة ألفية". وبناء على هذه التوقعات طرحت الحركة على نفسها مهمة تنظيم عصيان سياسى شامل، برغم أن عضويتها الاسمية على شبكة الإنترنت لا تتجاوز آلافا قليلة، وتنظم مظاهرات محدودة.
السياسى القومى ينادى "الفطرة"، لا الوعى العام.. فهذا الأخير ليس له محتوى أزلى، وإنما يُبنى عبر ملايين أفعال السلطة والمقاومة فى آلاف المواقع، ويشكله تطور اقتصادى واجتماعى. والسياسة عند القوميين ليست بالتالى بلورة مصالح وتجميع قوى، وإنما "الوعى" كعفريت المصباح، تحرره الحكة المناسبة أو الكلمة السحرية، وهو دوره هو كـ"طليعة". ومن هنا يظل القومى مصرا على تكتيك الانتفاض والصحوة التى تقوم مقام عودة الروح للجسد الميت فى الأساطير، كإيقاظ الأميرة النائمة التى سحرتها الساحرة الشريرة، تحدث مرة واحدة وللأبد، لتتحقق السعادة المطلقة. ولعل هذا ما يفسر لنا كيف وضع قادة "كفاية" على كاهلهم الضعيف مهمة لا تقل عن "تحرير الشعب المصري من الاستبداد والقهر والحاجة" (بيان الدعوة لجمعية تأسيسية).
ومع ذلك قد "يتنازل" قادة "كفاية"، إزاء خيبة الأمل فى "زحف" الجماهير "المقدس"، ليطرحوا قضايا لقمة العيش، ولكن يظل ذلك فى إطار علاقة علاء الدين بمصباحه، فيضاف شعار مكافحة البطالة إلى مظاهرات مواجهة الأمن المركزى. فطليعة الأمة قررت أن تكون أيضا بطلة للقمة الخبز، هاتفة بها فى أحد أكبر ميادين القاهرة ضد السلطة مباشرة، بدلا من السعى الدءوب لتحقيق تواصل حقيقى مع الجمهور الذى يعانى من البطالة فى مواقعه. ولكن حتى هذا الاعتراف بقضايا نوعية للجمهور يقتصر عند القوميين على "الجمهور" فقط.. أما المتعلمون فهم "طليعة" مثله، أو يجب أن يكونوا كذلك، وبالتالى عليهم إخضاع مطالبهم النوعية للهدف الأسمى.
وبنفس منطق "إيقاظ" روح الشعب رفضت "كفاية" أى نضال من أجل الديمقراطية من خلال دخول معركة الانتخابات الرئاسية، فهو إضفاء للشرعية على النظام الذى ستسقطه "كفاية". ومن باب تمثيلها المؤكد للشعب الموحد طالبت الجميع بمقاطعة الانتخاب، ثم أدان بعض قادتها كل المرشحين حتى لو حملوا برنامجا ديمقراطيا مشابها لمطالبهم الديمقراطية، بما فيها تغيير الدستور بواسطة جمعية تأسيسية منتخبة. وإزاء "عصيان" بعض الأحزاب لسياستها "الوطنية"، اتهمهم قنديل بالخيانة (على سبيل المثال فقط، أنظر: المصرى اليوم 26/8).. فـ"كفاية" ليست حزبا أو تيارا أو اتجاها، وإنما قادتها وأشباههم من القوميين بمثابة ضمير الأمة المتعالى.. المرجعية النهائية "للحق" الوطنى.
والحال أن فكرة ضمير الأمة، (ومثلها فكرة "الحق الإلهى")، أمر لا يتفق مع الديمقراطية بحال. فالضمير المذكور ليس مطروحا كسياسة تواجه غيرها، وإنما كمرجعية عليا للسياسة، على طريقة مرجعية آيات اللـه فى إيران. ضمير الأمة سيد أعلى، ولكنه غير مسئول أمام أية جهة، هو مسئول أمام نفسه، وأمام الأمة، ولكنها ليست مسئولية انتخابية أو مبنية على تفويض ديمقراطى، وإنما مسئولية مقدسة، تتمثل بالضبط فى اتباع فكرها القومى باعتباره تعبيرا عن روح الشعب، تماما مثلما يمثل آيات اللـه الإرادة الإلهية. والشعب نفسه ليس أفردا مختلفين يقررون بالأغلبية ماهية مصلحتهم العامة، ثم يغيرون رؤيتهم، وفقا لتوازنات القوى الاجتماعية، وإنما أفراد منوط بهم أن يتبعوا القيادة لتحقيق المهمة المقدسة. والمسافة التى تفصل سياسى الهوية سلوكا وممارسة عن الناس هى بالضبط الأساس الذى يقربه منهم كزعيم ملهم.. يعبر عن "فطرتهم"، ليس بوصفهم مجموعة أفراد أحرار متساوين، ولكن كحاملى حقيقة مقدسة مكتفية بذاتها وسابقة على المواطنين أنفسهم، هى الأمة المقدسة، التى عليهم أن يلبوا "نداءها" الذى يهتف هو به، لأنها منهم بمثابة الروح للجسد.
ولما كانت الطليعة ذات سمة شبه دينية بهذا الشكل، فإن دورها القيادى لا يتحقق بتدبر للموقف المعطى كما هو والتجميع الدءوب للمصالح والتعبير عنها فى ضوء حسابات للمكاسب والخسائر. فالسياسة محلية الطابع (على مستوى النقابة أو الدائرة الانتخابية) فى نظرها تفتقر إلى الحرارة وتعجز عن احتواء "الفكرة" المقدسة التى لا يسعها مكان أو زمان. وإنما يمكن أن تتحقق فحسب إذا نجحت أفعالها البطولية، و"صمودها"، فى "إيقاظ الفطرة". وباختصار، سياسى الطليعة الهوياتى هو بالتعريف مثقف رومانسى يتعامل مع "الروح"، لا "الجسد".
ولما كانت المظاهرة هتافا استدعائيا بطبيعتها، فإنها تصبح (ما لم تستول الحركة على السلطة)، هى السياسة، وهى التجسيد الأعلى للحركة.. هى روحها ومبدأها ومنتهاها. ولهذا وعد قادة "كفاية" بمواصلة المسيرة حتى ينجح "الإيقاظ"، وتقوم المظاهرة الحاشدة والنهائية. ولكن الواضح هو أن "الإيقاظ" قد فشل. فما العمل إذن؟ هنا يكون الشعب هو المذنب. أنظر مقالات إبراهيم عيسى مثلا فى الدستور، التى ينعى فيها على الشعب جبنه وخنوعه، حتى أنه لم يعد بحاجة إلى قمع. وانظر قبله مصطفى كامل الذى راح ينعى فى رسائله الخاصة مولده فى شعب لا يصلح ولا يرغب فى النضال من وجهة نظره.. بينما راح يهتف: "لو لم أكن مصريا... الخ". سياسى الهوية لا أفق أمامه سوى التراوح بين تقديس الشعب وسبه.. لأنه منذ البداية طرح نفسه معبرا عن وطن مقدس.
سياسى الهوية على هذا النحو يطرح نفسه منذ البداية كسلطة موازية للسلطة القائمة.. فى صراع حياة أو موت (للوطن طبعا). ومن هنا يكون مشروعه الحقيقى هو ازدواج السلطة.. بين مؤسسات دولة تتولى المسئولية الفعلية، وضمير (هو المثقف ذاته)، يقف خارجها، يحاكمها ويناوئها. ليس هذا النموذج الغريب ببعيد عن تراث المنطقة العربية ككل، فهو لا يختلف عن موقف حركة حماس التى تشارك فى الانتخابات، ولكنها ترفض المشاركة فى السلطة التنفيذية، أو، فى مصر، الإخوان المسلمين، الذين رفضوا دائما أن يتحولوا إلى حزب (وإنما يطالبون الآن بحزب إلى جانب الجماعة). فالضمير حين يتولى التنفيذ يفقد صفته "الضميرية"، ويصبح طرفا فى معترك سياسى، ويصبح مذنبا بتفتيت وحدة الشعب المقدس، ويصبح مضطرا لإدانة صريحة وعلنية للشعب حين يحصل مثلا على 5% من الأصوات.

عودة إلى الجذور: تشكُّل المثقف الطليعى
غير أن التناقض العميق الكامن بين الخطابين القومى والديمقراطى، بين السياسة والمظاهرة، بين حقوق المواطنين و"شرف الوطن"، ما زال فى بدايته، لأن الحركة كلها ما زالت محدودة وليس فى إمكانها اتخاذ أية قرارات مصيرية، لها أو لـ"الوطن". ولكن هذا لا يمنع من أن نلاحظ أن "كفاية" قد حققت فى واقع الأمر نقلة مهمة نحو الديمقراطية. الهوية فى الأصل مبدأ مطلق لا يحتمل شركاء.. فالهوية الدينية والوطنية مثلا لا تجتمعان بشكل طبيعى، فكيف اجتمعا بتنويعات مختلفة فى "كفاية"؟ من حيث المبدأ يستلزم اجتماع هويتين أو أكثر نوعا من القبول المتبادل، ومجال مشترك للعمل.. تماما مثلما لا يستطيع حزبان ملكيان أن يتنافسا على السلطة لصالح أسرتين ملكيتين إلا فى جمهورية، كما لاحظ ماركس. وقد حقق بيان تأسيس كفاية جمع عناصر من حزب الوسط إلى العمل إلى ماركسيين قوميين ينتمون لتراث السبعينيات إلى ناصريين، حول مطلب "إنقاذ العروبة".
ومن حيث الواقع ثمة تاريخ من محاولات التوفيق والتعايش تمثل فى حوارات قبول متبادل سابقة بين هذه الأطراف فى التسعينات، صدر كتاب "مصر والنموذج الديمقراطى" الصادر عام 1999، ليلخصها، كما يشهد عليها قيام حزب العمل نفسه، الذى سعى إلى توليف خلطة هوياتية تكون قومية وإسلامية فى نفس الوقت. وإزاء التراجع الملحوظ لإيديولوجيات الهوية كان من السهل على هذه الأطراف، بصرف النظر عن استمرار خلافاتها "العميقة" حول الهوية المطلوبة، أن تتعايش حول هدف إسقاط الأعداء، وأن تقبل ذلك تحت شعارات ديمقراطية تظل مشروطة بمبدأ الهوية كما رأينا.
هذا عن "المستجد الديمقراطى" فى فكر "كفاية". أما الأساس الهوياتى فأسبق بكثير حتى على مولد قادتها أنفسهم. فمبدأ تغليب ما يسمى وطنيا أو قوميا على الديمقراطى، أى تغليب "مصالح الدولة العليا" على حقوق سكان الدولة قديم فى التراث السياسى المصرى. فلنلق نظرة على الجذور:
نشأت النزعة الوطنية المصرية الحديثة منقسمة منذ البداية بين تيارين: قومى له رافد دينى، وليبرالى له ميول حداثية، تمثلا فى الحزب الوطنى لمصطفى كامل وحزب الأمة. وقد تلقى التيار القومى دفعة قوية فى الثلاثينيات من القرن الماضى وما بعدها، بنشأة تيارات سلطوية مثل "مصر الفتاة" (وامتدادها حزب العمل الحالى)، والحزب الوطنى "الجديد" (المنشق عن مصر الفتاة)، والإخوان المسلمين (ومستمرون حتى الآن). هذه المنظمات جميعا اعتمدت بالدرجة الأولى على المتعلمين، وعلى فئات وسطى من البرجوازية الصغيرة (مثل أصحاب الدكاكين وما أشبه)، ومالت إلى إقامة صلات سياسية بالسراى الملكية، لما جمعهم معها من هدف مشترك تمثل فى محاولة تحطيم حزب الوفد.. أقوى الأحزاب الجماهيرية المصرية فى التاريخ الحديث، الذى ورث تراث الوطنية الليبرالية. وخلال هذا النضال الطويل بلورت أفكارها الوطنية السلطوية الهوياتية.
هذه التيارات القومية/ الدينية تعد بمثابة الأب الروحى لانقلاب يوليو 1952، فهى التى صاغت فكرة قيادة النخبة المخلصة للشعب، بدلا من مطالبته بحقوقه الديمقراطية، وتربيته على قيم معينة، بما يتضمن الوصاية عليه "لصالحه"، بحمايته من "الأفكار الضارة"، "العميلة"، و"الغزو الثقافى"، وتحقيق وحدة الشعب بحل الأحزاب التى تفرقه. واعتُبرت هذه "الديمقراطية الموجهة"، وسميت "الديمقراطية السليمة" أيضا، الضمانة الأساسية لمنع تلاعب الاستعمار بالحياة السياسية، وبالتالى لتحقيق "أهداف الشعب"، التى يعرفها القادة المخلصون القادرون على حمل "الأمانة" (الاسم الجديد للسلطة). وبالإجمال إنشاء نظام سلطوى يتولى رعاية الشعب، ولا يخضع "لأهواء" جماعاته المتفرقة. ويكتمل هذا كله بفكرة النهضة كمشروع ضخم هائل لا تقوم به إلا الدولة المسيطرة، التى تعتبر ضرورية لاستدعاء روح الشعب وإيقاظها، على نمط حكم هتلر لألمانيا، وأحلام بدور إقليمى وعالمى هائل الأبعاد، وفكرة العزة والكرامة، وقهر جميع الأعداء بسهولة.
فى عهد دولة الضباط، الذين تربى معظمهم فى أمثال هذه المنظمات، أصبحت هذه الأفكار هى الإيديولوجيا السائدة، مدعومة بقوة الدولة وقمعها لكل صوت يخرج عن صوتها الواحد المعبر عن ضمير الشعب الواحد. وفى ظل النشر المنهجى لثقافة الخوف وسيادة ضباط الجيش وأجهزة القمع على الجميع، وفى ظل التغنى بانتصارات وإنجازات متلاحقة من خلال تحكم شامل فى كل وسائل الثقافة والإعلام (وسُميا معا فى البداية اسما دالا: "وزارة الإرشاد القومى")، وسيف المعز وذهبه، أصبح مثقفو الدولة السلطوية أغلبية. ومثل كل شىء أنتجته هذه الدولة، بدأ مثقف الدولة عملاقا ثم أدركته الشيخوخة سريعا (مثل التعليم الذى أخذ يزداد توسعا وانحطاطا فى نفس الوقت؛ والصناعة "الثقيلة" التى دخلت مرحلة الخسائر بسرعة الصوت، الخ)، فبدأت رئاسة الصحافة مثلا بمصطفى أمين وهيكل، لتنحدر تدريجيا إلى نافع وسعدة، ثم القط وأشباهه الآن.
وبسبب الهيمنة الشاملة السياسية والإيديولوجية للنظام الجديد وإيديولوجيته القومية، لم يخرج أكثر المعارضين عن "ثوابته"، حتى ولو كانت معارضتهم عنيفة تصل إلى حد المطالبة بإسقاطه. فتدريجيا ظهر المثقف والسياسى السلطوى المعارض (وخصوصا بعد انقلاب القصر الذى نفذه السادات لصالح أحد أجنحة النظام)، الذى ترمى معارضته إلى "استعادة شموخ" الدولة السلطوية، لتصبح أكثر وطنية بمعايير مشابهة لتلك التى تبناها انقلاب يوليو، نظرا لأن النظام فى نظره قد "خان" هذه المعايير (تذكر التخوين المتبادل بين "كفاية" والنظام). فالمثقف والسياسى السلطوى ليس فقط ذلك الذى يخدم السلطة الحاكمة، بل يشمل أيضا من يحمل مشروعا سلطوياً معارضاً بتلاوينه الدينية والقومية. وهو سابق تاريخياً، ولاحق ومواز، لمن يخدمون السلطة القائمة.
يحمل هذا السياسى القومى المعارض دائما، مثل نظام يوليو، فكرة مجردة عن الوطن أو الدين، يعتبر صياغة السكان وفقا لها واجبا مقدسا ملقيا عليه. وهو يعتبر هذه الفكرة تعبيرا دقيقا عما يدور بالضبط فى ضمير ما يسميه "الشعب". وبتكفير أو تخوين النظام، يصبح هذا المعارض هو الجدير بالتعبير عن الضمير المذكور بمعارضته للنظام بالذات، وبالتحديد بالدعوة لإسقاطه. ومثلما كان عبد الناصر هو "القائد المعلم"، وضباط يوليو "طليعة"، بمصطلحات "الميثاق"، يطرح هذا السياسى نفسه كطليعة للجماهير، يطرحها كقدوة، كمثل أعلى أخلاقى، مهمته أن يطلق الكلمة السحرية التى تحرر عفريت المصباح.

تصور مختلف؟
فى ضوء ما سبق يتطلب أى نضال ديمقراطى جدى فى المقام الأول نقد موقف الطليعة الهوياتى. من الناحية العملية ليست المظاهرة الشكل الأعلى للنضال الديمقراطى، وإنما أحد الأشكال التى يمكن أن تفيد فى لحظة معينة. لقد كسرت المظاهرات الأولى لـ"كفاية"، وقبلها، حاجزا ما، وربما يجب أن يتم الحفاظ على المظاهرة كشكل متاح من أشكال الاحتجاج. ولكن المظاهرة لها حدودها، فهى لن تعلم الناس المقاومة، ولن تكسبهم خبرة فى صراعاتهم اليومية، ولن تحول، فى حد ذاتها، وعيهم جذريا. واقع بروز "كفاية" ودورها يعنى فى الواقع أن المجال السياسى ما زال فقيرا، وأن النضال الديمقراطى ما زال أمامه شوط طويل. ليس المقصود بنقد "كفاية" وأسسها الفكرية إدانتها.. فبروزها ابن عوامل كثيرة كما رأينا، بل يمكن القول أنها تعبير صاف عن واقع الفقر السياسى الموروث. وفى إطار هذه المعطيات لا شك أنها لعبت بشكل ما دورا إيجابيا.. وما سبق يرمى إلى بيان حدود هذا الدور.
التعديل الدستورى المحدود، على عيوبه (حيث يرمى إلى الاحتفاظ بأسس الدولة السلطوية)، أتاح للمرة الأولى حملة انتخابية بطول البلاد وعرضها ضد الكثير من أسس النظام القائم، قام بها حزبا الوفد والغد. غير أن الحملات الانتخابية العامة وحدها لا تكفى. تثبت الانتخابات مدى قوة آليات الدولة الزبونية (التى تشترى زبائن النظام بالرشاوى الانتخابية وغير الانتخابية) التى يتطلب النضال الديمقراطى العمل على تفكيكها، ولكنها تعرقلها وتفضحها وتفككها أيضا. ولكن بانتهاء الانتخابات تتطلب مواصلة الكفاح الديمقراطى إجراء حساب للقوى الاجتماعية الأكثر ميلا إلى تأييد الكفاح الديمقراطى، وتلك الأكثر ميلا لرفضه، أو للحد منه، والتوجه إلى القوى المناسبة، باعتبارها دعامة الديمقراطية الحقيقية، فى إطار من الصراع السياسى والاجتماعى، والنضال من أجل إتاحة الفرص أمامها للتنظيم المستقل.
تكشف الانتخابات أيضا، إلى جانب الأحوال العامة، أن آليات الدولة الزبونية هذه فى انحسار، وأنها أصبحت عاجزة عن تعبئة نسبة معتبرة من السكان. وتكمن المشكلة فى أن هذا الجانب الضئيل من التعبئة ما زال أكبر مما تستطيع المعارضة أن تعبئه. وهناك أيضا الآليات البوليسية (سيف المعز الذى يساند ذهبه)، والتى تلعب دورا متزايدا مع تآكل قدرة النظام على منح العطايا. وتتطلب تعبئة كل القطاعات الخارجة عن الحلبة السياسية كلية تحرير قطاعات أكبر وأكبر من المجال العام من التدخل الإدارى والبوليسى، وفتحها للتفاعل السياسى الحر. فى هذه المرحلة ربما كان تعديل قوانين الجمعيات الأهلية والنقابات والجامعات، لرفع يد النظام الرعوية/ البوليسية عنها، أكثر أهمية حتى من قوانين مباشرة الحقوق السياسية. بل وربما تكمن أهمية إلغاء قانون الطوارئ أساسا فى تجنيب العمل فى هذه المنظمات وسائل العسف البوليسى غير القانونى. وفى المجال العام ربما كانت أنشطة جمعيات حقوق الإنسان، شرط أن تصبح جمعيات محترفة جديرة بالثقة وقادرة على إشراك جمهورها فى عملها، الوسائل الأكثر إيجابية فى تشجيع المواطنين على التمسك بحقوقهم الإنسانية، ومساندتهم فى العسف اليومى بمصالحهم. وعلى مستوى الخطاب، ربما كانت عمليات المراقبة المنهجية لتجاوزات النظام ووسائله الدقيقة (على نمط مراقبة الانتخابات، أو تتبع التعذيب فى الأقسام، الخ)، أكثر أهمية من "التشهير" و"الفضح" العام على نمط يسقط ويعيش.
أرجو ألا يكون هذا من باب تمنِ لما يجب أن يكون. والواقع أنه توجد شواهد موازية لـ"كفاية" تشير إلى هذا الاتجاه. فمطالب القضاة النقابية لعبت دورا محوريا فى تعميق أزمة النظام، والمراقبة الداخلية والخارجية للانتخابات دفعت لاجتهاده للحد من عمليات التلاعب وتطوير بعض أدواته السياسية، وجعلته يبذل مجهودا مضاعفا أضعافا لحشد أنصاره الذين كان غنيا قبل ذلك عن حشدهم. وقبل ذلك أدى استقصاء وقائع التعذيب إلى محاولات ما زالت أولية لفرض نوع من الضبط الذاتى على الشرطة، ولعل ثمة عشرات من الأمثلة الأخرى.
وباختصار، لا يمكن تحقيق الديمقراطية بمظاهرة، فالديمقراطية هى توسيع المجال السياسى، أى إشراك المزيد والمزيد من الأفراد فى الشأن العام. وهذه المشاركة تُكتسب مهاراتها، بل تتحدد مطالبها أصلا، بالممارسة فى كل موقع من مواقع المجال العام، ولا تهبط من السماء، أو بالاستجابة لنداء "الأمة المقدسة". ويتطلب تشجيع هذه الممارسة انتهاج سياسات معارضة واقعية، لا تندفع إلى "المثل الأعلى"، لمجرد أنه مثل أعلى، وإنما تتقدم بشكل منهجى نحو تفكيك آليات الاستبداد بما يتاح من قوى.
هذا كله يتطلب سياسيا جديدا قادرا على أن يناضل فى موقعه، لا أن يطالب بإخضاع هذا الموقع "لإرادة الأمة" التى "يتشرف" بتمثيلها. والحال أنه كما أنتجت هيمنة الدولة الناصرية (وما بعدها) على الاقتصاد والنشر والصحافة والإعلام... الخ مثقف وسياسى الدولة المؤيد والمعارض على السواء، يُنتج اقتصاد السوق المتنامى، طبقة وسطى وعاملة مستقلة، وبالتالى مستقلة عن إشكاليات الهوية، ذات حس واقعى، وقدرة أكبر على الحركة، لا تغرق فى أحلام العزة والكرامة المجردة، وإنما العزة والكرامة العملية، المبنية ربما على قيم الإنجاز لا الأصالة (على ما يوضح مقال عمرو إسماعيل فى هذا العدد). ويقدم تحرر النشر والإعلام والصحافة والنشر نسبيا، أدوات بلورة خطاب هذه الفئات.أما الفئات التى ما زالت مرتبطة بالدولة وتعتمد عليها فى إعالتها على حساب المجتمع فهى بطبيعتها تفتقر إلى مشروع مستقبلى، مثلها مثل سياسى الهوية الذى يمثلها.
ربما كان من بين إنجازات "كفاية" أنها جذبت إلى الميدان السياسى بعض أبناء هذه الطبقات الجديدة. ليس كل متظاهر هوياتيا.. كثير من الشباب كانت هذه تجربتهم السياسية الأولى، وقد دخلوا العمل العام من قبل من خلال منظمات خدمة اجتماعية وجمعيات حقوق إنسان، وما شابه.. ولكن تطور الحركة الديمقراطية يعتمد على تجاوزهم هم أنفسهم لتجربتهم الأولى هذه. لقد تبين أن المظاهرات لن تتسع إلى ما لا نهاية بقوتها الذاتية.. وتبين أن النظام أقوى من أن تسقطه حتى مظاهرة إخوانية حاشدة.. وتبين أن معظم الناس ما زالوا فى واد بعيد عن كل شعارات "يسقط"، وتبين أن المتعلمين مجرد قطاع من الشعب، لا يمثلوه، ولا يحلون محله، ولا يقودوه بمجرد تقديم النموذج والمثال البطولى، تبين أن مصر واسعة، أوسع من القاهرة، وأوسع من صحفها والفضائيات التى تصل إليها، وتبين أخيرا أن تغيير النظام السياسى لا يتوقف على مجرد الإقدام والإخلاص.. باختصار تبين أن هناك زمنا قادما حافلا بالتجارب والدروس.. آخر ما يفيد فيه هو التشبث العنيد بالبقاء فى نقطة البداية مع ديناصورات الهوية.


No comments: