صوت ديمقراطي جذري

1.6.06

إعادة الاعتبار للفرد في بناء التنظيم


النظام الداخلي لحركة اليسار الديموقراطي في لبنان

تقديم :أكرم ألفي

"الفرد ليس رقماً داخل الجماعة بل هو عنصر غنى ومتميز ومبدع داخل الجماعة" هذه الجملة تمثل جوهر مشروع النظام الداخلي لحركة اليسار الديمقراطي في لبنان. فهذه الحركة التى تنطلق من رحب اليسار الديمقراطي الواسع والمتجدد تعيد في نظامها الداخلي الاعتبار للفرد بصفته مبدع وصاحب خصوصية يجب احترامها واستغلالها من اجل اغناء العمل الجماعي.
فعلي النقيض من الحركات الشمولية اليسارية والقومية والاسلامية في العالم العربي التى ترى في الفرد مجرد عامل في نجاح المجموع والمشروع السياسي، بمعني ان العمل الجماعي يحقق نفسه من خلال الافراد. ينطلق اليسار الديمقراطي الجديد في العالم العربي من مفهوم مغاير يرى ان الفرد يحقق ذاته من خلال العمل الجماعي، وان العلاقة الجدلية الايجابية بين المجموع والفرد هي القادرة على الحفاظ على تجدد فكر وممارسة هذا التيار السياسي الذي يعيدي ولادته في العالم العربي اليوم.
وفي إطار اهتمام "البوصلة" في التفاعل مع تيارات اليسار الديمقراطي في العالم العربي، وبعد ان قدمنا الوثيقة الاساسية لليسار الديمقراطي في لبنان، نعود في هذا العدد لنعرض مشروع النظام الداخلي لهذه الحركة، في محاولة للاستفادة "النقدية" من تجارب الآخرين.
إن عملية التنظيم تمثل مسرح للجدل بين كافة التيارات السياسية في العالم ، فاي فعل سياسي واجتماعي هو في جوهره عمل جماعي وبالتالي يحتاج لتنظيم العلاقة بين افراده، وينطلق مشروع النظام الداخلي لليسار الديمقراطي اللبناني من رؤية ان التنظيمية لها أهمية بالغة في تسهيل أو تعقيد تطور المجموعات البشرية في حركتها. وهي رؤية صحيحة بالطبع فقد رأينا كيف ان البنية التنظيمية للاحزاب الشيوعية التقليدية اعاقت تطورتها وجمدت فكرها وممارسها عند حدود تجربة الثورة البلشفية في 1917 ورؤي لينين "القاصرة" وذات الطابع الديكتاتوري.
فالتنظيم ليس فقط تحديد للعلاقة بين الفرد والجماعة بل الاهم هو انعكاس للمشروع السياسي ، فالمشروع السياسي لاسامة بن لادن والزرقاوي يعكس نفسه في تنظيم
"القاعدة" القائم على الطاعة العمياء للقيادة على اساس انها ممثلة الله على الأرض، واساسه هو الخلايا العنقودية التى لا تناقش المشروع بل تنفذ التعليمات بدقة وبدون ارتباط بين اعضاء التنيظم لعدم كشفه ولتنفيذ عمليات ارهابية فردية لنشر الرعب. ففكرة بن لادن هنا ان دور الفرد وتنظيم "القاعدة" هو تحقيق اكبر قدر من العنف وليس تطوير جماعي للفرد ، فالفرد هنا هو شهيد وليس اداة لتطوير الحركة والمجتمع. وهي الصيغة التى ترى بشكل "اقل حدة" في التنظيمات الاسلامية التى تنطلق من فكرة الحاكمية لله وبالتالي فالفرد ينضم للتنظيم لتحقيق ارداة الله ممثلة في قيادات التنظيم ، فعل اداة وليس شريك ، فالتنظيم الاسلامي الراديكالي هو باب الجنة ومن يرغب في الجنة عليه بالطاعة.
أما في التنظيمات اليسارية الراديكالية في العالم العربي فالعضو في التنظم هو شخص افاق من غيبوبته الفكرية وتم تطهيره ومنحه الفكر الثوري "المتعالي" ليتحول من فرد في المجتمع إلى طليعة بحكم انتمائه لاصحاب نظرية الثورة. وبما انه لا جدال في الثورة فالجدل يكتفي به في تفاصيل كيف اداء العمل والمهام اليومية في إطار "المركزية الديمقراطية" التى تقيد الفكر ولكن ترضي افرادها بحرية "مقيدة" في مناقشة التفاصيل، ومنكون الثورة هي في ادمغة القادة فالمعارضة الداخلية هي اما انتهازية او خيانة او انحراف (يميني أو يساري).
في المقابل يرى اليسار الديمقراطي ان عملية التغيير هي عملية تجميع لمبادرات ومساهمات ورؤي تجمعات فرعية وفردية، فاليسار الديمقراطي لا يرى أن هناك خطة موضوعة مسبقا مثل الإسلاميين والشيوعيين للتغيير ، ومن هنا يرتفع دور الفرد في التنظيم.
ويبلور المشروع التنظيمي لليسار اللبناني هذه الفكرة بالتأكيد على أن "مسار التطور الديموقراطي للمجتمعات والاوطان والمؤسسات الى اهمية التوازن بين الفرد والجماعة، وكلما كانت العلاقة بين الطرفين متسامحة ورحبة، كلما كانت امكانات التطور متاحة. الفرد ليس رقما داخل الجماعة بل هو عنصر غني ومتميز ومبدع داخل الجماعة. من هذا المنطلق لا يجوز الغاء علاماته الفارقة، وتميزاته، لانها هي مصدر الابداع والطوعية لديه، وبقدر ما تفسح التشكيلات الجماعية للفرد في ان يتطور ويغتني ويمارس طوعية انتمائه، بقدر ما تكون قادرة على الاستجابة لمتطلبات الادراك الموضوعي لعملية التغيير المستمر. وبقدر ما تنغلق هذه التشكيلات وتلغي مميزات الافراد وتمارس التعسف الجماعي على افرادها، بقدر ما تساهم في افقار طوعية الافراد وفي مقدرتهم على الاغناء والعطاء، وهذا ينعكس تخلفا على المؤسسة ودورها الفعلي مهما علا صراخ المزاعم. ومن يعتقد ان مثل هذا الفهم يمكن ان ينتج الفوضى، فهو زعم مغرض او واهم، لان الفهم المقترح يحل الالتزام الطوعي في القوانين بديلا لكل انواع الطاعة والرضوخ. ان مثل هذا الفهم لابد ان يترك بصماته على مفهوم الوحدة الحزبية، وعلى مفهوم الاكثرية والاقلية وعلى مفهوم القناعة والتنفيذ".
وتنعكس هذه الرؤية في تصور الوحدة الحزبية كذلك :"فعلى نقيض التنظيمات المركزية التى تتعامل بعنف مع مبدأ الاختلاف، وتسعى الى جعل التنظيم بنيانا متراصا متماثلا، يذيب الفرد في الجماعة، ويلغي كل الصفات المميزة للافراد. الفرد في الكل، والكل هو محصلة محو الافراد. الكل ليس محصلة تفاعل الميزات المتنوعة للافراد، وانما هو كائن جديد يغتذي بسلب الافراد ميزاتهم الخاصة الغنية بتنوعها ومفارقاتها. يغادر الفرد في التنظيمات المركزية آخر فعل طوعي ملتزم يوم يعلن انتماؤه، تحل الطاعة مكان الطوعية والالتزام، ويبدأ التبشير بقيم التنازل عن الانا وعن الذات وعن الفردية، وبقدر ما يمحى الفارق بين الفرد والجماعة بقدر ما تتعزز الشكلانية الثورية لدى الطرفين. ان مثل هذه الوحدة ليس فقط لن تقيم وزنا للاختلاف، ولا للرأي ولا للتنوع، ولا للتيارات، بل ستسعى رغم المناداة بالديموقراطية وحرية الرأي، ستسعى الى التطهر من كل مظاهر احترام الفرد، وكل مظاهر التشكل على اساس القناعة، بالاضافة حكما الى عدم الاعتراف بمبدأ الاكثرية والاقلية، وتعميم مفهوم الالتزام على مستوى التنفيذ والقناعة. الأكثرية المركزية تلغي الاقلية عبر الزامها بقناعة الاكثرية بالاضافة طبعا الى تعميم التنفيذ القسري لارادتها، رغم ان الاقلية في الفهم الديموقراطي، تنفذ قرار الاكثرية طوعا انطلاقا من معيار ترجيحي لقيمة الاكثرية، ولمشروعية مصالحها، وقناعة منها ان الاكثرية هي دائما اكثرية مؤقتة قابلة للتغيير.
إن هذه الرؤية تعد رؤية مغايرة لما تعارف عليها السياسيون المصريون الذين يرون في الالتزام القسري بتنفيذ التعليمات ثم مناقشتها فيما بعد هي جوهر التنظيم وتبحث عن تماثل وهمي وغير عقلاني بحكم انها قابضة على جمرة الحقيقة. إن هذا الغرور الذي تنطلق منه الرؤي التنظيمية في التيارات الاسلامية والقومية والشيوعية ينكسر على واقع قيامه على افراد لهم بحكم تكوينهم رغبة كامنة في الاختلاف. فما لا تدركه هذه الرؤي ان الفرد ينتمي للتنظيم "في بعده السيكولوجي" بحثاً عن الاختلاف والتمرد، فتقوم هذه الاشكال التنظيمية بقتل روح الاختلال والتمرد داخله بوصف المعترضين بالخيانة وتحريم تعدد الأراء، وهنا لا تقوم هذه التنظيمات بجريمة تجاه القادم الجديد بل بحق المجتمع الذي تحول هذه التنظيمات دون استفادته من طاقة الاختلاف والتمرد في قسم مهم من افراده عبر قتلها داخل الهياكل التنظيمية الحديدية.
وعودة لمشروع اللائحة نجد أنه يؤكد على أن "التماثل لن يحصل الا في حالة الموت، ولحماية الوحدة التنظيمية ، ستعمد القيادة دوما لسلب الافراد والمجموعات داخل الحزب حقوقها في الاقناع والتعبير والاختلاف معرضة اياهم دوما لاختيار جائر بين التخلي عن آرائهم في قضايا محددة مختلفة عن قناعة القيادة او الاكثرية، اما هذا، او التخلي الكلي عن العلاقة بالتنظيم. ومثل هذا الخيار الجائر لن يكون دائما سهلا ومتوفرا لدى الغالبية من اعضاء التنظيم، وغالبا ما تحصل المساومة المؤلمة، عبر التخلي عن الرأي، سواء بالنسبة للفرد او للجماعة. وبهذا يخسر التنظيم احد اهم مصادر غناه، أي الاجتهاد، وأحد اهم مبررات وجوده، أي الالتزام الطوعي الحر او القناعة الملتزمة، ويبدأ تدريجيا في الخروج من نبض الحياة الاجتماعية، ليتحول الى عصبة متعصبة منغلقة على تقديس جملة افكار مثالية بالمعنى الفلسفي، ومنفصلة عن تطورالواقع. وتبقى الحقيقة الصارمة ماثلة في كون هذا النموذج التنظيمي يسلب افضل المواطنين حقوقهم، أولئك الذين يحاولون الالتزام لتغيير الواقع، فاذا بالتزامهم في هذا التنظيم يعرضهم لسلب جزء من حقوقهم كمواطنين، بدل ان يسهم ذلك في تفتح شخصيتهم، واغتنائهم كأفراد وكمواطنين".
إن الرؤية التى تطرحا حركة اليسار الديمقراطي في لبنان في مشروع نظامها الداخلي جديرة بالبحث والنقش، في سياق تعزيز والتأكيد على مركزية "الفرد" في مقابل مركزية "القيادة" التى قامت عليها غالبية محاولات البناء التنظيمي في السياسة العربية خلال الخمسين عاماً الماضية. وربما كان من الهام جدا تعميق هذه الرؤية بنقد كافة التصورات التنظيمية المطروحة اليوم على الساحة السياسية، وهذا ليس دور المشروع الذي نقدمه للقارئ في هذا العدد بل دور المثقفين من اليسار الديمقراطي والليبراليين.
ولعل هناك تحية واجبة لزملائنا في اليسار الديمقراطي اللبناني على هذا المشروع ، ولا ينتقص من هذه التحية الالتفات إلى توغل المشروع التنظيمي في أكثر من ثلثية في بنود تنظيمية تجعله اسير مدرسة التفاصيل التنظيمية الشيوعية. ورغم حرص القائمين على كتابة المشروع في عدم تناقض المواد التنظيمية مع الفكرة الجوهرية القائم عليها المشروع إلا أن كثر التفاصيل قد تغيب الفكرة الاساسية في كثير من الاحيان. مثل الاسهاب في بنود العقوبات وكيفية اسقاط العضوية ومحاسبة الاعضاء.


No comments: