حوار مع باتريك هيني، باحث سويسري، باحث في العلوم الاجتماعية، متخصص في الظاهرة الإسلامية، أمضى حوالي عشر سنوات بمصر ومؤلف كتابي "عالم الفتوات" و"إسلام السوق، الثورة المحافظة الأخرى"، ويعد الآن كتاباً جديداً عن تحولات الحركة الإسلامية في مصر.
في دراساتكم الأخيرة لاحظتم نمو ميل نيوليبرالي لدى الإسلاميين. ما هي مؤشرات هذا الاتجاه؟
هناك متغيران يجتاحان الظاهرة الإسلامية منذ عشر سنوات، وهما بصدد إعادة صياغة حركة الأسلمة في مصر والعالم: البرجزة والخروج من الإسلام السياسي التقليدي. نقول برجزة لأنه بفعل دعاة مثل عمرو خالد في العالم العربي، وفتح اللـه جولن في تركيا، وعبد الله جمنستيار في إندونيسيا، اخترقت عملية الأسلمة أوساط اجتماعية ميسورة ومتصلة بالعولمة كانت فيما سبق بمنأى عن الحركة الإسلامية: الجيل الثاني من الانفتاحيين في مصر، نمور الأناضول في تركيا، وطبقة التجار في إندونيسيا. هذه البورجوازيات راكمت أموالها بشكل مستقل (خارج الشبكات الزبونية للدولة) وهي مرتبطة بعلاقات اقتصادية مع الخارج. المتغير الثاني هو تجاوز الإسلام السياسي: كثير من النشطاء ( 30-40 سنة) ينتقدون أكثر فأكثر الدوجما (الفكر المنغلق) الإسلامية وأعمدته الأساسية أي السياسة (الدولة الإسلامية) والهوية (الهوس بالابتعاد عن الغرب). الإسلام السياسي هو تعبير عن طبقات متوسطة وغنية لا تدين للدولة بثرائها. وهم يريدون بالفعل تهميش الدولة. أما المثل والقيم الكبرى، مثل قيمة العدالة الاجتماعية، فهم لا يؤمنون بها. الزمن الآن هو زمان تحقيق الثروة، وتعظيم قيمتها، وينطبق ذلك الآن حتى على السلفيين. هكذا ففي الوقت الذي ربط فيه الإسلاميون التقليديون مصيرهم بمصير الدولة/ الأمة، صنيعة القرن التاسع عشر، والتي تتعرض للتشكيك، فإن الإسلاميين البورجوازيين والبورجوازيين الإسلاميين يراهنون على تجاوز الدولة. ومثلهم الأعلى هو سياسة أخلاقية وتصرفات تضع الدين في قلب الفضاء العام المنقسم إلى طوائف بعيداً عن الدولة التدخلية اليعقوبية. إنه نموذج الثورة الأمريكية: دولة قليلة التدخل، معالجة التفاوتات الاجتماعية بعيداً عن الدولة (الصدقات)، ومقاومة شديدة لتنوع أنماط الحياة.
هل نحن بصدد أسلمة للبورجوازية أم برجزة للإسلاميين؟ بعبارة أخرى هل علينا البحث عن جذور الظاهرة في آليات نمو الإسلام السياسي، أم في آليات تبلور طبقة تبحث عن إيديولوجيا؟
أعتقد أن المسألة تتطور من كلا الاتجاهين. نحن أمام ما يمكن تسميته "التوافق الورع". فمن ناحية هناك نمو للوسطية والاعتدال لدي الإخوان الشباب المرتبطين عادة بالتجارة والأعمال، وهناك أيضاً العودة للدين في أوساط البورجوازية المرتبطة بالعولمة، الكل يتجه نحو مجتمع تطهري، لكن مفتوح على العالم، مع تركيز على آليات إسلامية لإعادة توزيع الثروة، مثل الوقف، والزكاة، تماماً مثل نمط "مبادرة الإيمان" التي دعى إليها جورج بوش، التي تهدف إلى تفويض بعض وظائف الدولة "للوسطاء الدينيين": فحزب الرفاه التركي، لا يرغب في أي شيء أخر، والمشروع السياسي لحزب الوسط المصري يسير في نفس الاتجاه، ورجال الأعمال المؤثرين في الحزب الوطني يعملون بالتعاون مع ضغوط المؤسسات المالية الدولية، التي وجدت في ذلك التيار الديني الجديد دعامة ثمينة لمشروعها الكبير في تقليص دور الدولة في العالم.
رصدتم تحول عمرو خالد للحديث عن مسألة التنمية بعد أن كان يتحدث عن الأخلاق فقط. هل هي بداية تسيس تيار ديني ظل بعيداً عن السياسة؟
عندما نتكلم عن تسيس الإسلام نفكر فوراً في الإسلام السياسي بشكله التقليدي. ولكن في الواقع يمكن للإسلام أن يتسيس ولكن بطريقة غير تقليدية. يقدم عمرو خالد نموذجا لذلك حين يطرح نفسه كمصلح اجتماعي وليس كداعية. بعد مرحلة أولية قام فيها بإعادة تعريف التدين بعيداً عن الدوجما السلفية، وبعد أن قدم شكلاً للتدين متكيفا مع احتياجات البورجوازية الجديدة المشتاقة للدين، ولكن غير الراغبة في الخضوع للسلفية المتقشفة، ينخرط الآن في معركته الحقيقية: زيادة تنافسية الأمة الإسلامية بين الأمم، والقضاء على الطابع القدري للتدين التقليدي. وباستلهام النظريات الأمريكية في الإدارة، وفي تحقيق الذات، قدم عمرو خالد في برنامج "صناع الحياة" البديل الرئيسي للإسلام السياسي ذو الطبعة الإخوانية. في الحقيقة "صناع الحياة" كان أكثر من برنامج، إنه حركة اجتماعية ذات طبيعة حداثية: فهو ينتقل من الواقع المعاش، إلى المجال الإعلامي إلى الانترنت، وهو يقدم أشكالاً جديدة من الحركية تندرج تحت ما يسميه بولتانسكي وشيابللو، "الروح الجديدة للرأسمالية": فبدلاً من الحركة بواسطة التنظيم الكبير يطرح عمرو خالد الشبكة والشركات الصغيرة والتي تدافع عنها أدبيات الإدارة الجديدة. وكل ذلك يقوم على مشروع للتنمية الروحية، فلم يعد الاستيلاء على الدولة هو الهدف. فالرسالة الأساسية لعمرو خالد للقادة العرب ليست أسلمة السياسية، ولكن تحرير التنمية من سيطرة الدولة.
كيف يؤثر صعود الإسلاميون الجدد على الإخوان المسلمين؟
بسبب تغلغل النظريات الإدارية في أوساط الإسلاميين الجدد، يصبح هؤلاء في تناقض ما مع الإخوان المسلمين. وتدريجياً يبدأ انقسام في الظهور داخل الأخوان، ليس بين "معتدلين" و"راديكاليين"، ولكن بين رجال التنظيم ومثقفين مهمومين بتقليص أهمية التنظيم في الحركية الإسلامية. الشباب يتساءل أكثر فأكثر، عن ضرورة التنظيم في الحركية الإسلامية. يقدم لهم عمر خالد ذلك، يقدم لهم شكلاً من الالتزام "الخفيف" الذي لا يفرض عليهم أن يهبوا كل كينونتهم لرسالة التنظيم، كما يطلب النموذج التقليدي للجهاد الإسلامي. هناك مفكرين مثل فتحي ياكين، أو إبراهيم غريبة، على سبيل المثال، يطالبون بإصلاح العمل الإسلامي، بالانتقال من شكل التنظيم الهرمي إلى الشبكة، بالكف عن تصور حلول شاملة وكلية والنظر إلى الحلول الجزئية المتخصصة. وهم يريدون أشكالاً تنظيمية صغيرة سواء فيما يخص الدولة، أو فيما يخص التنظيم الإسلامي. لذلك فإن انتقادات الإسلاميين الجدد للتيار الإسلامي التقليدي لا تكشف عن ميل ديمقراطي، بقدر ما تكشف عن حركة "مشروعات صغيرة".
هل يمكن اعتبار جمهور الإسلاميين الجدد جيش احتياطي للإخوان المسلمين؟
إسلام السوق الذي أدرسه هو مفهوم تحليلي، يكشف عن ميول ما، وليس عن تيار متبلور. ونحن نجده لدى البورجوازية المتدينة القريبة من الحزب الوطني الديمقراطي، كما نجده لدى الإخوان. عمرو خالد مختلف تماماً عن الإسلاميين التقليديين: ففي الوقت الذي يفكر هؤلاء في السياسة وفي الدولة، يقوم هو بمحورة الظاهرة الدينية حول قيم الشركات الصغيرة. وفي الوقت الذي لا يزال فيه الإسلاميون يعيشون في ظلال التنظيمات الكبيرة على شاكلة الأحزاب الشيوعية الأوروبية للخمسينات، انتقل عمرو خالد بالفعل إلى الحركة من خلال الشبكات. وفي مواجهة ثقافة الخضوع التنظيمي للإخوان يطرح هو علاقة مع قواعده وأتباعه تقوم على التعليم والتفاعل. يبدو أن الثقافة الإدارية تدفع الإسلام خارج معادلة الإسلاميين. سؤال الهوية لا يشغل منظري إسلام السوق كثيراً، هذا بالإضافة إلى أن الميل العولمي لهذا الإسلام يدفعه إلى الظهور بمظهر الغربي، مثل حزب الرفاه التركي، أو الحزب الإسلامي المغربي، اللذان يحلمان بالانخراط في أوروبا. وأخيراً يجب القول أن الخضوع التنظيمي هو عامل منفر للإسلاميين الجدد، فبحكم ثقافة السوق التي يحملونها والتي تدفعهم للطموح والنجاح ليس من السهل أن يسلموا أنفسهم لتنظيمات كبيرة. إسلام السوق يري الإسلام السياسي التقليدي باعتباره حاملا لكل الصفات التي ترفضها "الروح الجديدة للرأسمالية"، مثل عدم التكيف، التسلط، الجمود، وضعف التسامح. وفي مقابل ذلك نجد لدى إسلام السوق الثلاث قيم الأساسية التي تؤسس للثقافة الإدارية الجديدة: العداء للتسلط وتمجيد المرونة والتفاعل وتحقيق الذات.
قمتم في دراساتكم ببيان التشابه بين إسلام السوق والتيار المحافظ الأمريكي، كيف يتعايش ذلك مع عداء الإسلاميين اليوم للولايات المتحدة؟
بينما يدخل الإسلام السلفي الجهادي في صراع مع الولايات المتحدة، إسلام السوق يقف مع النموذج الأمريكي في صراعه العالمي ضد النموذج الأوروبي القديم، فهو لا يتبنى القيم الجماعية الأوروبية، ويؤمن بسياسة تقوم على الخطاب الأخلاقي، وهو بذلك يشارك، دون أن يدري، في حرب صليبية عالمية تهدف إلى إعادة تعريف الحداثة، بعيداً عن الميراث العلماني للتنوير الفرنسي المتمحور حول الدولة.
بهذا المعنى ليس هناك أي تناقض بين الميل المحافظ الإسلامي والانفتاح على العالم، بل والعولمة؟
نعم. ليس هناك أي تناقض بين الأسلمة والعولمة. فالعالم الذي ينفتح عليه الفرد ليس بالضرورة عالم فولتير وروسو، فالمرء يمكن أن ينفتح أيضاً على الاتجاه البروتستانتي المحافظ. والانفتاح على العالم مع الرغبة والالتزام بالدين نجده في النجاح الساحق الذي حققه المغني البريطاني الأذربيجاني الأصل، سامي يوسف: فهو شاب، وسيم، غني، ويغني للإسلام، وبالانجليزية. هو يمثل الإسلام الجديد الميال للمتعة، والذي يمجد القيم البورجوازية للنجاح الفردي.
صوت ديمقراطي جذري
29.8.06
إسلام البورجوازية وبورجوازية الإسلام
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment