صوت ديمقراطي جذري

1.6.06

أولاد حارتنا: حكايات شعب وشعب الحكايات



شريف يونس

"حارتنا حارة الحكايات"، هكذا جرى قلم محفوظ على لسان راوى "أولاد حارتنا" وعلى لسان بعض شخصياتها، لأن الحكاية نفسها هى البطل الرئيسى. أبطال الحكايات معروفون لنا تماما، لأننا جميعا، حتى الأميين منا، نستطيع أن نضع أمام كل شخصية تقريبا معادلها فى قصص أديان المنطقة الحالية: قصص العهد القديم والقرآن: الجبلاوى: اللـه؛ أدهم: آدم؛ إدريس: إبليس؛ همام: هابيل؛ قدرى: قابيل. أما الأنبياء، فجبل هو موسى؛ ورفاعة هو يسوع أو عيسى؛ وقاسم هو محمد. أما آخر الأبطال وأكثرهم إثارة للجدل فهو عرفة الساحر، رمز العلم الحديث.

الحكايات والحارة
ولكن البطل ليس أيا منهم، وإنما هو الحكايات نفسها، فكل فصل منها يتحول فى الفصول التالية إلى مروية، حكاية تحمل العبر، يغنيها شعراء الربابة فى المقاهى والغُرز، ليلتف الناس حولهم يسمعون (على نمط ملاحم أبو زيد الهلالى وعنترة القديمة)، فيتأثرون أو يأسوا لحالهم أو يسخطون. ولكنها دائما تشكل وعيهم بعمق، لأنها ملحمتهم هم وحكايات "حارتهم". إنها تتكلم عن أصلهم وعن كفاح أبطالهم، وتشكل بذلك قيمهم وأحلامهم وآمالهم.
فوق ذلك تشكل الحكايات بنفسها دوافع الأبطال (الأنبياء) وتمنحهم أهدافهم. فكل بطل تبدأ قصته بأن يسمع حكايات الحارة حين يعود إليها، أو يتأمل فيها فى لحظة ما، ويتبنى هدفها. واتصال أى منهم بالجبلاوى يعنى مباشرة، له وللجميع، أن ثمة فصلا جديدا سيضاف إلى حكايات حارتنا.
رواية "أولاد حارتنا"، وفقا لمقدمة محفوظ لها، تدوين لتراث شفهى متداول على الربابة، وبذلك فإنها تمثل لحظة تحول الحكايات الشفاهية إلى تراث مكتوب، أو تحول مختلف أديان المنطقة إلى رواية جامعة عن وعيها.. رواية تتجاوز خلافات واختلافات الأديان، لتدمجها فى مروية عن ثقافتنا. وباختصار، تصبح بذلك تراثا لجماعة بلغت الرشد وأصبحت واعية بماضيها بوصفه تراثا، بينما كانت قبل ذلك غارقة فيه بوصفه جانبا متجددا قابلا للتحوير من حياة "الحارة".
حارة الجبلاوى هى البطل الثانى للحكايات، فحكايات "أولاد حارتنا الأبرار"، أى الأنبياء وعرفة، تدور فى حارة كبيرة قرب صحراء المقطم، كان "الجبلاوى" أول من بنى فيها بيتا، وهو أصل كل ذرية الحارة. ما المقصود بتلك الحارة؟ الحارة ليست رمزا للبشرية(). فالجبلاوى ليس فى الرواية أول الموجودات. وهناك أيضا حارات أخرى بخلاف حارة الجبلاوى.
الحارة مقسمة إلى ثلاثة أحياء، فضلا عن بيت الجبلاوى وبيت ناظر الوقف (الحاكم ومغتصب حقوق الحارة فى الوقف) وأمامه بيت كبير فتواته (جيشه وشرطته). تنتهى الأحياء الثلاثة إلى تمثيل الأديان الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام. فيُسقط محفوظ حكايات عشرات الأنبياء الآخرين ليختار رموزا تمثل وعينا نحن. ما المقصود بـ"نحن"؟ نحن هذه قطاع ما من البشرية، فهناك بشر آخرون، لا يشاركون فى هذا التراث ولا فى الإيمان بالأديان الرسالية (أى التى تتميز بقيام أديانها على فكرة ورود رسالات من الخالق عبر رُسُل) وأبطالها (هناك مثلا عوالم جنوب شرق آسيا، أو الهند، ووجودها سابق تاريخيا على ظهور أبطال الأديان الذين يتناولهم محفوظ). "الجبلاوى" إذن فى وعينا أصل العالم كله، ولكن "الحارات" الأخرى لا تعرف آدم، ولا تحكى أديانها قصة الهبوط من الجنة أصلا (لأن لها ثقافة مختلفة وأديان مختلفة نوعيا مثل الكونفوشيوسية أو البوذية أو الطاوية أو الشنتوية أو الهندوسية).
بل يبدو أن "نحن" هذه لا تشمل كل الشعوب التى تأثرت بالأديان الرسالية، وربما تقتصر فعليا على الشعوب العربية. ولذلك نجد حارة محفوظ خالية من التنوير الأوربى ومجمل ملحمة الثقافة الأوربية الحديثة. ولكن "أولاد حارتنا" ليست رواية عن تاريخ وعينا الدينى/ الأخلاقى، بل عن وعينا الحالى.. فالفراعنة أو الفينيقيين أو السومريين أو البابليين أو الرومان أو البطالمة ليسوا ممثلين فى رواية محفوظ. وحتى لو كانت الحارة هى مصر، فإنها مصر هبة الأديان الرسالية التى تحكم وجداننا المعاش، والتى يلعب فيها "الجبلاوى" الدور الرئيسى، فهو الخالق والأصل، الذى خلق آدم على صورته. وباختصار، يقدم محفوظ فى هذا النص رؤية عميقة لثقافتنا السائدة التى يعرفها رجل الشارع، حتى الأُمى، من الجامع والكنيسة والكتاب والمدرسة والإعلام، ومن حوارات الشوارع نفسها.. فهى قصة وعينا نحن بقصة معينة للخلق من خلال أديان معينة تحكم واقعنا المعاش.

شعب اللـه المختار المعذب
ولكن كيف تصيغ "أولاد حارتنا" تراث الحكايات وكيف تقدمه؟ تخبرنا الرواية أننا، وحدنا، نحن حملة تراث الأديان الرسالية، شعب مختار فى نظر أنفسنا. صحيح أن الإسلام والمسيحية دينين عالميين تبشيريين، ولكن الانتماء لأيهما يمنح المنتمى فى نظر جماعته فى بلادنا (وليس فى أوربا مثلا) وضع الانتماء إلى فئة مميزة من البشر، يحق لها، بل من واجبها فى رأيها الخاص، أن ترث ملك اللـه العريض فى الأرض وتحكم العالم. نحن أيضا، كما تُجمع الأديان الثلاثة، أتينا من عالم آخر، فأبونا ليس من هذه الحارة التى نعيش فيها، بل من رأسها، من ملكوت السماء، هبط إلى الأرض بسبب عصيان إرادة "الجبلاوى"، ونعيش نحن جميعا هنا بسبب هذا الخطأ الأصلى القديم.
وهكذا فنحن نعانى، بسبب إيماننا بهذه الرؤية، من شعور مركب عميق: شعور بالفخر، أو الانتماء لشعب مختار، وشعور بالبؤس، لأننا ببساطة خارج الجنة التى عاش فيها أبونا الأول، والتى نهفو للعودة إليها. نحن إذن بشكل ما فى المكان الخطأ، فى "دار الفناء" بمصطلحات رجال الدين الإسلاميين، فى رحلة تجد معناها النهائى فى "دار البقاء". وفى "منفانا" هذا نسمع قصص الأنبياء التى تحدد معنى وجودنا على هذه الأرض، ومواعظ الأديان التى تؤكد جميعا ضمنا أننا نعيش فى المكان الخطأ، ولكنها تؤكد أيضا حقوقنا المقدسة فى "الوقف" (خيرات الأرض) وفى العدل والسلام والكرامة.
اختار الجبلاوى أدهم من بين كل أبنائه (=مخلوقاته) لينوب عنه فى إدارة "الوقف"، الأمر الذى يثير حقد "أخيه" إدريس (= إبليس) كما هو مشهور، لأنه فى نظر نفسه أفضل، فأدهم ابن الجارية التى تزوجها أبيه، بينما هو وأخوته الآخرين أبناء الهانم (= فى الأديان خُلق من طين، بينما خُلق الآخرون من نار أو نور، وهما فى العرف العام أفضل وأرقى). فضلا عن أنه أقل منهم قوة، ولا فضل له إلا أنه يعرف الكتابة والحساب، وهما بمعايير البيت أدنى من القوة بكثير.
أدهم نفسه يشعر بالدونية برغم اختيار أبيه له فى إدارة الوقف. بل هو فى نظر الجبلاوى نفسه أدنى من أخوته: "انصعت إلى خيانة من فضلك على من هم خير منك". الإنسان فى "أولاد حارتنا" هو الكائن الأدنى منزلة، نال مكانة بين الكائنات بغير استحقاق ولا فضل، بل هبة من الواهب الأقوى لغرض لا يعلمه إلا هو. وفوق ذلك قُدٍّر عليه، بلا رغبة أو اختيار منه، أن يعانى من حقد ودسائس إبليس القوى، وأخيرا أثبت أنه لا يستحق مكانته فى البيت الكبير بسبب طمعه. وحتى فى سقوطه من الجنة سقط بشكل أكثر مهانة من سقوط إدريس (الذى تحدى أبيه)، ولم تعد له من فضيلة سوى حبه للجبلاوى وتعلقه بالبيت الكبير بعد طرده منه. فضيلة أدهم الولاء والطاعة.
البيت الكبير يخرج منه إذن كل من يخرق قانونه: الطاعة المطلقة، سواء بسبب التكبر أو الطمع، وسواء بالتحدى أو التحايل. ولكن يخرج منه أيضا كل قادر على الإنجاب: الشيطان وآدم، ومن ذريتهما (لا ذرية آدم وحده) تتكون الحارة. فأخوة أدهم الآخرون كما جاء فى الحكايات، لا يعيش لهم ولد أو عقيمون. فكأن الإنجاب هو قانون حياة "حارتنا"، حياة المنفى، بينما الخلود مع العقم هو قانون البيت الكبير.
ومع ذلك فالفارق بينهما كبير. فأدهم إرادة ضعيفة وضمير يقظ، وولاؤه للجبلاوى مطلق، بينما إدريس إرادة قوية وضمير منعدم، وبلا قدرة على البناء، وهو ما سينعكس فورا على خياراتهما خارج "البيت الكبير" فى مواجهة الظروف الصعبة: العمل أو النهب.
كان أدهم فى حياته فى البيت الكبير، قبل وبعد تكليفه بتحصيل إيجارات الوقف، يقضى معظم وقته فى الحديقة (=الجنة)، ينصت لأصوات الطيور ويعزف على الناى. وبعد الخروج، ظل أمله الوحيد العودة إلى البيت الكبير ، ولكنه قبل موته ينال، وفقا للعقيدة الإسلامية هنا، عفوا من "الجبلاوى"، ولكن دون عودة، فقط أعطاه "الوقف"، له ولذريته من بعده. ولكن هل أرضاه هذا؟ لا يبدو.. فأدهم منذ طرُد عرف "لعنة العمل"، والعمل عنده كان هو الانحطاط إلى مرتبة الحيوان:
العمل من أجل القوت لعنة اللعنات. كنت فى الحديقة أعيش، لا عمل لى إلا أن أنظر إلى السماء أو أنفخ فى الناى. أما اليوم، فلست إلا حيوانا أدفع العربة [التى يبيع عليها الخيار] أمامى ليل نهار فى سبيل شىء حقير نأكله مساء ليلفظه جسمى صباحا... الحياة الحقة فى البيت الكبير حيث لا عمل للقوت وحيث المرح والجمال والغناء.
التأمل فقط هو الذى يشبه حياة "البيت الكبير": "فى وحدتى أرتد سيدا أو شبه سيد، أتأمل السماء وأتذكر الأيام الخالية".. أى ببساطة أفكر فى المطلق، فى معنى الحياة، وفى الآخرة والنعيم.. فى خلود لا ينتهى.. أى فى كل أشواق أصحاب هذا التراث وهذه الثقافة.
على مدى الرواية، إلى أن يأتى عرفة، سيظل حلم الغناء فى الحديقة والتأمل هو "الحياة الحقة" التى تدور المعارك ويظهر الأنبياء من أجل إقامتها. ولكن إقامة حياة فاضلة على الأرض تحتاج إلى فكرة أخرى لا تقتصر على الحلم بالعودة إلى البيت الكبير. أميمة (حواء)، هى صاحبة هذه الفكرة.
المرأة هنا عند محفوظ هى الأرض والواقع. منذ البداية لم تكن حياتها فى البيت الكبير حياة الحديقة والناى والطيور والسماء، ولكنها حياة ترتبط بما يقال فى البيت الكبير وشئون الحياة. وحين حملت للمرة الأولى ساعدت إدريس فى إغواء أدهم ليحاول الإطلاع على حجة الوقف، حتى تطمئن على نصيب أبنائها المقبلين فى الميراث الضخم. ولكنها لا تتحمل المسئولية عن الخطيئة وحدها.. فأدهم برغم لومه لها على إغوائه كان يعرف أن "المرأة تعرب عما فى نفسه، وهذا ما يثير حنقه". أميمة صاحبة قضية ولها هدف، ذات إرادة جعلتها تحرض أدهم، أما أدهم فهو المنفذ المتردد الذى لا يحمل سوى عقدة الشعور بالذنب (لأنها فى الواقع أعربت عما فى نفسه) والوضاعة.
ولهذا كله، حين تخرج مطرودة مع أدهم، تطمح إلى أن تجعل من الكوخ الحقير "بيتا شبيها بالبيت الذى طردنا منه، لن تنقصه الحديقة ولا البلابل".. إنها تريد الجنة على الأرض، وحلمها واقعى تماما، فإذا كان أدهم يقول أن العمل لعنة، فإجابتها هى: "ربما، ولكنها لعنة لا تزول إلا بالعمل". أدهم إذن هو القيم على الوفاء للبيت الكبير، هو حامل القيم، وامرأته هى الواقعية والحسية والإغواء. فإذا لم تكن هذه ثقافتنا، التقليدية، فماذا تكون؟
يقدم إدريس (إبليس المؤنسن) الحل الثالث: أن يكون المرء بلطجيا ويعيش على حساب الآخرين. كان إدريس أول من طُرد، ومن بين صفات الأب، يتميز هو بصفة القوة والجبروت، فأخذ يجوب الحارات مُعاركا وسارقا. وهو ذو كبرياء، فعلى خلاف أدهم الذى لا يطمع سوى فى العفو والعودة، يبصق إدريس على البيت الكبير، ولا تربطه به سوى فكرة الانتقام، معتبرا نفسه صاحب حق مسلوب. ولكن إدريس القوى لا يستطيع أن يقيم نظاما كما فعل الأب، ولا يتمتع بالهيبة ولا الأخلاق. منذ البداية إذن يطرح محفوظ الشر فى بعده الاجتماعى والدينى متلازمان: الشر هو الاستيلاء على جهد الآخرين، مقترنا بالجبروت والتكبر والعصيان للبيت الكبير. ولكن إدريس يطرح منطقه واضحا قويا.. فحين يستنكر أدهم اعتماده على البلطجة، يرد:
إذا كان العمل لعنة والبلطجة قذارة فكيف يعيش الإنسان؟.... لعلك تريد رزقا بلا عمل؟ ولكن ذلك سيكون حتما على حساب الآخرين!... أم لعلك تريد رزقا بلا عمل دون أن يضار به أحد؟! هذه فزورة يا ابن الجارية!
قصة الخلق إذن عند محفوظ هى قصة فكرتنا عن الحياة ومعنى العالم: الحياة الحقة تكون فى الحديقة مع الناى والطيور (وهى حياة الثراء والفراغ من ناحية، وحياة التأمل والتمتع بالجمال من جهة أخرى، وهى الجنة)، مقابل لعنة العمل؛ خيار البلطجة أو انتظار عفو الجبلاوى؛ بناء الجنة على الأرض أو الأمل فى جنة لاحقة؛ فكرتنا فى هذه المنطقة من العالم عن أنفسنا باعتبارنا منحدرين من مكان آخر، فخورين بنسبنا بوصفنا شعبا مختارا (أو أصحاب عقيدة مختارة)، والتعساء أيضا بسبب هذا المصير. المرتبطين فى كل الأحوال بـ"البيت الكبير"، دون أن نراه، لأنه مختبئ خلف جدرانه العالية، ولا نرى من باب أولى ساكنه. فحكايتنا كلها، مصيرنا ووجودنا، منبثقان منه، ولذا تدور مشاعرنا وأفكارنا وحياتنا كلها حوله. وهكذا يقول همام (هابيل ابن آدم) "سنظل نتطلع إلى هذا البيت الذى لا عزة لنا إلا به ولا تعاسة إلا بسبب منه".

عهد الرسالات: إقامة العدل على الأرض
بدءا من هذه النقطة يغيب الجبلاوى داخل البيت الكبير، فلا يظهر بنفسه أبدا فى الحكايات، ولكن تبقى رسائله التى يرسلها لجبل ثم رفاعة ثم قاسم، القادة المصلحين الذين تنجبهم الحارة، فيضفى باتصاله بهم المشروعية على أهدافهم. وتدور أهدافهم فى مجملها حول العدل، العدل فى توزيع الوقف (خيرات الأرض).. والهدف الأعلى هو "حياة الحديقة". ومن هنا فإن موافقة الجبلاوى تضفى المشروعية على عملهم لأنه هو صاحب الوقف. أما الوقف نفسه فيئول إلى نظار (حكام) يديرونه ويحتكرون ثروته، يساعدهم فتوات منظمون يقهرون الناس.. أما الباقى، فهم الفقراء المحكومون، الذين يتلقون فوق فقرهم الصفعات والإهانات، ويدفعون الإتاوات للفتوات.
الفقراء ليس فى أيديهم سند لمطلبهم بالمساواة وتوزيع الوقف بالعدل سوى الحكاية الأصلية.. فليس فى أيديهم حجج تؤكد حقهم فى هذا الوقف. الحكايات هى التى تقول لهم أن كلهم "أبناء أدهم وأميمة"، وأن الجبلاوى منح الوقف لأدهم وذريته جميعا، ثم أضيفت حكايات الأبطال المتتاليين. وأخذ الناس يسمعون فى المقاهى والغرز هذه الحكايات التى تضفى المشروعية على شعورهم بالظلم، وبحقهم المسلوب. أما بالنسبة للحكام فكانت "حكايات حارتنا" ذات قيمة تاريخية فحسب، والويل لمن يفكر فى جعلها أساسا للمطالبة بالحق فى الوقف. ولكن مع الوقت تصبح الحكايات فى نظرهم أكاذيب اخترعها العامة لكى يستولوا على ما فى أيدى الأسياد، فالحكايات (الأديان) هى إذن الأساس الوحيد للعدل. استمد كل من جبل ورفاعة وقاسم مشروعيتهم من تلقيهم بشكل أو بآخر موافقة وتأييد الجبلاوى لرؤيتهم وكفاحهم.
ولكن بعد انتصار الأنبياء جميعا ووفاتهم، يعود الظلم. فقد أصبح لكل حى فتوة، يرأسهم فتوة الحارة الذى يقيم أمام بيت الناظر، ويعود رباعى الفقر والإهانة والإتاوة والقذارة، يضاف إلى ذلك تنافس وشجار بين الحارات بشأن انحياز كل حى لرجله (دينه، نبيه)، واعتباره أفضل من المصلحين الآخرين. أما الثقافة فتتراوح بين مواويل حزينة وأغنيات فاحشة، وتغلب روح قدرية استسلامية.

زلزال رفاعة وموت الجبلاوى
على فراش المستشفى، قال محفوظ بعد "غزوة" الذبح الغادرة أنه ليس صحيحا أنه انتصر للعلم ممثلا فى سحر رفاعة ضد الدين. لست أرى فى تصريحه هذا رد فعل على حادث الاغتيال.. بل هو يعكس تماما ما جاء فى الفصل الختامى: "عرفة".
عرفة ابن مجهول الأب من أبناء الحارة، تربى مع أخيه "حنش" خارجها، حيث تعلم "السحر".. وعاد مع أخيه أصلا بغرض الانتقام من الحارة التى أوقعت الظلم بأمهما(). وعلى خلاف الحارات المنغمسة فى صراعها على التفاخر بأسلافها الأبطال، يتعامل هو وحنش مع كل الحكايات (الأديان) بمساواة، وموقفه منها يكون فى البداية سلبيا رافضا تماما:
فالحكايات أولا لم يبق منها سوى الفخر الكاذب، و"كلهم [:السكان] أولاد كلب جبناء". ومن هنا يحكم على الحكايات بأنها بلا جدوى، مجرد أداة للتعصب الفارغ من المضمون. وثانيا يرفض عرفة الهدف الأسمى الذى تشير إليه الحكايات ذاته: السعادة والغناء كما حلم بهما أدهم وقاسم وغيرهما: فبدلا من التأمل والراحة من "لعنة العمل"، يصبح الهدف الأسمى هو الإبداع، أى عمل راق له لذته الخاصة. وثالثا، وهو الأهم، أنه يتمرد على المضمون الرئيسى للحكايات ذاتها: فكرة الشعب المختار: "هذه الحارة المغرورة الجاهلة... ليس لديها إلا الحكايات والرباب، وهيهات أن تعمل بما تسمع. ويظنون حارتنا قلب الدنيا [:الشعب المختار] وما هى إلا مأوى للبلطجية والمتسولين...". ولكن: "أنا عندى السحر الذى سيحقق للحارة ما عجز عنه كل من سبقوا". وكأن "السحر" يعود ليتنى رؤية الحكايات الأساسية: تحقيق اجتماع الخير والقوة، ولكن ذلك يتحقق بإنتاج ثروة جديدة، تتيح للناس التفرغ للإبداع الذى سيفضى إلى مزيد من السعادة.
ثم يعيد عرفة الاعتبار جزئيا للحكايات، فيقول: "كان قاسم (محمد) على حق"، بل ويعيد تأويله، معتبرا أنه كان يستخدم العقل مثله. تصبح الحكايات مصدر إلهام أخلاقى، فإذا كان السحر قادرا على صنع المعجزات، فإن استخدامه فى تحقيق السعادة للجميع، يتطلب العودة إلى الحكاية الوحيدة المعروفة فى الحارة التى تؤسس الفارق بين الخير والشر. واستكمالا لتأويل الحكايات، يعتقد عرفة أن الحجة السرية فى بيت الواقف الكبير هى فى الحقيقة كتاب فى السحر (=العلم)، ومن هنا فإن هدفه يصبح التسلل للبيت الكبير لسرقة كتاب السحر: "ما قصدت بيت جدنا إلا لأحصل على سر قوته".. هكذا يمكن أن يمتلك البشر جميعا قوة الجد الكبير، ويتغلبون على كل مشكلات الخروج من بيته.
الرمز هنا معقد إلى حد كبير. لنبدأ بالأحداث.. تسلل عرفة إلى البيت الكبير، وقتل خادما ربما يكون هو الذى سبق إرساله إلى قاسم (=الوحى) ويفشل فى سرقة الكتاب (=اللوح المحفوظ، أو المعرفة المطلقة)، بينما يموت الجبلاوى متأثرا بالغضب للتعدى على بيته وخادمه (وسنحاول استكشاف مغزاه بعد قليل). ويصبح عرفة بفعلته هذه جزءا من الحكايات، فكأن الاعتداء على حرمة المطلق ومحاولة استكشاف سر الوجود استمرار بوسيلة أخرى لنفس الحلم القديم. ويقترب عرفة أكثر من تراث الحكايات بشعوره بالندم على تعديه. يرتبط عرفة إذن بالحكايات ويعتبر امتدادا لها، بالضبط بقدر ما اعتدى على مقدساتها، وبقدر ما كان اعتدائه هذا نابعا من تأويله لها لتتفق مع إيمانه بقوة السحر، وأخيرا بقدر ما تبنى فكرة الحكايات عن الخير والشر. وبمعنى آخر، الحكاية لا تموت، ولكنها تصطدم بطور عنيف يحولها جذريا().
وهكذا فإن سطو عرفة الفاشل على بيت الجبلاوى يعتبر نوعا من الوراثة.. فالنتيجة التى انتهى إليها عرفة هى أنه اعتبر نفسه، بفعلته هذه، ملتزما أدبيا أمام نفسه بإعادة الحياة إلى الجبلاوى: فأية مآثر سيأتى بها فى المستقبل لن تكفى لمحو جريمته، لن يكفى إلا أن يصبح السحر من القوة بحيث يعيد الحياة للجبلاوى: "على الابن الطيب أن يفعل كل شى، أن يحل محله، أن يكونه". لن يحل محله لأنه يكرهه، وإنما لكى يحقق وصيته. هنا يصبح الجد هو ضمير عرفة، يتأنسن الدين ويصبح مثلا أعلى. فوق ذلك، يعرف عرفة، ذات ليلة، من خادمة فى منزل الجبلاوى أنه أمرها قبل موته أن تبلغه "أن جده مات وهو راض عنه".
يُقتل عرفة، ولكن تتشكل نخبة جديدة من أتباعه خارج الحارة، علماء. فالحل الذى يقدمه محفوظ هو الأمل فى النخبة رفيعة المستوى. وفى مواجهة هذه التطورات التى تعلقت بها آمال الناس، مارس الناظر دعاية مضادة، (هى بالطبع "تكفير" عرفة باعتباره المسئول عن موت الجبلاوى، ولو بشكل غير مباشر، مثلما سيتم تكفير محفوظ نفسه لاحقا). ويختم محفوظ الرواية متفائلا. فالناس عاد عطفهم على عرفة برغم دعاية الناظر، وقالوا: "لا شأن لنا بالماضى ولا أمل لنا إلا فى سحر عرفة، ولو خُيرنا بين الجبلاوى والسحر لاخترنا السحر". وكلما زاد عسف الناظر "لاذوا بالصبر واستمسكوا بالأمل... وقالوا لا بد للظلم من آخر والليل من نهار، ولنرين فى حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب".

نص محفوظ المؤسس بين حداثتين
فى حدود علمى، لم يُكتب عمل بهذا العمق بالعربية عن ثقافتنا، عن الوعى الذى تشكله الأديان التى نتلقاها منذ الطفولة.. عما تطبعه فينا قصة الخلق من تصورات وقيم، والمعاناة التى صحبت دخول العلم الحديث فى وعينا. يمكن تناول هذه القضايا بأشكال ورؤى مختلفة.. ولكن يمكن القول بصفة عامة أن عمل محفوظ محاولة راقية داخل تيار التوفيق بين العلم والدين.. محاولة مثيرة للخلاف، قابلة للتأويل، ككل نص، أدبيا كان أو غير أدبى.. ولكنها محاولة تجمع بين الجرأة والعمق.
جريئة لأنه كان بمقدور محفوظ أن يسقط ببساطة قصة دخول عرفة بيت الجبلاوى بكل ما ترتب عليها. اختار محفوظ بشجاعة نادرة أن يعرض الزلزال الذى أدخلته قيمة العلم فى ثقافتنا بأقوى الأشكال، كزلزال حقيقى. كان ببساطة مستطيعا أن ينجو بنفسه ويهون ويزور فى ثقافة أدمنت التهوين والتزوير والتسطيح والاستسهال. فالرواية ترفض التعامل مع العلم كأداة (مهرب التوفيقيين التقليدى).. لأنه يُجرى فى واقع الأمر تحولات مهمة فى رؤيتنا لتراثنا وقيمنا وأفكارنا.. فالعلم لا يتفق مع فكرة الشعب المختار، ويتناول الماضى والتراث بالفكر، ولكنه لا يعبدهما، بل ويغير مفهوم "الحياة الحقة"، فلا تصبح مجرد الأمل فى العودة إلى البيت الكبير، وإنما تتحقق على الأرض بجهود البشر وصمودهم دفاعا عن قيم أخلاقية نبيلة تتعلق بالخير والعدل، وترمى لتحقيق الوفرة لتجنب الناس شر الحاجة والمرض والجهل، وتحترم الإنسان من حيث هو إنسان فحسب، بصرف النظر عن ديانته أو أفكاره.
وعميقة لأنها تتوج فى رأيى عمل عشرات من المنورين المصريين، الذين لقوا العنت الشديد فى حياتهم ومُرغت سمعتهم بعد مماتهم. تتوج "أولاد حارتنا" هذا المسار العظيم بأن قدمت ببساطة نصا موازيا للنصوص المقدسة. وهى بهذا وحده نقلة جبارة نحو الحداثة. فهى تعترف بتراث هذه الأديان باعتباره ركيزة جوهرية لوعينا جميعا، أيا كانت مواقفنا من الأديان المختلفة، وبوصفه معتقدات واجبة الاحترام الحقيقى، بمعنى أنه تراث يستحق التأمل، ليس لاكتشاف الأوامر والنواهى الدينية، ولكن كنصوص خاطبت وجدان الملايين وما زالت تخاطبه، كمصدر لأحلام العدل والرقى والنظافة والكرامة.
وبهذا المعنى فإن هذا التراث أقوى حتى من تأسيسه الإلهى. فالفطام عن الجبلاوى، سواء ببدء الحياة فى الحارة، أو بانتهاك عرفة للبيت الكبير، لا يُسقط الفكرة، وإنما يمنحها حياة جديدة. فالفكرة وعى منبثق من شقاء الإنسان على الأرض، من الشعور بـ"لعنة العمل"، فهى الشكل الذى اتخذته عواطف البشر فى مكان وزمان معينين، وأصبحت تراثا حيا يتواصل حتى الآن.
بدلا من الرؤية الصنمية التى لا تعرف عن احترام المقدس سوى ترديد نصوصه، وتكرارها بحذافيرها ليلا ونهارا()، يطرح محفوظ إعادة فهمها واستعمالها وتجاوزها. والتجاوز هنا لا يعنى النبذ والإلغاء، وإنما يعنى التجديد والمواكبة وإعادة الفهم.. يعنى نبذ التعصبات واستخلاص، من زوايا مختلفة، لما هو إنسانى، ويعنى إثراء عمقه الذى أهله للحياة بين الناس مئات ومئات من الأعوام، أو يعنى، حسب "أولاد حارتنا" أن "يرضى" الجبلاوى عن عرفة، أن يقر مسعاه باعتباره متصلا بتراث الحكايات بوسائل أخرى. وهكذا تتأنسن القصص الدينية عند محفوظ، تستمد حياتها منا نحن، من قدرتنا على تأملها وتوليد المعانى منها، لا من السعى لتجميدها أو ادعاء قدرتنا على العودة إلى معنى أصلى قديم وترديده بلا توقف أو انقطاع تحت شعار مثل الحاكمية.
ومن خلال نصه الجديد هذا يطرح محفوظ بحدة فكرة "لعنة العمل"، باعتبارها المعنى العميق لقصة الخلق والخروج من الجنة، كما جرت فى تراثنا وشكلت أرواحنا، ويطرح علينا بالمقابل أن نحول هذه القصة لحافز للانتقال إلى لذة العمل الإبداعى، العلم، باعتباره اللحظة التى يمكن أن تصل إليها ثقافتنا الآن لتحل مشكلات تطورنا، كما حدث بالنسبة لثقافات أمم أخرى. ومن خلال هذا الانتقال يطرح الأمل فى تجاوز الذل والفقر والقهر والقذارة والكراهية بين أصحاب الأديان. لقد ظلت حياة أولاد الحارة مشدودة إلى حلم يائس بالبيت الكبير حتى أتى عرفة.. بينما ظلت حياتهم الواقعية دائما مجرد امتداد لتعاسة أبيهم أدهم، وظل الناظر والفتوات قابضين على أعناقهم وأرزاقهم. يموت الجبلاوى، ولكن الحلم بالعدل الذى ارتبط باسمه لا يموت، وينتظر الناس أنصار عرفة (المثقفين المحدثين ربما) بينما ينتظرون هم أن يصبح كل الناس سحرة مثلهم، ليتحقق الحلم الكبير ويُبعث الجبلاوى الرمز فى انتصار ربما كان نهائيا.. عند محفوظ ينتصر اللـه بأن نكون إرادته الخيرة، بأن نحقق حلم السعادة والعدل. قال الناس فى نهاية رواية نجيب محفوظ أنهم لو خُيروا بين الجبلاوى والسحر لاختاروا السحر.. ولكنهم يختارونه بنفس القيم الإنسانية التى دارت حولها حكايات أولاد حارتهم السابقين. وبهذه الطريقة يقدم محفوظ صلحا عميقا بين العلم و"الحكايات".
واللافت للنظر أن ما ينتصر فى النهاية هو رؤية "أميمة": حواء. فالهدف هو بناء الجنة على الأرض، جنة تقوم على الوفرة والعدل، لا على مجرد الحلم بالعودة إلى البيت الكبير. لم يشر محفوظ لذلك بأى طريقة على لسان أى من شخصياته.. ولكن أنسنة الحلم العظيم لإنساننا، ابن ثقافتنا، المطرود من الجنة، حلم ذلك الكائن البائس، ابن الجارية بتعبير محفوظ، يقطع باستمرار المزيد من الأشواط، حتى يصل إلى الرهان المفتوح، المجهول المصير، على عرفة.
يُطلق على الحضارة الأوربية الحديثة، من بين أسمائها، الحضارة اليهودية- المسيحية. هذا لا يعنى أن الناس هناك يستفتون الفاتيكان والكنائس البروتستانتية المختلفة والحاخامات اليهود فى شئون حياتهم.. بل هم، كما هو معروف، لا يسمحون لهذه المؤسسات بالتدخل فى أى شأن سياسى، ولا يحمونها ولا يحمون عقائدها من النقد. ليست المسألة "حاكمية" العهدين القديم والجديد، أو الكتاب المقدس، فهذا قد انتهى، وإنما هى طريقة ما فى النظر إلى العالم، يمكن أن يقال أنها أثرت بشكل أو بآخر حتى على أكثر الفلسفات عداء للدين كدين. بهذا المعنى العام الواسع يمكن أن نتكلم فى منطقتنا عن ثقافة إسلامية- أرثوذوكسية تتمثل بشكل أو بآخر فى مختلف أشكال الفكر، دون أن يعنى ذلك أن تكون أصولية وفقهية. بهذا المعنى يمكن أن نعتبر رواية محفوظ العظيمة أحد المعالم الكبرى فى هذا الفكر. وحتى لو اختلفنا مع رؤيته (من منطلق فكرى لا فقهى)، فلا يسعنا إلا أن نقدر رؤيتها الإنسانية، وتعاليها على ويلات الصراعات الدينية التى تحيط بنا الآن، ونزولها إلى آمال الناس وأحلامهم، وتناولها لوعيهم الدينى وأعمدته الأساسية.
نص محفوظ نص مؤسس بالفعل لمثل هذه الثقافة.. فهو لا يتنكر للتراث، وإنما يستحضره ويستعمله، لا يرفع شعارات الخصوصية، ولكنه يحققها فى نص متكامل. الرواية تستخلص ما هو إنسانى مما هو إسلامى بالذات، وهو ما تدل عليه جوانب كثيرة فى روايتها لحكايات الأنبياء، وروحها العامة، ولكنها لا تضع رؤيتها فى مواجهة الأديان الأخرى.
* * *
الحداثة ليست اختيارا بل واقع. فأشد المتعصبين تعصبا يحلم بالقوة والتقدم لفرض هيمنته، التى يعتبرها الخير الأسمى، على العالم. تلك الحداثة الأخرى تختزل التراث والأديان فى الفقه والأحكام، وتشجع تكوين دولة قمعية كلية الجبروت مستندة إلى الحكم باسم نص مقدس، على نمط تجارب النميرى والبشير والخمينى ومن لف لفهم.. وهى رؤية لا تقل حداثية يمثلها الناظر حتى وهى تصم العلماء بالإلحاد، لأنها ترمى إلى استعمالهم أيضا لمصلحة الدولة كلية الجبروت فائقة الإمكانيات.
فى الزمن الذى كتب فيه محفوظ روايته لم يكن قد ظهر بعد "الناظر التقى"، على نمط الأحمدى نجاد، ولكن ظهرت صورة نصف علمانية منه ممثلة فى الناصرية.. التى كانت بدورها تحكم بمقدسات. الآن يدور مجمل مشروع الدولة الإسلامية بالضبط حول فكرة "الناظر التقى".. الذى يعد أيضا بتحقيق العدل، وهى رؤية تتعارض بعمق مع رؤية "أولاد حارتنا" الإنسانية الرحيبة، التى تقدم ثقافتنا كثقافة فرعية من ثقافات البشرية، والتى تؤيد أنسنة الحلم الدينى.
ولعل ما صادفته هذه الرواية من إعراض عن مناقشتها والتأثر بها والتفاعل معها، لصالح جدل حول تكفير محفوظ أو، بالعكس، الدفاع عنه، يدل على مبلغ انحطاطنا الثقافى، وانجرار ثقافتنا بسهولة إلى سفك الدماء على جدران القداسة، على نمط الأديان البدائية.. كما نرى حولنا الآن.
ولعله ليس من قبيل الصدفة أن معظم من تناولوا عمل محفوظ، بما فيهم من دافعوا عنه، اتفقوا على أنه يتكلم عن العالم كله، عن الخليقة، لا عن تراثنا ومشكلاتنا معه(). فاستبعاد الآخرين أو حتى نسيانهم، هذه الأشكال العميقة للتعصب، وبالتالى للتكفير، عميقة فى ثقافتنا، وتتجاوز بكثير التيارات الدينية المتطرفة.. فمن تكفير دينى إلى تخوين وطنى أو طبقى، ظلت الثقافة المصرية تدور، منذ الأربعينيات على الأقل، فى حملات تنخر أسس التسامح وتقضى على الروح الإنسانية، وتدفع بالعقل يوما بعد يوم إلى مزيد من ضيق الأفق وأحلام مجنونة بالعظمة والسيادة. ليست مشكلاتنا مع الدين كدين، ولكن مع نمط من الوعى الدينى الطابع يطول التيارات الرئيسية فى الفكر المصرى الحديث. القدرة على تمثل فكر الآخرين قبل نقدهم معدومة.. وما يقدمه ما يسمى "الغرب" من نقد ذاتى (مثلا نقد المركزية الأوربية الذى ظهر فى أوربا) يستعمل فقط كحجة لتأكيد إحساس الذات بالاضطهاد أو تأكيد عظمتها، وغالبا هما معا.
الشاغل الأساسى للثقافة المصرية هو شعار سيد قطب: "فلنؤمن بأنفسنا" (وهو سابق بالمناسبة على تحوله إلى التيار الإسلامى) لا بغيرنا، وهو جوهر إيديولوجية مصر الفتاة. نحن دائما على حق، ونحن هذه تستبعد الآخرين بالضرورة. مواجهة الذات تكاد تكون مستحيلة.. لأن الأفكار تتحول عندنا إلى أديان لا تُمس. الرد السائد على المركزية الأوربية هو مركزية أصولية، دينية أو وطنية، متوهمة. أحلام السيادة والعظمة.. الخ.. استعمار أوربا لنا جريمة كبرى، ولكن ما فعله محمد علي فى السودان والشام تنوير وتشييد للحضارة.. وقس على ذلك.. أو بتعبير "جبل": (موسى) "واللـه ما كرهتم الفتونة إلا لأنها كانت عليكم". "الخصوصية" عندنا شعار يستعمل لتبرير الإفلات من الالتزامات الإنسانية العامة، لكى نكون خارج العالم عاكفين على تأكيد سمونا لذواتنا، ومحاكمين الإبداعات بأضيق أفق ممكن().
* * *
هكذا وقع نص نجيب محفوظ بين الحداثتين، منحازا لأحدهما بوضوح. ولذا كان سفك دم نجيب محفوظ مجرد فعل بسيط، منطقى ومشروع من وجهة نظر الحداثة الأخرى، "لإحقاق الحق"، وإيقاع العقاب بكل من تسول له نفسه قول ما يخالف المشروع الآخر. بينما كان نجيب محفوظ ينشر روايته، كانت الحداثة الأخرى تستجمع قواها، حيث أخذت قوة الإسلام الفقهى تتعافى منذ أواخر الخمسينيات، وعبرت عن نفسها فى مناقشة الشيخ الغزالى مع عبد الناصر فى 1962، التى طلب فيها صراحة حصانة رجال الدين من النقد. فى هذه الظروف أتت رواية "أولاد حارتنا" سائرة فى الاتجاه العكسى، فوضعت حارتنا بين الحارات، وحولت الأديان إلى أفكار، وتعالت على التعصب، كارهة الفتونة سواء كانت علينا أم لنا، وفتحت بذلك أفقا عريضا للحرية.
للأسف نحن بعيدون عن مرحلة نقد هذا النص المهم وتجاوزه، ما زلنا فى المربع رقم واحد، نكافح فقط لكى نحقق له مشروعيته، ومشروعيتنا. لقد حظر نجيب محفوظ نشر هذا النص فى مصر بغير موافقة أصحاب الاتجاه الآخر، ولذا لن ينشر. ليس لنا أن نلوم محفوظا على موقفه هذا، فقد حارب معركته بالفعل، ودفع ثمنها، واليوم هى معاركنا نحن. هذا المقال تحية متواضعة لواحد من أهم النصوص النثرية العربية الحديثة، ولواحد من أهم الناثرين المصريين المحدثين، الشيخ الجليل نجيب محفوظ. ولكنه أيضا محاولة لوراثة نص محفوظ العظيم واستهلاكه، لنحقق لأنفسنا ما حاول هذا النص أن يحققه لنا، تماما كما حاول عرفة أن يحقق إرادة الجبلاوى معيدا تأويله.


2 comments:

Anonymous said...

nice article!!!

Anonymous said...

كلام جميل بس ميننننننننن يقرا ويفهم؟