محمد السعيد دوير
صدر العدد الأول من نشرة " البوصلة" في يونيو 2005 متضمنا عدة مقالات و" دراسات " حول المشهد السياسي الراهن وتجلياته وتداعياته المحتملة والمتصورة.
ورغم تقديري التام للمبادرات الشخصية أو الجماعية التي يقوم بها بعض مثقفينا فإن هذا لا يمنع – بالطبع – إمكان تأمل مثل هذه المبادرات والوقوف علي تصوراتها وقدراتها. ومدي فاعليتها واستعدادها لتأسيس منابر فكرية أو سياسية ناجعة، إن علي الصعيد النظري أو العملي. ووفق هذا المعنى أجدني قائما الآن علي ضرورة وأهمية مناقشة بعض ما ورد في الرؤية العامة لهيئة التحرير والمتضمنة في المقال الافتتاحي " نحو أفق ديمقراطي من قلب اليسار " والذي فضلت أن أقسمه إلي سبع فقرات حتى تسهل الإشارة والإحالة بالنسبة لي وللقارئ أيضا.
1- تنطلق هيئة تحرير البوصلة من عقلية يقينية سواء في طرحها السياسي أو الاقتصادي أو الفكري وإن حاولوا الإشارة إلي عكس ذلك ، ومصدر هذا اليقين لديهم يبدو في الوقوف علي مرتكزات فكرية لا تزال تقف علي حافة الحوار العالمي ، وعلي مبادرات سياسية تستند علي إنكار التواجد الفعلي للكيانات السياسية القائمة وهو موقف يحتوي في مضمونه نفي الآخر واستبعاد قدرته علي الفعل السياسي.0 لقد كان اليقين – ولا زال – هو عدو العلم والمعرفة وآفة الفكر والنضال التي تلتهم النوايا الحسنة والتحركات المخلصة ... ومظاهر هذا اليقين تكمن في الآتي : -
أ) عنوان المقال " نحو أفق ديمقراطي من قلب اليسار " هو تعبير يريد أن يحمل الدهشة والاعتراف بالخطأ فأن تنبلج الديمقراطية من اتجاه اليسار هو معني يتضمن بالضرورة أنه – أي اليسار – غاب عنه نور الديمقراطية ، وأصبح من الممكن إشراق شمسها بعد غياب نظري وتطبيقي دام قرن ونصف من الزمان .... هكذا يسعون إلي أفق ديمقراطي" دون أن يقدموا لنا تأسيسا علميا لمفهوم الديمقراطية وقراءة تحليلية للديمقراطية الليبرالية المهيمنة علي الواقع المعولم الحالي. ومدى قدرتها علي استيعاب عمليات فك الارتباط الدولي أو المحلي ثم دراسة الحقيقة التاريخية التي ننظر إليها باعتبارها مفهوم مراوغ ووهمي ومزيف يرسخ إلي حكم الارستقراط والنخبة المالية وأصحاب النفوذ، وذلك تأسيسا علي التعريف الإغريقي القديم لها - حكم الشعب نفسه بنفسه ولنفسه – وتطوره بعد ذلك في آراء لوك وهو بز وفلاسفة التنوير ، بما يؤدي في نهاية المطاف إلي اعتباره مفهوما شكليا ظاهريا لا يحمل اى مضمون نقدي أو إيجابي ، وهو تعريف يحمل معني قد ينسحب علي المجتمعات الرعوية والطائفية والقبلية ، بما يعني أنه غير قادر علي إحداث تغير جذري في طبيعة العلاقة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج أو بين البناء النحتي والبناء الفوقي للمجتمع، وذلك لأنه ليس مفهوما فلسفيا مؤسسا علي قاعدة معرفية عقلانية إنسانية مجيدة تعطي للإنسان الفرد الحق في امتلاك المعرفة والثقافة والتعليم والعمل والمسكن بقدر ما هو مفهوم اقتصادي تأسس علي حرية السوق، وبالتالي اختلال في قيمة العمل بما يؤدي إلي إنتاج حريات متعددة محكومة بإطار عام من استغلال البشر و الموارد الطبيعية، الأمر الذي يلقي بظلال من الشك المبين على طبيعة ومصداقية الديمقراطية الليبرالية من زاوية قدرتها علي تحقيق كفاية اقتصاديه وتشبع سياسي لكافة البشر. لقد حاول فوكوياما مؤخرا, أن يرسخ لتلك الفكرة التي تتبناها "البوصلة"الآن,وأعتقد أنها لم تلق رواجا في المجتمع الثقافي العالمى.
ب) -تضمن المقال في حروفه الأولي في تعبير"ربيع الحرية يتفتح في مصر" وهكذا أمكن لهيئة التحرير قراءه الواقع وتوصيفه والإقرار بأن ثمة ربيعا للحرية قد تفتح.وأنني علي استعداد لتقبل هذا الوصف من جهة تحفيز الهمم وبث الأمل في النفوس علي طريقة افتتاحيات القصائد العربية القديمة ولكنني لست مستعدا لتقبله باعتباره توصيف وتحليل ورؤية متبلورة للواقع الحالي لأنه تقرير ينافى منطق التحليل ويجافي الحقيقة، علي الأقل من وجهة نظري0 ومرجع ذلك في تقديري إننا لدينا مرض "سرعة إطلاق المصطلحات " دون الاعتبار بالضرورات التاريخية واللغوية التي تنشأ بناء عليها مناهج الوصف والتحليل والتفسير.فلست واجدا فيما يحدث الآن ربيعا، إذ لا تزال الأفواه مكممه إلا من النخبة ، والسجون والمعتقلات مفتوحة ،ومصادرة الكتب مستمرة ،وتكفير البشر علي قارعة الطريق ،واغتيال الفكر والمفكرين حاضر بقوه في المشهد الثقافي ،والإسلام السياسي يحرف النضال الاجتماعي وينقل معركة المجتمع مع الظلم والفقر إلي معركة شخصية وصراع سلطة، ودعاة التخلف يحولون حياتنا إلي تابوهات مقدسه. إن النظر إلي حرية "المظاهرة والصحيفة" بأنها ربيعا، هو انتصار للشكل لا المضمون وإعلاء من قيمة المظهر دون الجوهر,والنظر للأشياء نظره عاطفية متعجلة دون سند علمي .. إنها حرية تجعل من عادل حموده وإبراهيم عيسي وعبد الحليم قنديل ومصطفي بكري0000الخ روادا للتنوير وأساقفة للحرية ومبشرين جدد بأن ربيعا بديعا سوف ينتقل إلينا بمجرد أننا قلنا "لا للرئيس" إن جوهر الحرية الحقيقي هوانه ليس علي العقل سلطان إلا العقل نفسه.. ونتمنى أن نتمكن في مرات لا حقه من مناقشه تلك القضية باستضافة.
2- ورد في الفقرة الأولي..توصيف النظام الحالي بأنه "ربوني"وهو توصيف رث، فالزبون في اللغة الدارجة ولدي أهل التجارة له عده معان ودلالات وقد تنتقل تلك المعاني إلى التوصيف السياسي 0 إنني أري أن النظام الحالي يعبر عن مصالح فئة طفيلية من الطبقة البرجوازية الرأسمالية التابعة.وبالتالي فهو نظام تابع,فيما يري معظم خبراء الاقتصاد,ونخص بالذكر أفكار مدرسة أمريكا اللاتينية في نظرية التبعية ودراسات فؤاد مرسي وسمير أمين وإسماعيل صبري عبد الله وإبراهيم العيسوي.. وآخرين.
3 - في الفقرة الأولي "هذه الترسانة الهائلة المتشعبة من القوانين والأجهزة تشكل الأساس الحقيقي للاستبداد".. وهو قول ينظر للحقائق في مظاهرها وظواهرها ولا ينظر للاستبداد باعتباره موقفا فكريا بالأساس وبنية نظام اجتماعي نشا ت في التراث العربي الإسلامي والفرعوني تنوعاته المتباينة في مصر والعالم العربي وفق ما تقضي الظروف وشكل وطبيعة الصراع القائم.فالاستبداد هو حاله شامله وظاهره ممتدة بطول الوطن يمارسها ويحيا في كنفها المجتمع الأبوي والذكوري والطائفي والسلطوى والبرجوازي والطفيلي والديني , وهو من ناحية أخري نتاج ما هو سياسي وثقافي واجتماعي وتراثي.
4- في الفقرة الثالثة إن هيئه التحرير "لا تستلهم شرعيتها من تطبيقات تسمي شيوعية أو اشتراكية بعينها تسعي لمحاكاتها وفرضها علي الوقائع القائمة" وهنا لم افهم ما المقصود باستلهام الشرعية؟ هل هي شرعية السوفييت سابقا أم شرعية الايدولوجيا ذاتها ,أم شرعية الوقائع المفارقة لواقعنا الحالي؟ ثم كيف يتأسس هذا الرفض هنا بينما يتشابك في فقره أخري "الخامسة"، مع قبول شرعية جديدة تخرج من عقول يسارية في قولهم"وبينما نقر بأن أية خطة تنموية لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا في ظل آليات السوق". إننا نطرح سؤالا وحيدا تعقيبا علي تلك الفكرة. أليست آليات السوق تلك نظام" زنوني"أيضا؟
5- الفقرة السادسة" إن ما يجمعنا قرر من الاعتبار للتحليل الاجتماعي والسياسي الذي أرسته الماركسية".. وبداية لا أدرك مقدار هذا الاجتماعي والسياسي الماركسي وتأكيدهم في ذات الفقرة"نعيد طرح الرأسمالية الديمقراطية باعتبارها أفضل النظام المتاحة فعليا في مجتمعنا في لحظتنا التاريخية" علي اعتبار أن الرأسمالية لا تزال لديها ما تعطيه وتمنحه للبشرية من تقدم.. وتلك إشكاليه كبري وسوء فهم خطير جدا لدي العديد من مثقفينا حين يربطون بين التقدم العلمي والتكنولوجي والتقدم والتطور القيمى الإنساني وعلاقة الإنسان بالمحيط الخارجي سواء كان وعيا او ماده حين يرادفون العلم بالرأسمالية كنظام اقتصادي مستقل والعلم نسق مغلق يخلق آلياته بنفسه ويمكن العودة إلي كتابات فلاسفة العلم أمثال توماس كون وفيرابند ونقولاس ماكسويل ولاكاتوش...
6- خلاصة القول هنا...إن هذه الورقة البرنامجية اتسمت بالعديد من الأخطاء:-
أ- منهجيا:- إنها تحدثت عن برنامج مفتوح يشمل ويتضمن كافة القضايا الإنسانية والتوجيهات البشرية والأفكار والرؤى التي أنتجتها الثقافة العالمية مع الإصرار علي التحلل من كل إطار محدد وهدف مستقبلي واضح من منطق إن هذا الطرح يسمح بالقدرة علي التحرك أو التوسيع في الجهات الأربع..وهنا تكمن هلامية التصور وضبابية الرؤية وفقدان الاتزان الفكري, وتلك صفات مباشره لغياب المنهج والمنهجية, أو بمعني آخر غياب "البوصلة"
ب- معرفيا:- لقد اختلت لدي هيئة التحرير المفاهيم ودلالاتها ومضمونها المعرفي, فطرحوا الديمقراطية كأيدلوجية وغطاء عام يمكن أن تستظل به كافة التيارات,متجاهلين تنوع واختلاف المفهوم من مدرسة فكرية إلي أخري, فحولوا المصطلح إلى ما لا يشير إليه دلاليا سواء إشارته السياسية أو التاريخية .وانطلقوا من هذا الموقف "اللامعرفي"إلي بناء تصور عام "جذري" في ذات الوقت الذي يعلنون فيه أنهم ليسوا مشروعا فكريا وسياسيا "متبلورا" ومن جهة أخري فإنهم لم يعلنوا ماذا تعني" الجذرية" بالضبط هل هي الأصولية التاريخية لمصطلح الديمقراطية أم الأصولية المعرفية –بمعني امتلاك كافة محتويات المعني-أم أصولية سياسية باعتبار أن الديمقراطية مظهرا من مظاهر تطور علاقات الإنتاج والقيم الليبرالية......؟
ج- سياسيا:- تنطلق توجهات هيئة التحرير من فضاء عام هو العولمة البديلة ثم تتدرج بها المراحل إلي اليسار الديمقراطي العالمي, والذي يتبلور في العالم الثالث بنماذجه المتعددة في البرازيل ولبنان. ولا اعرف علي وجه الدقة كيف يتم أو يمكن تفعيل تلك الأفكار في واقعنا المصري- هذا إذا اتفقنا علي إمكانها عالميا- في الوقت الذي يصرحون فيه بأنهم لا يستلهمون تجارب أخري وإسقاطها علي الواقع. ثم ما هي آليات هذا المشروع الطموح.و... ننتظر الإجابة.
وأخيرا.....هناك فارق وتمييز واضح بين عبارة "نحو أفق ديمقراطي من قلب اليسار "التي تعني أن الديمقراطية هي القاعدة واليسار هو الأداة وعبارة "نحو أفق يساري من قلب الديمقراطية" التي تؤكد علي أن كل تأسيس معرفي وبناء مستقبلي هو منطلق من قاعدة فلسفة التقدم بأدوات ديمقراطية .....ولذلك أرجو تصحيح الخطأ المطبعي في عنوان المقال الافتتاحي .
----------------------------------
الزميل محمد دوير:
شكراً على الاشتباك النقدى الجاد مع الأطروحات المعروضة فى العدد الأول من البوصلة. ونرحب بهذا النقد إذ أنه يعد علامة تقدير للأفكار محل النقاش والتى استفزت ذهن القراء وثانياً لأنه الحافز الرئيسى على تطوير تلك الأفكار والوصول الى رؤى أكثر تماسكاً للتحولات الجارية فى المشهد السياسى والفكرى المصرى ولموقع اليسارمن هذه التحولات.
بداية نتفق مع نقدك فى فكرتين: الأولى أن صياغة الإفتتاحية شابها الكثير من اليقينيات وبدا وكأنها تنشأ من فراغ فكرى لم يسبقها اليه أى من فصائل اليسار المصرى. وهذا تجاوز مرده الى الصياغة وليس الى أى قناعة راسخة بنفى الآخر. في هذا السياق، فإن اختيار عنوان "نحو افق ديمقراطى من قلب اليسار" لم يكن بغرض إثارة "الدهشة والاعتراف بالخطأ" أو الإشارة الى إمكانية " شروق شمس الديمقراطية بعد غياب نظري وتطبيقي دام قرن ونصف من الزمان". على العكس تماماً، كان المقصود من اختيار العنوان التشديد على أن الأوان قد حان لإسهام يسارى مبدع يفتقده الجدل السائد بشأن قضية الديمقراطية فى مصر ونعتقد أننا نملك الأدوات التحليلية الكفيلة بانتاجه. على كل حال، الافتتاحية واضحة بهذا الشأن وأعتقد أنك تجاوزت فى تأويل هذه العبارة. الفكرة الثانية التى نتفق بشأنها هى أن هيئة التحرير لم تتوسع فى تبيان أوجه نقدها للديمقراطية الليبرالية وتميز طرحها- أى هيئة التحرير- بشأن قضية الديمقراطية فى مصر. على أن هذا القصور يتجلى فى الإفتتاحية فقط والتى لا ينتظر منها أن تقدم تأصيلاً نظرياً لمفهوم الديمقراطية أو أن تطرح برنامج عمل سياسى إذ أن مطبوعة بهذا الشكل لا تعنى ببرامج العمل السياسية فى صيغتها المباشرة. ولكن لا ينسحب هذا النقد على باقى الدراسات المنشورة بالمجلة إذ حفلت تلك الأخيرة بالنقد الواضح لحدود الديمقراطية الليبرالية فى سياقها المصري كما يطرحها منظرو الحزب الحاكم (انظر مقالى سامر سليمان وعمرو عبد الرحمن) أو كما يطرحها بعض أقطاب المعارضة العلنية ومنظمات حقوق الإنسان أو حركات التغيير البازغة (انظر محمد نعيم وعمرو عبد الرحمن وشريف يونس). لن أتوسع هنا فى ذكر الملاحظات النقدية الواردة فى تلك المقالات ولكن آمل أن تجد فى هذا العدد قراءة نقدية اكثر توسعا لأطروحات ليبراليو لجنة السياسات، كما يجسدها عبد المنعم سعيد. ودعنى أختتم هذا الجزء الافتتاحى بدعوة كل من يرغب فى الاشتباك النقدى مع مقولات الديمقراطية الليبرالية الى تبادل الأفكار سوياً على صفحات البوصلة.
إذا تركنا الملاحظات الشكلية وانتقلنا الى المضمون، أظن ان جوهر الخلاف فى تقييم الأطروحات الواردة فى المجلة ناتج عن الاختلاف فى توصيف طبيعة النظام السياسى القائم فى مصر. ففى تعليقك تذكر "ورد في الفقرة الأولي..توصيف النظام الحالي بأنه "ربوني"وهو توصيف رث، فالزبون في اللغة الدارجة ولدي أهل التجارة له عده معان ودلالات وقد تنتقل تلك المعاني إلى التوصيف السياسي إنني أري أن النظام الحالي يعبر عن مصالح فئة طفيلية من الطبقة البرجوازية الرأسمالية التابعة.وبالتالي فهو نظام تابع,فيما يري معظم خبراء الاقتصاد,ونخص بالذكر أفكار مدرسة أمريكا اللاتينية في نظرية التبعية ودراسات فؤاد مرسي وسمير أمين وإسماعيل صبري عبد الله وإبراهيم العيسوي..وآخرين". دعك من أننى لا أفهم وجه الرثاثة فى تعبير "الزبونية" وهو ترجمة دقيقة لمصطلح شائع فى العلوم الإجتماعية “Clientalism” ولكن هذا توصيفك للنظام المصرى للتبعية ينطوى على خلط منهجى بين مفهوم النظام السياسي ومفهوم التبعية كحالة تاريخية محددة تصف علاقة هذا "النظام" بالسوق العالمى . النظام السياسى يشير الى مجمل العلاقات القائمة عبر المؤسسات والتى تخترق كل من الدولة والمجتمع المدني ويتم وفقاً لها توزيع الموارد المادية أو الرمزية. أما التبعية فتشير الى وضعية راهنة يفتقد بمقتضاها هذا "النظام" -الذى لم تقم بتعريفه- إلى الاستقلالية فى علاقته بالنظام العالمى كما أن هذه الوضعية نفسها تلعب دوراً فى صياغة طبيعة هذا النظام. ومن وجهة نظرنا أن هذه العلاقات السابق الاشارة اليها عند تعريف النظام قائمة على مفهوم الزبونية أى أن يتم تورزيع الموارد والنفاذ إلى مصادر السلطة الرمزية من خلال آلية مستندة الىالولاءات الشخصية التى يتم نسجها عبر المؤسسات القائمة. فهذه الآلية إذاً ليست بمؤسسية فى حد ذاتها. كما أنها ليست بآلية طائفية أو عشائرية الطابع حيث أنها ليست حكراً على أبناء طائفة بعينها وهكذا. وتلعب العلاقات المتشابكة التى يغزلها هذا النظام الزبونى مع السوق العالمى دوراً محورياً فى ترسيخ هذا الطابع ودعمه، من خلال المنح والتحويلات المالية التى تتجه مباشرة عبر هذه الشبكة الى جيوب المهيمنين على هذا النظام، بقدر مايولد اختلالات ينتج عنها بعض الأزمات على الصعيد الدولى أو الإقليمى مثل الشكوى من الفساد المستشرى وغياب حكم القانون. أى أنها علاقة ليست بالثابتة او اللاتاريخية كى يوصف بها النظام ناهيك عنم أنها أحد مصادر تشكيله مع مصادر أخرى تضرب بجذورها فى العلاقات الذكورية مثلاً أو الخطاب الثقافى الرجعى المهيمن، فكيف يحال النظام الى أحد مصادره كأن أقول مثلاً أن النظام المصرى ذكورى أو ظلامى؟؟.
على أن إحلال الحالة التاريخية المحددة محل الآليات المتجددة والخاضعة في تشكيلها لعمل الفاعلين الإجتماعيين يفضى الى المزيد من الاختلالات التى ما زالت تهيمن للأسف على الخطاب اليسارى المصرى. على سبيل المثال، صفة التبعية البنيوية الطابع تستلزم قاعدة طبقية تستند اليها فى عملها وهى هنا الرأسمالية الطفيلية. وحديث الرأسمالية الطفيلية هو حديث ذو شجون يمتد الى منتصف السبعينيات من القرن الماضى حينما اعتبر أحد أهم فصائل اليسار المصرى أن البرجوازية الطفيلية العاملة فى مجال المضاربات المالية أو الاستثمار العقارى وما ارتبط به خلال تلك الحقبة من فساد واسع النطاق وتعاملات غير شرعية هى الجناح المهيمن داخل الحلف الاجتماعى الحاكم والذى يضم البيروقراطية والبرجوازية الوطنية. دعك من أن هذا التوصيف لم يعد ينطبق على الحالة المصرية المعاصرة. فلا يمكن بأى حال إطلاق وصف الطفيلية ذاك على أجنحة البرجوازية المصرية الصناعية الصاعدة والتى تتخذ زمام القيادة داخل الحلف الإجتماعى الحاكم. ولكن ما يعنينا أن مفهوم الطفيلية ذاك هو مفهوم لا يمكن تأسيسه علمياً على الإطلاق. فعلى حد علمنا ان إقامة حواجز مفاهيمية بين أوجه أنشطة البرجوازية المختلفة أمر مستحيل اخذاً فى الاعتبار التعقيد الذى تتسم به الإقتصاديات الرأسمالية عموماً. فى هذا السياق يمكن اعتبار التصنيفات المختلفة لأجنحة البرجوازية تبعاً لأنشطتها الانتاجية- صناعية أو زراعية أو تجارية- مثلاً هى تقسيمات تحليلية أكثر منها واقعية. فإذا كان المعنى بالطفيلية هو هيمنة الأجنحة العاملة بالنشاط المالى على مجمل أنشطة الطبقة فنحن نتحدث عن طابع طفيلى للرأسمالية ولا نتحدث عن رأسمالية طفيلية يكون التخلص منها هو الحل لمشكلة التبعية. وغلبة الأنشطة المالية على مجمل أعمال الرأسمالية هو ميل أصيل ملازم لعمليات التحول من الإقتصاد الموجه والواقع تحت هيمنة البيروقراطية وما يقترن به من فتح للأسواق وتحرير للمعاملات المالية وسرعان ما يتراجع إذ لا يمكن تأسيس نمو رأسمالى دائم معتمداً على هيمنة هذه الأنشطة. أما إذا كان المقصود بالطفيلية هو أجنحة البرجوازية المرتبطة بالسوق العالمى- مع افتراض وجود برجوازية لا ترتبط بالسوق العالمى- فالأحرى تسميتها بالبرجوازية التابعة الغير منتجة، أو ما يطلق عليه فى أدبيات مدرسة التبعية "الكمبرادور"، وفى هذه الحالة سنواجه بالسؤال الطبيعى حول صحة افتراضات مدرسة التبعية والتى ناقشناها فى أحد مقالات هذا العدد حول السياسة الخارجية المصرية نرجو العودة اليه، هذا مع التنبيه أن مفهوم "البرجوازية التابعة" كشقيقه "البرجوازية الطفيلية" هى تعبيرات تنتمى الى القاموس السياسى/الأخلاقى أكثر من انتمائها الى التحليل العلمى الدقيق. خلاصة القول أن محاولة تأسيس طابع للنظام السياسى المصرى من خلال النظر لنمط محدد من الهيمنة الطبقية هو أمر مشروع وجائز علمياً. أما إطلاق الأوصاف السياسية اللاتاريخية ذات الطابع البنيوى على كل من البنية الطبقية الداخلية والنظام العالمى فهو الجذر الطبيعى لاضطراب مقولات أغلب فصائل اليسار المصرى وعدم صلاحيتها كأطر تحليلية وانغلاقها على نفسها تجتر حتمياتها البنيوية دونما أى إبداع فكرى على الإطلاق. على الجانب الآخر نحاول فى "البوصلة" التخلص من تلك الحتميات البنيوية وننظر الى الدولة والمجتمع المدنى والسوق كمجالات مفتوحة لصراع القوى الإجتماعية يعاد تعريفها تبعاً لتحولات علاقات القوى داخلها. وكل ما يعنينا هو استراتيجيات القوى المسودة الساعية للتحرر داخل تلك المجالات المفتوحة وليس نفى المجالات فى حد ذاتها. هذا هو ما يفسر اهتمامنا البالغ بقضية مقرطة النظام القائم والتخلص من طابعه الزبونى إذ أن هذه المقرطة هى السبيل الوحيد لاتاحة الفرصة أمام الطبقات الخاضعة من إحداث تحولات جذرية فى علاقات القوى داخل تلك المجالات.
فى النهاية لا يسعنا إلا توجيه الشكر لهذا النقد البناء. فهذا الاشتباك النقدى هو الهدف النهائى من إصدار تلك المطبوعة فى التحليل الأخير.
(البوصلة)
صوت ديمقراطي جذري
29.8.06
البريد : أفق يساري من قلب الديمقراطية
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment