صوت ديمقراطي جذري

29.8.06

إيران... معركة السياسة في ساحات القضاء؟


ريم وسيم


في إيران يخوض بعض المحامين معركة مع السلطة تدور أحداثها في ساحات القضاء ومؤسساته، ومحورها هو الدفاع عن حقوق وحريات المواطنين في مواجهة تعسف الجهاز التنفيذي. و حتى إذا لم يسفر نشاط المحامين السياسي عن نتائج ملموسة تكشف عن تحول ديمقراطي في إيران - مثل ترسيخ استقلالية و حياد القضاء أو تعديل التشريعات في صالح تأمين الحقوق و الحريات- فإن ثمة نجاح أحرزته الحركة الحقوقية قانونية الطابع يتجلى في اختراق مفرداتها الحقوقية لخطاب السلطة، التي أصبحت تتحدث هي أيضاً بلغة الحقوق وليس فقط بلغة الدفاع عن الأمة ضد الامبريالية. ريم وسيم تكتب من طهران.

كان انتخاب محمد خاتمي للرئاسة في مايو 1997 مؤشرا هاماً على تحولات تجري في المجتمع الإيراني، ولعبت فترة حكمه دوراً في ترسيخ تلك التحولات. وبرغم خيبة أمل الكثير من منتخبيه من شباب ونساء ومثقفين، لا يجدر بنا تجاهل التحولات البنيوية التي طرأت على الدولة في إيران خلال السنوات الثمانية السابقة. ويسعى هذا المقال لقراءة التحولات -مؤسسية كانت أو خطابية- في قواعد ومحتوى التفاوض السياسي المستمر بهدف تحديد العلاقة بين الدولة والمجتمع في إيران. ويهمنا تحديداً انتقال الصراع السياسي -المتمثل في ضغوط المجتمع المدني من أجل المزيد من المشاركة والحريات من جهة ومحاولات المحافظين والفئة الحاكمة للسيطرة عليها واحتوائها من جهة أخرى- إلى قاعات المحاكم، وإلى تصريحات وانتقادات يتبادلها المحامون والقضاة والمسئولون داخل الجهاز القضائي، وإمكانية أن يترتب على ذلك نشوء دولة القانونEtat de droit في إيران.

انحسار العناصر الإصلاحية في جهاز الدولة لا يعني تراجع المشروع الإصلاحي
وفي حين يعلو صدى المتفائلين بعملية التحول الديموقراطي في إيران يأتي انتصار محمود أحمدي نجاد الأخير في الانتخابات الرئاسية مفاجئة ودعماً لتبشير المتشائمين بقصر عمر وسرعة تهاوي الحركة الإصلاحية في إيران. فليس من هو أجدر من نجاد في تجسيد جيل المحافظين الجديد الذي نشأ في أحضان مؤسسات الثورة العسكرية ذات الأيديولوجية الإسلامية المحافظة. ولا يستعصي على المحللين فهم هذا الانتصار للمرشح المحافظ -بعد أن كانت أجندة خاتمي الإصلاحية الأكثر شعبية في الانتخابات السابقة في 1997 و2001- حيث بات اسم رفسنجاني مقترنا بالطبقة البازارية شديدة الثراء وبتفشي الفساد في الفئة الحاكمة، وفي الوقت ذاته لعب أحمدي نجاد على الوتر الأكثر رنيناً بالنسبة لضحايا البطالة وارتفاع الأسعار بالتركيز على أحد أهم شعارات الثورة وهي العدالة الاجتماعية. ففي الوقت الذي زادت فيه أسعرا البترول وبالتي عائداته، فقد تدهور مستوى المعيشة لدى أبناء الطبقة الوسطى وانتشرت البطالة بينهم. ويأتي تركيز حملة نجاد على إعادة توزيع عوائد البترول ومحاربة الفساد في الوقت الذي بات الإصلاح الاقتصادي أكثر ضرورة وإلحاحا من الإصلاح السياسي في نظر الكثير من الشباب. و من ناحية أخرى جاء انتصار نجاد في الانتخابات مؤشرا على ضجر الإصلاحيين من مفارقة التصفية المسبّقة للمرشحين و عزوفهم عن هذا النوع من المشاركة السياسية باعتباره لا يعدو عن كونه ديموقراطية شكلية.
والصفحة الجديدة التي يفتحها نجاد كرئيس للجمهورية الإسلامية تعبر عن استمرار تقلص العناصر الإصلاحية في مؤسسات الدولة. فقد بدأ هذا الانحسار بأحداث الانتخابات البرلمانية لعام 2004، حيث تسبب استبعاد "مجلس صيانة الشريعة والدستور" لمعظم المرشحين الإصلاحيين في مقاطعة الإصلاحيين للانتخاب. أدى ذلك إلى غلبة المحافظين في عضوية البرلمان السابع -بمعدل مشاركة في الانتخابات لا يزيد عن 50%- بعد أن اتسم البرلمان السادس بهيمنة الاتجاه الإصلاحي. وحتى الجهود التشريعية الإصلاحية لأعضاء البرلمان السادس فقد حال دون التصديق عليها تعنت وتكرر اعتراض "مجلس صيانة الشريعة والدستور" وانحياز "مجمع تشخيص مصلحة النظام" للأخير. ومن ناحية أخرى ظلت الأحزاب المعارضة عرضة لهجمات الميليشيات شبه النظامية، وأدى قمعها المستمر واستبعاد مرشحيها من قوائم الانتخابات الرئاسية و التشريعية والزج بممثليها وأعضائها إلى السجون إلى عدم صلاحية الأحزاب كشكل مؤسسي لتداول السلطة ولتمثيل المعارضة. وفي ضوء ذلك التراجع في تواجد الإصلاحيين في مؤسسات الدولة التشريعية -بجانب عدم قدرة الأحزاب على القيام بدورها المؤسسي المشروع- لم يتبقى للإصلاحيين إلا اللجوء للمأوى الأخير: القضاء. فصحيح أن العناصر الإصلاحية في مؤسسات الدولة في حالة تراجع ولكن اقترن هذا الانحسار بمزيد من النشاط السياسي على صعيد آخر و هو ساحة الصراع القانوني.

القضاء في صالح من؟
والواقع أن التحالف المحافظ الحاكم الذي يضم فئة البرجوازية التجارية البازارية والمؤسسة الدينية كان قد لجأ أيضاً إلى استخدام الجهاز القضائي في محاولة لاحتواء الحركات الإصلاحية بعد حصول الإصلاحيين علي غالبية الأصوات في الانتخابات التشريعية لعام 2000. ترتب على ذلك سياسة السيطرة الكلية على مؤسسات المهنة القانونية، بدءً من التعيين الانتقائي لقضاة موالين للنظام وخاصةً في المحاكم المختصة بالملفات السياسية مثل المحاكم الثورية -التي نشأت أساساً مع الثورة كمؤسسة مؤقتة لتطهير عناصر النظام القديم- إلى محاولات شتى للسيطرة على أجهزة تدريب وتأهيل المحاميين، حتى وصل الأمر بمنح الجهاز القضائي (وفقاً لقانون الميزانية لعام 1999) حق إعطاء رخص محاماة لأفراد لا يستوفون شروط التأهيل الخاصة بنقابة المحاميين، بحجة ضرورة خلق وظائف جديدة والسماح للمتعثرين بتوكيل محامي أقل أجرا.
ومن المعروف في أوساط المحاميين أن المحكمة الثورية رقم 26 تتناول القضايا السياسية الشائكة، فدائماً ما يرأسها قاضي ذو تاريخ طويل في العمل لحساب التحالف الحاكم. هذا دون أن تصنف تلك الملفات بسياسية، وذلك لتجنب أي تشريع يسعى لتعريف قانوني للجريمة السياسية. ويأتي رفض "مجلس صيانة الشريعة و الدستور" -الذي له حق النقض على تشريعات "مجلس الشورى الإسلامي" (البرلمان) حتى وإن حصلت على تصويت الأغلبية- لمشروع قانون لتعريف الجريمة السياسية قدمه نواب إصلاحيين في نوفمبر 2001 ليكرس سيطرة المحافظين على القضاء واتخاذهم له كأداة لقمع المعارضين. ومن المثير للاهتمام والسخرية أيضاً اللجوء المستمر لرئيس القضاء محمود هاشمي شهرودي لعلة قانونية بحتة في الرد على المنددين بالاعتقالات السياسية -ورغبةً في تبرير القضاء من تهمة عدم الاستقلالية- وهى انه لا يوجد بإيران معتقلون سياسيون لأنه ليس هناك تعريف قانوني للجريمة السياسية! وبالفعل تتراوح الاتهامات التي تزج في السجن بكثير من المعارضين والمفكرين والصحفيين والنشطاء في مجال حقوق الإنسان بين تعاطي المخدرات والزنى والفساد ونشر الأكاذيب والإخلال بالأمن القومي والتجسس لصالح جهة خارجية.
وفي رأينا أن هذا المنحى القضائي التي تأخذه لعبة التفاوض على حدود الدولة والمجتمع المدني- ونعني هنا تحويل الخطاب الحقوقي والمناورات السياسية بين السلطة والمعارضة لخطاب قانوني يكاد يكون تقني الطابع- جاء كنتيجة للجوء المعارضة لمبادئ الدستورية وسيادة القانون وخيار خوض المعركة السياسية على الساحة القضائية عن طريق رفع الدعاوى على أشخاص بعينهم في الجهاز التنفيذي بدلاً من خيار انتقاد سياسة النظام وعسكريته ككل. وقبل أن نشرع في تحليل عوامل ونتائج وآفاق هذا اللجوء للمعيار القانوني يجدر بنا سرد بعض الأحداث الرئيسية التي تعبر بوضوح عن هذا المنحى القضائي.

سياسة المحامين في معركة سيادة القانون
يمثل المحامون في إيران فئة شديدة التسيّس حتى أن حوادث القبض المتتالية على من يعمل منهم بالملفات السياسية باتت أمر معتاد. ومن الدلالات على أهمية النشاط السياسي للمحاميين في إيران، حصول المحامية شيرين عبادي (كانت قاضية حتى منعت حكومة الثورة تولي النساء منصب القاضي) على جائزة نوبل للسلام في أكتوبر 2003 لنشاطها في مجال حقوق الإنسان، و هي صاحبة الكثير من الأبحاث والمقالات التي تنتقد العديد من التشريعات الإيرانية باللجوء إلى حجج دستورية وبنفي نسب تلك البنود القانونية للشريعة الإسلامية. ولم تفلت عبادي من سلسلة اعتقالات المحاميين -التي تكاثرت بإدراك رجال النظام لخطورة تسيّس المحاميين ولجوئهم للقضاء لتسوية النزاعات السياسية- فتم القبض عليها في الوقت الذي كانت تدافع فيه عن طلاب أحداث 1999 وهي الفترة التي شهدت تظاهرات طلابية ضد قمع الصحافة، ردت عليها قوات "أنصار حزب الله" (قوات شبه نظامية) بهجمة شرسة علي المساكن الجامعية مما أسفر عن موت أربعة طلاب وإصابة كثيرين وحرق وتدمير بعض غرف الطلبة. ورُفعت الدعاوي ضد الطلبة الذين شاركوا في المظاهرات في حين لم يحاكَم منظمي ومنفذي الهجمات. فمثلاً حُكم على الطالب أحمد باطبي بالإعدام، ثم تم تخفيف العقوبة لخمسة عشر عاماً من الحبس بسبب صورة نشرتها الصحيفة الإنجليزية The Economist لتظاهرات الطلبة كان فيها يرفع قميص زميله الملطخ بالدم، وكانت تهمته "الاخلال بالأمن القومي". كما تم القبض على حوالي 400 طالب باتهامات مختلفة لا تقل عبثاً. وفي أثناء العمل على ملف الطلاب تلقت شيرين عبادي زيارة من فرشاد ابراهيمي -أحد مرتكبي الهجمات- الذي اعترف لها بدوره في الهجمات كما أفشى أسماء المسئولين المتورطين فيها، وتم تصوير اعترافه، فكان شريط التسجيل هو سبب اعتقال المحامية بتهمة "الإساءة للرأي العام". كما قررت المحكمة منعها من ممارسة مهنة المحاماة لمدة 5 أعوام، ولم ينج المعترف أيضاً فتم حبسه هو الآخر. واستمرت عبادي بعد خروجها من الحبس في انتقاء الملفات الحساسة سياسياً فدافعت عن العائدين من مؤتمر إصلاحي دولي في برلين بعنوان "مستقبل الإصلاحات في إيران" في أبريل 2000 والذين اتُّهموا "بالتآمر ضد نظام الجمهورية الإسلامية" ومنهم الكاتب الصحفي أكبر غانجي وعدد من رجال الدين الإصلاحيين والطلبة. كما ترأس شيرين عبادي رابطة محاميين باسم "جمعية المدافعين عن حقوق الإنسان"، وهي تضم العديد من المحاميين الذين اختاروا التخصص في الملفات السياسية ومعظمهم دون الحصول على أي أجر من عائلات المعتقلين وأكثريتهم سبق أن أُعتقلوا في أثناء دفاعهم عن المعارضين مثل المحامي عبد الفتاح سلطاني ومحمد شريف ومحمد علي دادخاه و سيف زاده... وللمرة الثالثة تم القبض على عبد الفتاح سلطاني محامي عائلة الصحفية الكندية -الإيرانية الأصل- التي تم القبض عليها أثناء تصويرها سجن إفين وتوفت إثر ضربة على رأسها في قسم الشرطة. وقد تكاتف المحامون أيضاً للدفاع عن الكاتب الصحفي أكبر غانجي الذي تتدهور حالته الصحية بشدة -في أثناء كتابة هذه السطور- في مستشفى سجن إفين بعد انقضاء 58 يوماً من إضرابه عن الطعام -للاعتراض على حبسه الذي دام 5 سنوات بتهمة "إفشاء أسرار بهدف الضرر بالأمن القومي" إثر كتابته لمجموعة من المقالات تدين كبار المسئولين في سلسلة القتل التي استهدفت العديد من الكتاب والمفكرين الإصلاحيين في 1998. وفي حين تزداد مطالبات الطلبة والمثقفين بالإفراج عن غانجي يأتي رد رئيس الجهاز القضائي بوجوب طلبه العفو حتى يكون الإفراج قانونياً! ولكن غانجي يرفض طلب العفو لأنه متمسك بمحتوى مقالاته ويفضل الموت جوعاً. وكان مصير ناصر زرفشان -محامي عائلات من استهدفتهم عمليات القتل المنظمة- مماثلاً، فهو معتقل بسجن إفين حالياً ومضرب عن الطعام. كما دافع المحامي صالح نكبخت عن العديد ممن اُعتقلوا بسبب التعبير عن فكرهم مثل الكاتبين الصحفيين الإصلاحيين عباس عبدي و عماد الدين باقي الذين سبق اتهام أولهم "بنشر الأكاذيب وإهانة المقدسات" وثانيهم "بالتجسس وبيع معلومات لجهات خارجية" ومثل المدرس الجامعي هاشم آغاجري، الذي ارتبط اسمه بما سماه البعض الحركة البروتستنتية الإسلامية، والذي تحدث أمام الطلبة ضد سلطة رجال الدين قائلاً "لا يجب أن نطيع رجال الدين مثل القردة" مما تسبب بالحكم عليه بالإعدام في 2003 وهو الأمر الذي تراجعت عنه المحكمة إثر اعتراض الطلبة الشديد و تظاهرهم.
ولا تقتصر نشاطات المحامين السياسية على تطوعهم بالعمل في الملفات السياسية -الأمر الذي يهددهم بانقطاع مصدر رزقهم بسبب إثارة نشاطهم لعداء القضاة وما يترتب عليه من لجوء المتضررين لمحاميين بدون سوابق سياسية- بل يلجأ أكثرهم للكتابة في العديد من الصحف عن مظالم جهاز العدل وعدم تماشى قراراته وأحكامه مع القانون، بل ويذهب البعض للتشكيك في قانونية القانون ودستورية الدستور. ولهؤلاء المحاميين أنشطة أخرى تهدف إلى تكريس استقلالية نقابة المحامين عن الدولة، وفي مكاتب المحاماة الخاصة بهم تكثر الندوات و النقاشات السياسية-القانونية، كما يفتحون أبوابهم لتدريب الخريجين وبعضهم يمارس التمييز الإيجابي لصالح تدريب الفتيات.
ومما سبق يمكن للقارئ التعرف على حجم وأهمية نشاط المحاميين الإيرانيين السياسي ودرجة تنظيمهم بهدف التحدث باسم الحقوق السياسية والحريات. وبإمعان النظر والاستفسار عن هؤلاء يتبين لنا أن أكثريتهم كانوا نشطين سياسياً في فترة دراساتهم الجامعية قبل الثورة ولهم تجارب سابقة ليس فقط في التنظيم السياسي ولكن أيضاً في معتقل الشاه وحكومة الثورة على السواء. وهم لا ينحدرون فقط من مهنيين من الطبقة الوسطى بل أيضاً من الطبقة العاملة التي زاد من تسييسها المد الثوري في السبعينات. وقد يكون اختيار الالتحاق بكلية الحقوق قرار سياسي الدافع في الأصل، ففي إيران تراث طويل للحركات الإصلاحية قانونية الطابع منذ اندلاع الثورة الدستورية عام 1906. ويشير هذا اللجوء إلى القضاء وتفعيل دور المحامين في الحركة الإصلاحية إلى تحول آليات النشاط السياسي من التراث الثوري الطابع إلى السعي لإصلاح النظام من الداخل عبر الآليات القانونية المتاحة والمواجهات القضائية.
الصحافة تنقل القضاء إلى مركز الاهتمام العام
لا ينبغي أن نغفل عن الدور الرئيسي الذي لعبته الصحافة في هذا التحول. لقد شهدت الصحافة في إيران نهضة ملحوظة تمثلت في ظهور صحف جديدة على الساحة الإعلامية في منتصف التسعينيات تستخدم أساليب جديدة في اجتذاب القراء وتعنى بالمظهر الجمالي للصحيفة. وتطور محتواها بفضل لجوءها المستمر للمصادر الأولية للأخبار، وهو ما كان نادراً في الصحف الرسمية التي أصبحت مجرد أداة دعائية للحكومة. وتميزت تلك النهضة الصحفية بصغر سن اللاعبين الأساسيين من ناقلي الأخبار و المصورين. واكتسبت الصحف الجديدة مصداقية تفتقر لها وسائل الإعلام الرسمية مما أدى لارتفاع ملحوظ في أرقام مبيعاتها. وبرغم أحكام القضاء بإغلاق ما يتجاوز المائة جريدة، اعتاد العاملون بالجريدة المقرر إغلاقها أن يطبعوا صحيفتهم -في اليوم التالي من الحظر- تحت اسم جديد. ويمكن القول بأن للصحافة دور رئيسي في تشكيل وعي الحركة الإصلاحية و خلق الحيز العام publicité الذي يعتبره كانط وفلاسفة التنوير الشرط الأساسي لنشوء دولة القانون. فالحوارات التي تدور من خلال الصحف اليومية عن القانون والقضاء تفترض مشروعية اعتبار العقل مصدراً رئيسياً للتشريع، كما تتيح آليات سلمية لتفعيل دور المجتمع المدني. فعلى سبيل المثال، قامت الصحف الإصلاحية بتغطية محاكمة الطلبة الذين تظاهروا سلمياً للاعتراض على حظر الجريدة "سلام"، كما قامت بمتابعة هجمة قوات "أنصار حزب الله" على الطلبة في مساكنهم الجامعية، وأوضحت كيف يتم التنكيل بالطلبة في الوقت الذي تتقاعس فيه السلطات عن معاقبة المتحرشين. كما كرست جريدة "نشاط" عدة صفحات يومياً لمتابعة الأحداث ونشرت مقابلات مع أعضاء "اللجنة القومية للتحريات" المسئولة عن تعقب الجناة. كما نشرت الصحف الكثير من الخطابات المفتوحة التي وجهتها الروابط الطلابية لرئيس المحكمة الثورية بطهران لتذكيره بأن المذنبين هم منظمي ومنفذي الهجمات وليس من اعترضوا سلمياً عليها من الطلبة. ونقلت نفس الصحف عن رجال الدين المتشددين تصريحاتهم مثل ما قاله آية الله مصباح يزدي تعقيباً عن الحادث: أن لأي مسلم الحق في معاقبة وقتل أي شخص ينتهك المقدسات بدون حاجة للمحكمة. وهكذا أصبحت الصحافة الساحة الرئيسية للنقاش عن العدل وسيادة القانون، ولعبت دور رئيسي في تعميم publicisation الحوارات القانونية وإعلام القراء بتفاصيل المحاكمات والنزاعات التي تنشأ في قلب الجهاز القضائي، الأمر الذي جعل رجال القضاء مسئولين أمام الرأي العام وأعطى الفرصة للخبراء بالقانون وللمتضررين من انحياز أحكام القضاء أن يعبروا في الصحف اليومية عن شكواهم وانتقاداتهم، حتى أن أكثرية الصحف بما فيهم الأكثر توزيعا تخصص صفحة كاملة بعنوان "قانون" أو "حق" وتضم تقارير تفصيلية عن محاكمات جارية وأبواب للتوعية عن الحقوق التي يكفلها الدستور والقانون الإيراني والمواثيق الدولية ومقالات ينتقد فيها الخبراء بنود قوانين بعينها. وكثيراً ما تنشر خطابات مفتوحة من المتهمين السياسيين أو وكلائهم إلى رئيس القضاء. ولم تعكس الصحافة فقط ما يدور من نقاشات عامة بل خلقت الحيز العام public sphere -تلك المساحة التي أشار إليها هابرماس كأساس للتحول الديموقراطية. كما أن اهتمام الصحف بنشر تفاصيل المحاكمات أدى إلى خروج الحقل القضائي إلى المجال العام، أي أن القضاء أصبح تدريجياً في مركز اهتمام المجتمع وأصبحت أحداثه ومفرداته أكثر تداولاً.

آفاق و حدود الإصلاح من خلال الساحة القانونية
صحيح أن من يتطلع إلى الأحداث السابق ذكرها تتراءى له صورة شديدة القتامة عن وضع العدالة الإيرانية، فهي تبدو وكأنها أداة في يد المحافظين من الفئة الحاكمة، مثلها مثل أي جهة تنفيذية، لا تتسم بأي استقلالية. وهذا صحيح لحد كبير، خاصةً إذا ما نظرنا لعملية تعيين القضاة والتي تخضع كليةً لقرار رئيس الجهاز القضائي، الذي بدوره يتم تعيينه بقرار من المرشد -الوليّ الفقيه آية الله سيد علي خامنئي. وغني عن الذكر إن تولي منصب الوليّ الفقيه -الذي يملك اليد العليا في سياسة إيران الداخلية والخارجية- يتم بقرار من مجلس الخبراء، ولا يترك هذا المنصب شاغله إلا بوفاته. وهنا لنا أن نتساءل إذا كان اللجوء للعنف بقتل القاضي المحافظ مسعود مقدسي في شهر أغسطس الماضي -والذي حكم في أكثر القضايا السياسية حساسيةً- ينم عن فشل الجهود القانونية للمطالبة بصيانة حقوق المواطنين السياسية. هل قتله أحد أقارب أو أصدقاء ضحاياه؟ هذا ما لا نعرفه حتى الآن. ولكن من الممكن أن يؤدي يأس الناس من قدرة القانون على الحد من تعسف السلطات إلى لجوء بعضهم لعمليات انتحارية.
وللإجابة عن السؤال المتعلق بمدي نجاح استراتيجية اللجوء للقضاء يتعين لنا أن نبحث عن تأثير السياسة الحقوقية الجديدة للمجتمع المدني -ليس فقط على مؤسسات الدولة بل على خطاب رجالها. فلا يصعب على من يتابع تصريحات المسئولين في إيران أن يلاحظ انتشار المفردات القانونية legality وحقوق المواطنين بل كان شعار سيادة القانون أهم شعارات حملة خاتمي في الانتخابات الرئاسية. و كما رأينا فإن المتابعة الجيدة التي قامت بها الصحف لتفاصيل ما يدور في المحاكم و مؤسسات تطبيق القانون جعل رئيس الجهاز القضائي محمود هاشمي شهرودي لاعبا رئيسيا في الساحة السياسية يوجه تصريحاته للرد على أسئلة وانتقادات المعسكر الإصلاحي. ففي أبريل 2004 أصدر شهرودي مشروع إصلاح في صيغة "توجيهات" وجهها للقضاء والشرطة ورجال المخابرات بهدف تعزيز حقوق المواطنين. وتحتوى التوجيهات على 15 نقطة -منها وجوب احترام مبدأ البراءة حتى تثبت الإدانة، ومراعاة حق المقبوض عليهم في توكيل محامي، والامتناع عن التعذيب وسوء المعاملة. وبرغم أهمية ما تمثله تلك "التوجيهات" من اعتراف -الأول من نوعه- عن حقيقة التعذيب في السجون الإيرانية،لم تلق توجيهات شهرودي أي ترحيب من جهة المحامين بسبب تجنبها تحديد وسائل وطرق الإشراف على تطبيقها ومعاقبة منتهكيها. وذهب المحامي محمد شريف إلى حد نقد مبادرة شهرودي قانونياً إذ أن الدستور الإيراني يحتوي على نفس النقاط المذكورة، بعبارة أخرى أجدر بالسلطات أن تقوم باديء ذي بدء بتطبيق الدستور قبل إصدار توجيهات.
ممكن أن تكون مبادرة شهرودي مجرد تظاهر بالرغبة في إعلاء مبدأ سيادة القانون و ترسيخ استقلالية الجهاز القضائي، ولكنه يعبر عن واقع الضغوط التي تواجهها السلطة في مواجهة المطالبة بالإصلاح. والمثير للتساؤل هو ما تلى مبادرة شهرودي ببضعة أيام من سماح القضاء لعدد من المعتقلين السياسيين بالخروج المؤقت منهم الطالب أحمد باطبي والصحفي أكبر غانجي بالاضافة إلى مجموعة من الليبراليين المتهمين بالتآمر لقلب النظام. وتزامنت تلك الإفراجات المؤقتة مع نقل الصحف للجدل الدائر عن الاعتقال السياسي الذي أثاره طرح النواب الإصلاحيين لتعريف للجريمة السياسية في البرلمان. وأثناء محاضرة للرئيس خاتمي أقر فيها بوجود معتقلين سياسيين "تم حبسهم بسبب أفكارهم" -وقال انه عبر عن امتعاضه من خلال كتابته لخطابات للمسئولين- اعترض شهرودي على تصريحه بحجة أن مصطلح المعتقل السياسي غير وارد في تشريعات إيران! إذن يمكننا القول بأن مبدأ القانونية و احترام الحقوق الدستورية قد فرض نفسه على خطاب السلطة وإن حاولت السلطة اللجوء إليه في بعض الأحيان للتحايل على القانون.
إذن يمكن القول أن تسيس القضاء من ناحية وفرض طابع قضائي judiciarisation على النزاع السياسي من ناحية أخرى كان له تأثير لا يمكن تجاهله على قواعد ومحتوى اللعبة السياسية في إيران. وبعيداً عن التوهم بأن أجهزة الدولة بإيران تخضع أخيراً وتدريجياً لواقع التحول الديموقراطي، يتبين لنا من الخطاب الذي تتبناه السلطة بما فيها عناصرها الأكثر محافظة أن ثمة مفردات وحجج تكتسب شرعية وتفرض نفسها حتى على إجراءات الفئة الحاكمة لقمع معارضيها، فتلجأ لمراوغات مستندة على قراءات حرفية للقانون أو تلجأ لخطاب ذو مفردات ديموقراطية دون المساس بالمؤسسات السلطوية وآلياتها، الأمر الذي يوقعها في شباك تناقضاتها.
وحتى إذا كان التحول الذي طرأ على سياسة الدولة خطابي بحت وغير مؤسسي، فانه يستمد أهميته مما يشير له من تغير جذري في مصدر شرعية الحكم في إيران وتحوله من دور المقاومة للعدو الخارجي وللإمبريالية وخدمة مصلحة النظام الإسلامي إلى دور الصائن لحقوق المواطنين وللديموقراطية ولحرية الفكر والتعبير. ويتحول الخطاب السياسي من الدعوة للاتحاد من أجل مقاومة الشر الخارجي إلى خطاب يفترض أن مصدر العلل داخلي وأن على المواطنين المشاركة في صياغة السياسات. وبناءً عليه يزداد الحديث عن الحقوق والمواطنة ويتراجع خطاب واجبات الرعايا. وبالتوازي تتحول المعارضة عن الخطاب الثوري إلى الإصلاحي. وتنضم حجج الإصلاحيين لمبدأ كانط بأن التشريع يجب أن يخضع لسيادة الشعب وما يملي عليه عقله، و أن المرجعية النهائية للتشريع ما هي إلا الإجماع العام public consensus. كما ينطوي خطابهم على إعلاء حقوق الإنسان وتجاوزه اتهامات الاغتراب والإمبريالية. وبرغم العثرات التي يواجهها المجتمع المدني في إيران في ظل رفض خضوع السلطة للقانون، يمكن الجزم بأن الخطاب الحقوقي ومبدأ سيادة القانون اكتسبا الشرعية اللازمة لوضع قواعد ومعايير جديدة للعبة السياسية هي – بالتعريف - في صالح الإصلاحيين.





No comments: