صوت ديمقراطي جذري

29.8.06

فقر الفن أم عجزنا عن الرغبة؟


فيروز كراوية


إلى أي مدى يمكن اعتبار الفيديو كليب مجالا ديموقراطيا؟ وكيف استقبلنا "أخاصمك آه"؟ وكيف أصبحت الأغنية الآن بمثابة لا وعى نرمى فيه هواجسنا؟ تتساءل فيروز كراوية فى هذا المقال عن أثر الفيديو كليب على صناعة وتلقى الأغنية، وعن علاقتنا بالقدرة على البهجة والتعامل مع مشاعرنا.

كانت الأغنية واستمرت أحد أسهل القوالب الفنية تداولا وأكثرها مصاحبة للناس فى حوادث يومهم. ورغم وجودها القوي خلال تاريخنا المعاصر، فان ذلك لم يسهم فى تطورها بما يتناسب واحتياجنا لها كما حدث فى أنحاء كثيرة من العالم المتقدم والنامى. لقد لعبت الأغنية والفرق والأنواع الموسيقية الواسعة أدوارا فاعلة فى التحريض وتعميق الشعور بالذات والكون فى العديد من التجارب التى جعلت من الفن الغنائى بحق لسان حال شعوب الأمريكيتين وأفريقيا - باستثناء منطقتنا العربية - وأوروبا. ولازال ظهور واستكشاف أنواع موسيقية وشعرية جديدة وتطوير أنواع قديمة يطرح بدائل لانهائية لاستمرار هذا الفن الاجتماعى مؤثرا ومطلوبا. أحد الإمكانيات التى طرحها عصر الصورة بل واضطرت لها الأغنية كان الفيديو كليب. هذا الميدان الديمقراطى من حيث إتاحته للفرصة الغير مشروطة للعرض والتكلفة الإنتاجية المرنة واستعصاؤه على احتكار النجوم. بجدارة أتاح الفيديو كليب إمكانية صناعة أغنية ذات أبعاد مرئية بما يحوى ذلك من تقنيات حركية وخيالية وسينمائية.

تسلية ذات أنياب..."أخاصمك آه"؟!
غيرت هذه النقلة بالضرورة من طبيعة متلقى الأغنية ونوعيته. فانضم لجمهور الموسيقى شريحة واسعة من مشاهدى الفضائيات المتوفرة والذين لم يكونوا بالضرورة من المهتمين بالأغنية بشكل خاص. وانتقل تعاطى الأغنية من جمهور كان لابد له أن يسعى نحوها -بشراء الأشرطة أو بحضور الحفلات- لجمهور تسعى الأغنية نحوه وتتهافت لكسب عينيه بالدرجة الأولى. حتى تلك اللحظة كان هذا الأسلوب الفنى الجديد محتفظا بفرصته الذهبية فى توسيع نطاق حرية الأغنية بل واكتساب أرضيات جديدة يطرح عليها رؤيته ورأيه. ولكن الجمهور الجديد كان فيما يبدو مستعدا بدرجة أكبر لاعتبار الأغنية المصورة فنا للتسلية فقط. ولكنه أيضا لم يكن مستعدا أبدا -أو متوقعا- أن تكون هذه التسلية خارج حدود بعينها اعتاد أن يتسلى فيها. وعند هذه اللحظة بالذات قدم الفيديو كليب نفسه لأول مرة كتسلية لها أنياب.."أخاصمك آه". ذات صباح اصطدمنا جميعا بأول أغنية تستخدم الإيحاء الجنسى بجرأة واضحة وبراعة إخراجية تفاعلت فى العمق مع كل ما نحمله من ميول ومشكلات وانطباعات عن الجنس والفراق البين -فى نظرنا- بين ممارسته المستورة وتناوله العلنى. حملت نادين لبكى أغنية شديدة التقليدية كلاما ولحنا وغنجا إلى قلب قضايانا المؤرقة.
دون تردد كتبت الصحف وتحدثت البرامج وباع الجميع وكسب ولكن لم يتوقف أحد أبدا عن مشاهدة الكليب الظاهرة. استدعى المجتمع من سلته الخلفية تناقضه المتكرر فى معالجة مشكلة الجنس، لم يقدم جديدا عما قاله من قبل فى كل الأفلام السينمائية التى أثارت ضجة مشابهة. الغريب أنه باع واشترى بنفس النجاح ودون أن يعانى كساد البضاعة القديمة!! نعم ..قفز الجميع ليستفيد من الأغنية الحدث بداية من برامج التوك شو وحتى الصحف والبرلمان وصولا للدعاة الجدد. نتيجة لرد الفعل الساخن -المفتعل كالعادة- قفزت أسهم الأغانى المصورة اقتصاديا قفزة هائلة غيرت من طبيعة العرض والطلب عليها تماما. تحولت السلعة الفنية بفضل هذا الاستقبال لسلعة تروج لا على أساس تنافسيتها الفنية -نجمها أو موسيقاها أو كلماتها أو تصويرها- بل على جذبها بالدرجة الأولى لجمهور "شريط المحادثة السفلى" وأحدث رنات الموبايل. وهنا بالتحديد استوى الجميع، أشهر النجوم وصانعو الكليبات المفرقعة، فى تطور نوعى هام لم يعد يؤثر فى جريان الشريط السفلى من يغنى أو أى أغنية. المغنى يكسب أجره ويزيده مسبقا حتى قبل أن يعرف درجة نجاح أغنياته لأن المنتج والقنوات لم تعد تكسب منه إلا بوصفه علامة تجارية تجاورها أموال شركات الموبايل والإعلانات على صورته وصوته.

بعيدا عن الذات...مرة اخرى!
وإذا قرأنا من زاوية أخرى أسباب رد الفعل هذا الذى ذهب بنا بعيدا جدا عن الفرصة المتاحة، نجد أن" أخاصمك آه "فى حد ذاتها قدمت بديلا لم نرد التعاطى معه بجدية. فبينما ذكرت نادين لبكى بصراحة وعلى صفحات المجلات أنها قصدت الإشارة بوضوح لديناميكيات العلاقات بين رجال وامرأة فى وسط شعبى عربى جاءت التعليقات كلها بلا استثناء تتعامل مع فن مبتذل أو على أفضل الأحوال مع وسيلة سهلة للترويج لأغنية. كانت نادين -سواء صدقت أم لا- تشرح لنا أسلوبها الإخراجى الذى اعتمد على المحاكاة المستفزة لواقع معاش. لا يريد وعينا التورط فى رسالة الصورة التى اشتبكت معها تلك الأغنية: أننا كرجال نرى السيدات حولنا هكذا فعلا أو أننا هكذا نؤثر فى الرجال كنساء. كل القراءات رفضت مناقشة ذلك واختارت أن تحمِّل الأغنية كل ذنوب المجتمع بدءا من إفساد الأجيال الشابة وحتى الدعوة للكفر والعياذ باللـه. عندما اقتربت أغنية نانسى عجرم منا ومن حيل تواصلنا اللعينة ثرنا عن بكرة أبينا ورفضنا مناقشة الأمر إلا بصلف من يحمى انهيار مؤسسته الأخلاقية المستعدة للانهيار بجدارة. يبدو أن هذا الشكل المكرر من التفاعل مع الأشكال الفنية التى تقذف برسالة صادمة قد كون صيغة تواطأ الجميع على استعمالها عندما يعجز عن تقديم تفسير متماسك، لنفسه إذا كان من الجمهور العادى، أو للناس إن كان ناقدا أو رمزا للسلطة السياسية/ الدينية/ الإعلامية.
ولكن ثمة وقفة مهمة واجبة قبل أن نبالغ فى احترام "القيم الثورية العظمى" لأغنية "أخاصمك آه". هذه الوقفة تخص المبدأ الأولى الذى يفترض فى المبدعة -وهى هنا نادين لبكى- أنها قصدت حتى لو لم تعرف ذلك أن تعرض صراعا داخليا يهمها حول قضية ما. ما حدث بعد ذلك أن تدخلت أطراف عدة لتحرمنا من استغلال ديمقراطية الفيديو كليب لصالح عرض صراعات مختلفة تهمنا أو تحركنا واستغلت أخاصمك آه فى إطار مختلف. فالمنتجون تنفسوا الصعداء لأن شجاعة نانسى عجرم فى تقديم الإثارة وفرت عليهم عناء ولعنات البداية الأولى، فانطلقوا فى تقديم الجنس يوميا وكل ساعة حتى حولوا شاشات الفيديو كليب لخلفية عارية بائسة لا يكترث لعريها الناس كثيرا. والفنانون الذين يصنعون الأغانى رأوا أن المهمة الثقيلة أصبحت تقع على عاتق الصورة -أو أن دورهم لم يعد يغير الكثير- فرموا حمولهم الثقيلة على المخرج واكتفوا بصناعة كلمات هزيلة وألحان باهتة لعدد لا نهائى من البشر مهمتهم أن يظهروا فى الصورة بشكل جيد. والمجتمع بدوره تخلص من كابوس جديد كاد يظهر ليحرك من جديد أسئلة كان قد عرف سيناريو الرد عليها ورسم لها حدودا لا يريد أن تتجاوزها. لا يهم أن ترينا الأغانى-بصفتها الجديدة كأفلام قصيرة- كيف نعيش. لا يلزمنا أن يفتح هؤلاء الصغار النار علينا من ميدان آخر. لن نجتهد فى الحصول على متعة فنية تحرك ما نام واستقر فى سلة خلفية نسيناها فى مؤخرة رؤوسنا. إنه قرار نكسب منه اقتصاديا وسياسيا ونضمن أن تسير الأحوال –دائما- على ما هى عليه.
ولكن الخسارة الاجتماعية والإنسانية المستمرة تتم وفق آلية شرسة فى الدفاع عن وجودها بكل طريقة. هذه الآلية التى نجيدها جيدا من إزاحة آلامنا وهواجسنا إلى لا وعى بعيد وإحلال ردود جاهزة وحلول صارمة محلها فى المقدمة. كيف فقدنا متلقى الأغنية القديم والجديد وحولناها -منتجون ومستهلكون- لسلعة رخيصة هربا من احتمالية تحريرها التى تخيفنا. مم نخاف وأى حياة نريد أن نحيا؟ فإن كنا حولنا الأغانى المصورة بجدارة لميدان مفرغ من كل جدل مع حياتنا وجعلنا الغناء والموسيقى نسخا رديئة من أحاسيس فاترة فقد يدلنا هذا على أن هروبنا المستمر لهذه الآلية المنفصمة له دلالة أعمق: أنه إشارة صارخة على ضحالة مشاعرنا ذاتها أو هروبنا من النفاذ إلى أعماقها حتى لو عبر عملية فنية تخييلية تحرضنا على الطريق لقلوبنا. بمعنى آخر: إذا عجزت أطراف الصناعة الفنية من منتج وفنان ومتلقى عن الاشتراك فى خلق مُنتَج نلجأ له لنمرح أو لنعرف أو لنتفتح –وهو الضرورة الوحيدة للفن- فإننا إزاء حاجز حقيقى يفصلنا عن رؤية ما نريد، ولو رؤية غامضة. فى ذهنى الآن، بالمقارنة، كيف جاءت أغنية جورج مايكل التى رسمت كاريكاتورا لبوش وبلير فى وقت مثل الوقت الذى تعيشه مصر الآن. فى حالتنا هذه يصبح غياب أعمال فنية جذابة وافتقاد الجمهور لفن يثير اهتماما أكثر من اهتمامه بكيس لب سوبر مرتبطا طبيعيا بشرط اجتماعى لا يعرف طريقا للبهجة الصادقة ولا لوضع يد على أوجاعه التى أماتت جسده حتى سكت عن الصراخ.





No comments: