شريف يونس
تختلف رؤى اليسار حول تشخيص أزمة الدولة. البعض يرى أنها أساسا دولة الرأسمالية، وأن اليسار يطرح مقابلها دولة العدالة الاجتماعية أو دولة اشتراكية أو مرحلة انتقالية نحوها. البعض يرى (مثل الناصريين، وهؤلاء يحسبهم بعض اليسار من اليسار) أن الدولة خائنة للكفاح الوطنى والعربى ضد الاستعمار وأنها بشكل أو بآخر "عميلة" للاستعمار الجديد الأمريكى والصهيونى، وأن المطروح فى مقابلها هو دولة وطنية ملتزمة بالقضايا الوطنية والعربية ومعادية للولايات المتحدة. والبعض يجمع الحسنيين، ويطرح القضية بشكل "عميق"، فيربط بين الدولة "العميلة" والدولة الرأسمالية، فالدولة الرأسمالية بطبيعتها ستتحالف مع الاستعمار، أو بالعكس، الدولة العميلة لا تجد سندا محليا إلا الرأسمالية المرتبطة بالغرب. وقد يجمع البعض الحسنات جميعا فيضيف أن الربط صحيح من هذه الجهة أو من الجهة الأخرى، قائلين أنه ربط ديالكتيكى، لأن الجدل أو الديالكتيك فى نظرهم هو التفاعل المتبادل().
ويضيف أنصار هذه الرؤى أن الديمقراطية ضرورة، كأداة لتمكين الطبقات الشعبية من الكفاح من أجل العدالة الاجتماعية أو الاشتراكية (حسب رؤى فصائل اليسار المختلفة) والأهداف الوطنية والقومية. وبتعبيرات أكثر تعقيدا: إسقاط التحالف الرأسمالى الاستعمارى لصالح تحالف شعبى ديمقراطى اشتراكى وطنى.
يحاول هذا المقال أن يطرح منظورا مختلفا بشكل جوهرى: بنية النظام القائم، أصوله التاريخية، حدود حركته، نقاط قوته وضعفه، وأين يقع المنظور الديمقراطى الجذرى من النضال ضده؟ المسألة بهذا الشكل ربما يحتاج استيفاؤها لآلاف الصفحات، ولذا سوف يقتصر المقال على تقرير المعالم الرئيسية، مفترضا أن كل قارئ سيكون بمقدوره أن يضيف من خبرته الخاصة إلى هذه المعالم، فلا أحد فى هذه البلاد يقف خارج شبكة سلطة النظام أو ينجو من التعرض لها بشكل من الأشكال.
(أ) بنية النظام
النظام مركب من نوعين من المنظمات: مؤسسات مدنية رسمية، وأجهزة سياسية سرية. الأولى تشمل كل المؤسسات التى تعمل بشكل علنى فى الدولة: القضاء، المجلس النيابى والمجالس المحلية، الوزارات والمصالح التابعة لها والمحافظات، بما فى ذلك الشرطة المسئولة عن الأمن العام، الجمعيات الأهلية والنقابات والأحزاب والنوادى، وغيرها من منظمات المجتمع المدنى العلنية، وعلى رأسها الدستور، الذى ينظم العلاقات فيما بينها. هذه المؤسسات فى عمومها قانونية، أى تتحرك بلوائح وقوانين وإجراءات محددة، وعملها بصفة عامة مفترض فيه العلنية.
الثانية هى أجهزة الأمن السياسى: مباحث أمن الدولة، المخابرات العامة، المخابرات العسكرية، جهاز الأمن القومى، وربما غيرها.
العلاقة بين هذين النوعين من المنظمات هى هيمنة الأجهزة الثانية على الأولى. غير أن تحقيق هذه الهيمنة يتطلب أن تصاغ المؤسسات الأولى نفسها بما يسمح بتدخل الأجهزة السرية. ويتحقق ذلك فى المحل الأول عن طريق السلطات شبه المطلقة لرئيس الجمهورية، الذى يجمع بين كونه رئيس الدولة ورئيس السلطة التنفيذية. ومن خلال هذا الازدواج فى سلطته تتدخل الأجهزة الأمنية فى القضاء، مثلا، بطرق متعددة، شرحها القضاة بأنفسهم. ويتحقق فى المواقع المختلفة بأن توكل دائما السلطة فى كل موقع لفرد واحد له صلاحيات ضخمة فى الإدارة. وهكذا يختص وزير العدل بندب القضاة وتعيين رؤساء المحاكم وتقرير مكافآت لهم، وعشرات الاختصاصات الأخرى. وبنفس الطريقة يتم إحكام القبضة على الجامعات بتعيين رؤسائها وعمداء الكليات، وإحكام القبضة على الأقاليم بالتعيينات العديدة، من المحافظ إلى عمدة القرية.
وهكذا فإن سلطة الفرد الواحد، الذى يتحكم بأدوات منها الاختلالات المتعمدة فى نظم الأجور (بأن يكون معظمها حوافز فى يد الإدارة) تعد هى المدخل الطبيعى لتحكم أجهزة الأمن. فمن جهة يتم تعيين هؤلاء المسئولين فى كل موقع بناء على تقارير متعددة، على رأسها تقارير الأجهزة الأمنية، ومن جهة أخرى يمكن نزع هؤلاء الأشخاص من مناصبهم بناء على تقارير جديدة. وبين التعيين والخلع يتلقى هؤلاء الرؤساء التعليمات الأمنية فيما يتعلق باختصاصهم، فيصدرون القرارات "الملائمة" أمنيا، مثل عدم تعيين معيدين معينين، أو اضطهاد أحد الأساتذة، أو إحالة طلبة للتحقيق، أو، فى مجال القضاء، توزيع القضاة على اللجان الانتخابية بحيث يتم استبعاد البعض ووضع "الموثوق بهم" فى اللجان العامة الحساسة، وداخل المحاكم نفسها توزيع القضايا من حيث نوعها على القضاة بحيث تصل القضايا التى تعتبرها السلطة مهمة لقضاة بعينهم، الخ.
وهكذا تقوم الدولة فى ظل النظام الحاكم على ازدواج أساسى بين السلطات المدنية (وتشمل شرطة الأمن العام)، والجهاز الأمنى الحاكم. ويمكن النظر إلى طبيعة هذا الازدواج من زاويتين: الأولى أن أجهزة الأمن لا تستطيع أن تسيطر بذاتها ومباشرة على الأجهزة المختلفة، نظرا لافتقارها إلى الخبرة. فهى لا تستطيع أن تتولى الفصل فى القضايا بدلا من القضاة، ولا تستطيع أن تتولى شئون التدريس والترقيات فى المدارس والجامعات، ولا تستطيع أن تحل محل التفتيش الزراعى فى إدارة شئون الزراعة، ومن باب أولى لا تستطيع أن تحل محل هؤلاء جميعا.
ومن الزاوية الأخرى، فإن السير العادى للمصالح، واحترام القوانين فى حدود المطالب الأمنية، هو فى حد ذاته مطلب من مطالب الأمن. فاطمئنان السكان لقضاء مصالحهم المعتادة أمر جوهرى لاستتباب الحالة الأمنية. وبالتالى فإن احترام القواعد القانونية بقدر الإمكان، ولكن بما يسمح بالتدخل الأمنى وقت "اللزوم"، مطلب أمنى. ولكن فوق ذلك يعتبر الأمن السياسى نفسه مسئولا حتى عن أداء الأجهزة المدنية للدولة لواجباتها، لأن إخفاقها يعتبر، من وجهة نظره، مادة تحريضية تستعملها "الأنشطة الهدامة" – وفق لقاموس الأمن – فى سحب بساط الشرعية من تحت أقدام النظام الأمنى.
ومحصلة هذا كله أن النظام الأمنى ليس مطلق العنان، وإنما يجب أن يجعل تدخلاته محدودة. ويعنى هذا أمران: ألا يتولى مباشرة المسئولية عن أفعاله، فى معظم الحالات، وإنما يوحى للمسئولين الشرعيين باتخاذ الإجراءات غير المشروعة تحت مسئوليتهم (مثل توزيع القضاة على اللجان أو إحالة طلبة للتحقيق) مقابل حمايتهم فى مناصبهم من الإقالة، حتى لو أتت تصرفاتهم مخالفة للقانون. والأمر الثانى ألا يتدخل فى صميم عمل هذه الجهات المدنية فى غير اختصاصه، وإنما يرصد ما قد يعتبره "انحرافات" أو سياسات خاطئة ويرفعها لمؤسسة الرئاسة أو غيرها لتتخذ بنفسها الإجراءات، سواء بإصدار قوانين أو تعديلها، أو إقالة مسئول معين أو توجيه سياسته فى اتجاه جديد.
ومؤدى هذا كله أن أجهزة الأمن السياسى هى الجهاز السياسى الرئيسى للنظام. فهذه الأجهزة لا يقتصر عملها على قمع المعارضة أو التجسس عليها (وسنتعرض لجوانب ذلك لاحقا) وإنما تشمل مراقبة عمل كافة أجهزة الدولة وضبطها وتبديل رؤسائها. صحيح أنها لا تمارس ذلك بسلطة مباشرة على هذه الأجهزة ولكنها تمارسها سرا أو من خلال مؤسسة الرئاسة (ومن هنا صلاحيات الرئاسة المهولة فى الدستور).
ولكن مؤسسة الرئاسة نفسها لا تتخذ قراراتها السياسية من فراغ، وإنما تتخذها فى ضوء التقارير الأمنية، فضلا عن تقارير الجهات الرسمية المدنية المسئولة. ولكن بينما تتولى الجهات المدنية المسئولية "الإدارية"، إن جاز التعبير، عن تنفيذ السياسات، فإن الأجهزة الأمنية تشكل الجهاز السياسى للرئاسة الذى يمكنها من إصدار "التوجيهات" للأجهزة المدنية من منظور الأمن الكلى للنظام. فالأمن يلعب أدوارا أساسية فى "التوفيق بين الأطراف" فى المنازعات العمالية، أو الفتن الطائفية، أو الصراعات بين العائلات فى الريف، أو الصراعات الإدارية والمهنية فى الصحف والمصالح الحكومية المهمة، أو حتى الصراع حول تحديد تعريفة الركوب فى خطوط الميكروباص، وهكذا.
غير أن ممارسة الجهاز الأمنى لوظائفه المتشعبة العديدة يتطلب إيديولوجيا أو أفكار سياسية مناسبة، بعضها رسمى، ومعظمها عبارة عن جو عام غير رسمى. فمن جهة أولى تستند ممارسة هذه الأجهزة لعملها على عقيدة معينة للأمن القومى، تعتبر كافة أنشطة أجهزة الدولة، الرسمية والأهلية (أو ما يسمى المجتمع المدنى) عناصر فى الأمن القومى. فسواء كنا بصدد الاقتصاد أو الأنشطة الاجتماعية أو غيرها، فثمة ضرورة لوجود عناصر أجهزة الأمن السياسى فيها أو على هامشها.
وهكذا فإن القانون والدستور ليسا أساس الحكم فى الدولة، إلا بقدر ما أنهما مصممان بحيث يمنح الدستور سلطة مطلقة لرئيس الجمهورية، يستعملها أساسا فى تحقيق سيادة أجهزة الأمن السياسى، وبحيث تسمح نصوص القانون المعيبة بتدخل خفى للأمن من خلال إدارة الرجل الواحد، أو ما يسمى ثغرات القانون (مثل قانون ممارسة الحقوق السياسية).
غير أن ثمة إيديولوجيا قانونية عامة باطنة فى قوانين النظام: "حماية الضعيف"، و"الوقاية خير من العلاج". فبهذه الحجج تتدخل الدولة دائما فى كل العلاقات الاجتماعية، فتشرف مثلا على أعمال جميع الجمعيات الاجتماعية بحجة منع وقوع أعضائها فريسة نصب مجلس إدارة أو عضو قوى فيها. ولذا يتطلب أى نشاط عددا لا يحصى من الإمضاءات والموافقات. ففلسفة التشريع العامة ليست عقاب المجرم بقدر ما هى منع الجميع من حرية الحركة لمنع وقوع المخالفات أصلا. وهى بهذه الصفة تعتبر فى مجملها سياسة "استعمارية" تقوم على مبدأ "فرق تسد"، حيث تسمح بتدخل النظام حكما فى كل النزاعات، بل تستدعيه الأطراف نفسها للقيام بهذا الدول المهيمن. ومن الملاحظ أن الوعى المصرى عند مختلف التيارات، ولدى الطبقة الوسطى التقليدية، قد تشرب بالفعل هذه الإيديولوجيا التى تقوم على انعدام الثقة بين المواطنين وبعضهم فى تعاملاتهم. فكلما ظهر انتهاك أو جريمة، تصاعدت الصيحات تطالب الدولة بمزيد من الرقابة والتدخل والمنع المسبق.
وفوق ذلك يسمح تعدد الإجراءات الرسمية وتعقيدها بتوسيع فرص تدخل الأجهزة الأمنية يصبح من الباب الخلفى. ولكى يصب هذا الإحكام البيروقراطى للمنافذ فى طاحونة الأمن يجب على أجهزة الأمن السياسى أن تتواجد فى كافة الهيئات والتجمعات، كى تعرقل ما تريد عرقلته، وتمرر ما تريد تمريره بأوامر مباشرة "للمسئولين".
وبالطبع فإن هذا التواجد فى وعيها ضرورة وطنية لصالح "البلد"، تقوم بها بتجرد، المفروض، وتستفيد من ذلك امتيازات معنوية (سلطة) ومادية مختلفة، ولكنها تقوم بنشاطها هذا فى ظل لوائح معينة تحكم عملها فى داخلها، وفى إطار توجيهات أخرى تحكم حدود تدخلها وتربطها بسلطة الرئاسة. وهكذا فإن هذه السلطات تمارس عملها فى إطار إيديولوجية وطنية عامة، لا تشير بشكل مباشر إلى أية سياسة معينة، اقتصادية أو اجتماعية تعتنقها (ومن هنا يوجد فارق، ولو محدود، عن حكم أجهزة أمنية تابعة لأحزاب قوية، مثل الاتحاد السوفييتى السابق). وتنبع قسوة هذه الأجهزة فى مواجهة المعارضين وغيرهم من شعورها بأنها تؤدى ما تعتبره "واجبا وطنيا".
والإيديولوجية الوطنية مناسبة تماما لهيمنة هذه الأجهزة، لأنها تتسم بالتعميم وتدعى أنها تتجاوز تناحر السياسات المختلفة النابعة من قوى اجتماعية وسياسية مختلفة، وبالتالى تحيل بشكل غير مباشر إلى الثقة بأجهزة "مسئولة" عن أمن البلاد، أى تبرر هيمنة هذه الأجهزة نفسها. كما أن الزعيق المتواصل حول المؤامرات الخارجية يضفى بشكل غير مباشر شرعية على الأعمال القمعية والتدخلية التى تمارسها هذه الأجهزة. أضف إلى ذلك الدعاية المباشرة لها، ممثلة فى مجموعة الأفلام والمسلسلات عن الجاسوسية الوطنية التى تجعل من السرية والرهبة وهذه الأجهزة نفسها قرينة الإخلاص والوطنية وكل القيم العليا الممكنة.
واستكمالا لذلك فإن التعامل مع أى "خارج" يعد وطنيا فحسب عن طريق أجهزة الدولة، فالتقاء القضاة بهيومان رايتس واتش خيانة، أما التقاء رئيس الوزراء بهم فطبيعى. ولكى تعمل هذه الفكرة يجب اختزال العالم إلى مجموعة من أجهزة الأمن، فيُنسب إليها كل تحرك خارجى، بحيث لا يعد كفئا ووطنيا للتعامل معها إلا أجهزة الأمن "الوطنية" وأجهزة الدولة الرسمية المرتبطة بها.
وبالنسبة للسكان، فإن هذه الأجهزة لا تستطيع أن تمارس عملها بغير شيوع جو معمم من الإرهاب بدرجة أو بأخرى. فبغير أن نعرف جميعا، بشكل أو بآخر، أن التعيينات فى المناصب المهمة تتطلب موافقة أجهزة الأمن السياسى، لن تجد هذه الأجهزة موالين كافيين يقدمون لها الخدمات ويثبتون ولاءهم لها. وبغير شعور بأن يد الأمن من حيث المبدأ مطلقة اليد فى اتخاذ أية إجراءات، ولو كانت مخالفة تماما للقانون، وأنها لن تتلقى عقابا على اختراق القانون (مثلا استئجار بلطجية ومنحرفين وضرب المعارضين أمام أجهزة أمن صامتة)، سوف تواجه أجهزة الأمن صعوبات كبيرة فى فرض سيطرتها. ومن هنا فإن يد الأمن يجب ألا تكون خفية تماما، وإنما جزئيا فحسب، فهى تمارس عملها بشكل سرى، ولكن يدها يجب أن تظل محسوسة. ويُستكمل تحصين أجهزة الأمن بتعيين رئيس الجمهورية للنائب العام، وانعدام حصانة أعضاء النيابة العامة أمامه، حيث تنحصر فى يده سلطة التحقيق والإحالة إلى القضاء فى الجنايات.
غير أن أجهزة الأمن السياسى لا تعمل فحسب فى إدارة مناورات تحجيم المعارضة ومراقبة وتوجيه أجهزة الدولة العلنية، وإنما تمتد أصابعها لمجمل مؤسسات المجتمع المدنى. ومع قدم هذه الأجهزة وتزايد خبراتها، فإنها أصبحت طرفا أساسيا فى أنشطة هذا المجتمع، من خلال سماحها لشخصيات معينة بإصدار صحف "مستقلة"، وإثارة حملات عن الفساد أو غيره، وخلق أبطال معارضين، كلهم من التيار القومى العام، الذى هو كما أسلفنا عقيدة هذه الأجهزة ومبرر وجودها.
بهذا أصبحت أجهزة الأمن هى الأجهزة السياسية للنظام، وهى حزبه الحقيقى. فهى التى تراقب مؤسسات الدولة، وتواجه المعارضة، وتتحكم فى تشكيل المجالس المنتخبة، وتثير الحملات الصحفية، كل ذلك مباشرة أو باستخدام أجهزة أخرى رسمية. غير أن الفارق الخطير بين السيطرة الأمنية والحزبية أن النظام الأمنى خفى، لا تُعرف أسباب قراراته وتدخلاته فى كل موقع إلا على سبيل التخمين. وليس مسئولا إلا أمام رئيس الجمهورية. فالنظام يحكم بحزب سرى.
غير أن نشاط هذه الأجهزة فى إطار الازدواج الذى أشرت إليه لا يجرى بسلاسة ولا بغير مشاكل. والمشاكل لا تنبع من المعارضة بالذات، ولم تنشأ بسبب قيام الأحزاب، بل هى قديمة منذ أن تأسس هذا النظام. فالتدخل فى عمل أجهزة الدولة المدنية، بما فيها شرطة الأمن العام، يكون عادة مصحوبا باحتكاك. فأينما حل ضباط أمن الدولة، مثلا، تصبح لهم اليد العليا فى كل ما يتعلق بعملهم، بصرف النظر عن الرتبة والسن، وهى قيم عليا فى المجتمع المصرى. فملازم أمن الدولة حين يحل فى معسكر للشرطة، مثلا، تصبح له سلطة على مدير هذا المعسكر، ولو كان أعلى منه رتبة بدرجات. وممثل أمن الدولة فى الجامعات يكون على صلة مباشرة بمسئولى الجامعة، متخطيا آخرين أكبر منه سنا ومقاما. وقد بلغ بأحد ضباط أمن الدولة أن حاول منع قاض من دخول إحدى اللجان العامة فى الانتخابات النيابية الماضية، ومعه صندوقه، ولم يخرج من اللجنة إلا بتضامن القضاة المجتمعين واحتجاجهم واتصالهم بالوزراء ليأمروه بالخروج. مثل هذه الأمثلة توضح كيف يثير تدخل الأمن سخط وغضب العاملين فى الأجهزة الدستورية المدنية، سواء كان لدى الساخطين القدرة على الاحتجاج أم مضطرين لابتلاعه فى صمت.
وبصفة عامة فإن هذه الأجهزة، وخاصة أمن الدولة المنوط به تولى إجراءات القمع المباشرة، يضحى بها النظام على مذبح الإعلام من حين لآخر، لتفريغ نوبات الغضب، خاصة فى حالة وجود صراعات قصر داخلية. فتعبيرات مثل "دولة المخابرات" و"زوار الفجر" وغيرها صكها هيكل، لا المعارضة، سواء فى عهد عبد الناصر أو أوائل عهد السادات. وحين يتحدث رئيس الجمهورية عن الشرطة وغيرها، يتحدث أساسا عن دورها فى حفظ الأمن، وفى مواجهة الإرهاب، ولكن دورها السياسى لا يجئ ذكره ولا يتم الدفاع عنه. ولا شك أن مثل هذا الوضع الذى يجمع بين سلطة واسعة وانعدام الشرعية ضرورى، ليس فقط لحسن تسيير أجهزة الدولة المدنية، ولكن أيضا للحد من خطورة هذه الأجهزة على نظام الحكم نفسه. ولكن لا شك أن من بين آثاره شعور العاملين فى أجهزة القمع السياسى المباشر بأنهم ضحايا النظام، مُغتالين معنويا بشكل دائم، ومحملين بشحنة من الغضب مزودة بسلطة واسعة، من شأنها أن تزيد وضعهم على المستوى الشخصى تعقيدا (شاهد مثلا فيلم "البرئ" لعاطف الطيب).
وبرغم أن أجهزة الأمن مسئولة عن مراقبة حسن أداء الأجهزة المدنية لوظائفها، فإن وجودها فى الواقع مسئول عن جانب كبير من تردى أداء هذه الأجهزة. ويرجع هذا إلى أن تدخلها يضع اعتبارات الأمن قبل الكفاءة. بل أن اعتبار الكفاءة فى نظرها مجرد جانب من الاعتبارات الأمنية كما رأينا. كما أن دورها فى اتخاذ القرارات لأسباب تخصها، غير مفهومة لدى العاملين يخلق مسافة بينهم وبين وظائفهم تجعلهم يشعرون بأنهم مجرد أجراء وليسوا مشاركين ولا مسئولين. كما أن تولى المناصب العليا يراعى فيه الجانب الأمنى قبل الكفاءة، أو بجانبها على الأقل، بما يثيره ذلك من شعور بالظلم، أو على الأقل عدم الاعتبار تجاه المعينين.
فوق ذلك يتطلب هذا النمط من التنظيم السرى وضع السلطة فى أيدى عدد قليل للغاية من المسئولين المعينين من أعلى، بحيث لا يتم اتخاذ أى قرار لمواجهة أية مشكلة إلا بموافقتهم. ومن أشهر قواعد العمل فى البيروقراطية المصرية، بل ومؤسسات فى المجتمع المدنى: "أربط الحمار مطرح ما يحب صاحبه"، أى رئيسك. فالفضيلة الرئيسية هى السلبية: لا تفعل شيئا بلا أوامر، نفذ الأوامر ولو شفوية ومخالفة للقانون (مثلا لا تسلم معيدا وظيفته بغير أمر مباشر من رئيسك، ودعك من اللوائح والقوانين). لا تبتدع حلا لمشكلة، فربما يكون ترك المشكلة كما هى مطلوبا لأهداف أخرى لا تعلمها، وهكذا. فالموظف دائما فى وضع دفاعى، وممارسته لصلاحياته محفوف بالمخاطر: "تشتغل كتير تغلط كتير تتعاقب كتير. ما تشتغلش ما تغلطش ما تتعاقبش"!
(ب) الأصول التاريخية
ترجع نشأة هذا النظام إلى انقلاب يوليو. ليس لأنه انقلاب عسكرى، ولكن لأنه انقلاب من نوع خاص. فانقلابات الجنرالات "الرجعية" مثل كثير من انقلابات جنوب شرقى آسيا وبلدان أمريكا اللاتينية تكون أداة من أدوات تكتل اجتماعى/ سياسى يصفى سلطة أو تهديد تكتل اجتماعى/ سياسى آخر، وبالتالى فإنها تأتى إلى السلطة بقادة عسكريين مرتبطين بالفعل بمصالح وطبقات اجتماعية معينة. وبالتالى، كما يقول سامر سليمان، يكون وراؤها تحالف اجتماعى قوى يوجهها ويمثل أدواتها فى السيطرة على مجتمعاتها.
أما انقلاب يوليو، فأتى بمجموعة من الضباط المنعزلين عن أية قوى سياسية، فمن بين التنظيمات السياسية التى تكاثرت فى الجيش بعد الحرب العالمية الثانية، تميز تنظيم الضباط الأحرار بانفصاله عن كافة التنظيمات السياسية، برغم أن كثيرا من أعضائه، بما فيهم جمال عبد الناصر، كانوا فى فترة من الفترات أعضاء فى التنظيم السرى للإخوان. ولم تجمع بالتالى بين أعضاء التنظيم رؤية سياسية واحدة، وإنما رؤية وطنية عامة، استقوها من مختلف الاتجاهات الوطنية السلطوية القائمة على هامش الحياة السياسية البرلمانية: الإخوان، مصر الفتاة، الحزب الوطنى، ولكن دون التزام سياسى محدد برؤية أى منها. وقد تخلص تنظيم "الضباط الأحرار" ممن استمر ولاؤهم لتنظيمات سياسية أخرى، إخوان أو شيوعيين. كما تخلص من خالد محيى الدين جزئيا نظرا لأنه ظل مواليا جزئيا أيضا للفكرة الديمقراطية التى استقاها من عضويته فى "حدتو".
وهكذا آلت السلطة إلى حوالى عشرة ضباط، يقف وراءهم فى التنظيم حوالى 200 ضابط، بلا ظهير مدنى يوجه حركتهم أو يكون ذراعهم الممتدة داخل مؤسسات المجتمع وقواه. وكان الحل الوحيد الممكن (حيث صرف الضباط النظر عن تسليم الحكم إلى الوفد عبر انتخابات نيابية جديدة)، هو إخضاع مؤسسات الدولة من أعلى. فتحول الانقلاب الكبير الذى أزاح الملك وحل محله إلى انقلابات مصغرة فى كل مكان. وكانت الأداة الأولى فى هذا الصدد هى ما سُمى "مندوبى القيادة"، وهم من الضباط الأحرار من الصف الأول والثانى والثالث، أوفدوا إلى الإذاعة والوزارات والشرطة وغيرها بغرض "تطهيرها" من كل العناصر المناوئة، أو التى قد تكون مناوئة، لهم، مع التخلص من بعض ذوى السمعة السيئة فى محاولة لإكساب عملهم مشروعية عملية (أعرف شخصا تزوج آنذاك لينجو من التطهير، لأنه كان تطهيرا أخلاقيا أيضا على النمط الإخوانى!). ومن خلال ما سُمى "لجان التطهير" هذه أحكم الضباط قبضتهم من أعلى على المؤسسات، ووجهوها لصالح "تأمين الثورة"، وخلقوا بذلك الازدواج الذى ناقشناه من قبل.
وحتى عام 1964، جمع الضباط، ثم عبد الناصر وحده، سلطة التشريع والتنفيذ فى أيديهم، حيث بلغ مجموع فترات انعقاد المجالس النيابية التى أنشأوها تحت الوصاية حتى ذلك التاريخ 12 شهرا لا غير، تم أيضا تخطيهم فى التشريع أثناءها. ويُستفاد من ذلك أن الضباط وأعوانهم اتسع لهم الوقت لما يقرب من 12 سنة ليغيروا ويبدلوا فى التشريعات، وأولها الدساتير، بإرادتهم المنفردة، بما يتيح لهم إخضاع مؤسسات الدولة لنظامهم الجديد، ومحاصرتها قانونيا بما يكفل لهم عقد برلمان يتصرف فى حدود معينة تضمن استمرار "الثورة"، ممثلة فى سلطة الضباط. وهكذا تم إخضاع الصحافة والإعلام والجمعيات الأهلية والنقابات والوزارات لسلطة مجموعة محدودة تتخذ قراراتها بشكل سرى.
وانعكس ذلك حتى على الفن، فبينما دوت أغانى عبد الحليم المسماة وطنية تمجد النظام وسياساته وتعبئ الشعب فى مقاعد المتفرجين المصفقين، عبرت أغانيه، وأغانى غيره، العاطفية عن مزيج العجز وقلة الحيلة (وهو أمر لفت انتباهى إليه أحد النقاد). ولعل أغنية "جبار" تلخص الوضع السياسى بالنسبة للجمهور فى تلك الفترة أكثر من الأغانى التى كتبها صلاح جاهين.
وقد حاول النظام فى البداية أن يصنع "قاعدة شعبية" مؤمنة بسياساته، فخلق ما سماه "الأجهزة السياسية" التى تقوم بما سماه "العمل السياسى" (أى نوع من "العمل الوطنى" – وكل هذه مصطلحات الفترة التى ما زالت سارية حتى الآن – مثل "العمل التنفيذى" والتى تعبر عن تحويل السياسة إلى أحد فروع ممارسة السلطة الأمنية) الذى حل محل ممارسة السياسة. غير أن هذه "الأجهزة" كانت أيضا مخترقة أمنيا ومنزوعة السلطة، حيث انحصرت فى دور الوسيط الذى ينقل شكاوى "الشعب" "للقيادة السياسية" (والتعبير الأخير أيضا من مصطلحات الفترة التى يتعين التخلص منها). ولم يكن تنظيم "طليعة الاشتراكيين" السرى أفضل، سوى أنه يرفع تقاريره بشكل سرى.
أما أكثر المحاولات جدية فهى إقامة "منظمة الشباب"، أملا فى خلق كوادر سياسية مفكرة مؤمنة بالنظام، بتربيتها منذ صغرها على الولاء الذى يتجاوز معنى طاعة الأوامر. غير أن هذا الجهاز بدوره كان يمارس "نشاطه الجماهيرى" بالتعاون مع الشرطة فى كثير من الأحيان. وبرغم ذلك فإنه بسبب تربيته العقائدية سرعان ما ارتفع صوت كثير من أعضائه بعد هزيمة 1967 مطالبين بالديمقراطية برغم استمرار ولائهم لعبد الناصر. والسبب فى ذلك أن العناصر المسيسة إذا أخذت تسييسها بشكل جدى وصدقت شعارات النظام عن سلطة "تحالف قوى الشعب العامل"، تميل بالضرورة لأن تمارس نشاطها فى جو سياسى، لا أمنى. أضف إلى ذلك مقاومة "مراكز القوى" المختلفة، أى الشِلل التى تحكم البلاد، لوجود جهاز تعبوى غير أمنى. وفى مواجهة المظاهرات، ومشاركة بعض عناصر منظمة الشباب فيها، أنشأ عبد الناصر عام 1968 جهاز الأمن المركزى، ليكون جهازه السياسى فى الشارع، وما زال يقوم بدوره "مشكورا" حتى الآن.
وقد ترتب على فشل هذه التجربة أن أضيف إلى الرسوب التعبوى للنظام رسوبا إيديولوجيا، أخذ يتفاقم. ورسخ هذا الرسوب اعتماد معايير الجهل واللا مبالاة بالسياسة فى اختيار المرشحين فى الأجهزة المهمة والوظائف العليا. وهو ما أكد قيام الجهاز الإدارى على معايير الطاعة، لا القانون.
برغم هذا الفشل أخذ النظام مع رسوخ سلطته يكسب مؤسسات الدولة المدنية تدريجيا طابعا مدنيا، فلم يعد الضباط يحكمونها مباشرة إلا فيما ندر. وحتى الاستعانة بالعسكريين فى المناصب تأتى فى إطار حفظ حقوق الجيش فى النظام الذى أقامه، وليس بناء على حكم عسكرى مباشر. ولما كانت جميع المناصب خارج الدائرة السرية الضيقة لمتخذى القرار "تنفيذية"، بالمعنى الحرفى للكلمة، أى تنفذ ما يُطلق عليه "توجيهات" أو "أوامر عليا"، أصبحت الوزارات تتشكل من متخصصين فى مجالاتهم: أطباء لوزارة الصحة، مهندسين للإسكان والتعمير، الخ، بدلا من الوزارات التى كانت تشكل من ضباط الجيش أساسا فى أوائل عهد النظام. فهم وزراء فنيون، وليسوا سياسيين، عليهم السهر على تنفيذ سياسة ليسوا واضعيها، وإن كان يجب أن يوافقوا عليها لكى ينفذوها بشكل جيد. وتتمثل الضمانة فى اختيارهم وفقا للتقارير الأمنية التى تدرس ميولهم وعلاقاتهم، وتتمثل فى المقام الأول فى إمكانية عزلهم فرادى وجماعة فى أى لحظة.
برغم كل شىء فإن طموح الضباط كان إقامة نظام مستقر، تشارك فيها بدرجات مختلفة قوى مختلفة. وقد انتهى ذلك بإعلان السادات عن نهاية "الشرعية الثورية"، والتحول إلى دولة "سيادة القانون"، أو "الشرعية القانونية أو الدستورية". فبدلا من الحكم بغير برلمان أصبح البرلمان دائم الانعقاد، وبدلا من إهدار القوانين صراحة يتم احترام أحكام المحكمة الدستورية العليا و"الصبر عليها". وتطلب هذا مهارات أكبر فى صياغة القوانين، فيما أشارت إليه الصحف مرارا بظاهرة "ترزية القوانين"، لتناسب هذا الخليط من حكم القانون والتدخل الفوقى لأهداف أمنية. وباختصار فإن النظام عاجز عن التخلى عن أصوله الانقلابية، فهو مضطر لأن يحتفظ لـ"حزبه" الأمنى بحق الانقلابات المصغرة فى كل مجال كما أوضح الجزء الأول من المقال، ولكنه فى نفس الوقت عاجز عن إعادة الحكم الأمنى المباشر لمؤسسات الدولة.
غير أن محاولة تقنين النظام لها حدودها، لأنك لا تستطيع أن تضع نصا يقول بأنه إذا اعتُبر شخص من الأشخاص خطرا، دُبرت له فضيحة معنوية أو ورطة قانونية. ليس فقط لأن نصا كهذا فضيحة قانونية، ولكن أيضا لأنه يصعب تقنين الانقلابات المصغرة أصلا، لأنها بطبيعتها تعتمد على تقدير الظروف المتغيرة. بل أن نصوص القانون القائمة نفسها تمارَس بشكل انتقائى، فيُسمح بمظاهرات معينة لم تحصل على تصاريح وفقا للقانون، ويُقبض أحيانا على البعض ثم يُفرَج عنهم، ويُسمح أحيانا لتيارات معينة بالحركة بين الطلاب لمواجهة تيارات أخرى، وهكذا، وهى قرارات فى جوهرها سياسية لا يمكن ضبطها قانونيا.
(ج) فرص النضال الديمقراطى الجذرى
تشكل الصلة بين مؤسسات الدولة العلنية المدنية ومؤسسة النظام السياسية السرية كلا من محور ارتكاز النظام ونقطة ضعفه. الجانب الأول اتضحت خطوطه العريضة فى القسمين السابقين. ويبقى أن نرى كيف تشكل هذه الصلة نقطة ضعف النظام. ولكن بصفة عامة فإن محور ارتكاز أية منظومة هو بطبيعة الحال نقطة ضعفها، لما يتراكم عليه من ضغوط وما يوظف فيه من قوى.
أبسط جوانب ضعف هذه النقطة، وهو نفسه مصدر قوتها (:حكم الإرهاب)، هو خفاء هذه الصلة. فهى بطبيعتها صلة "غير مشروعة" من الناحية الإيديولوجية والقانونية، فالنظام لم يكف منذ 1956 عن القول بأنه نظام ديمقراطى، وإن كانت ديمقراطيته ذات طبيعة خاصة، وأن "الشعب" هو الذى يحكم. فحكم أجهزة الأمن يعانى من فقر إيديولوجى شديد، ولا يرد له ذكر فى الدستور، ولا تكاد تسنده سوى الشعارات الوطنية العامة التى تحيل إليه ضمنا، ودعاوى "الدولة القوية" التى يروج لها الناصريون والقوميون وأشباههم. ولذا يبدو أن من مصلحة القوى الديمقراطية عموما أن تُظهر هذه الأجهزة وأعمالها، فى كل موقع، إلى العلن، وتناقش مفاهيمها عن "المصلحة الوطنية"، و"حماية الجبهة الداخلية"، و"الاستقرار"، و"التنمية"، وما إلى ذلك.
لا شك أن تحكم أجهزة الأمن واقع يعرفه الجميع، من سائقى الميكروباص وحتى الوزراء، ولكنه ظل لفترة طويلة لا يناقش فى تفاصيل عمله فى كل موقع، بينما تركز قوى المعارضة على جانب واحد من عمله هذا، وهو قمع قوى المعارضة نفسها، بينما هذا فى الواقع عمل تكميلى، وإن يكن مهما للغاية، فى نظام سيطرة شامل على مؤسسات الدولة العلنية كما رأينا. وهناك تراكم هائل من كل من التجنيد والسخط فى مختلف مؤسسات الدولة. فالتجنيد هو استثمارات الأجهزة الأمنية وفقا لتصوراتها الشاملة عما يعتبر "أمنا قوميا"، بينما السخط على الانتهاكات المصاحبة لهذا التجنيد هو الجانب المقابل الضرورى لهذا العمل.
غير أن استثمار السخط من أجل قضية الديمقراطية ليس مجرد عمل بسيط يتصل بما يمكن أن يسمى "الفضح". وإنما يتطلب الأمر رؤية إصلاحية دقيقة فى كل موقع على حدة، تربط بين قضية الديمقراطية، أى نزع قبضة الأمن، وتحسين كفاءة هذه المؤسسات وإقالتها من عثراتها فى نفس الوقت. وبعبارة أخرى، فإنه يجب مساءلة أجهزة الأمن الحاكمة ليس فقط عن قمعها، ولكن عن سوء الإدارة والفشل الملازم لسيطرتها، وهو ما يتطلب رؤية بديلة تربط بين الكفاءة والديمقراطية.
والواقع أن أحد أهم الجوانب غير المعلنة لقوة الهيمنة الأمنية، هو ما يرافقها من سلطة الرجل الواحد على المؤسسات العلنية، المصحوب بالقول بأن هذا النظام يحقق الكفاءة لأنه لا يهدف سوى للصالح العام، ويواجه، من خلال الأساليب الإدارية/ البوليسية، المصالح المتنازعة التى تدمر هذا الصالح العام. وبهذا المنطق تستثمر هذه السلطة ما تفرزه من سخط، أسبابه مادية وإدارية، وشيوع النزعة السلبية التى ناقشناها، لتستخلص منه ضرورة استمرار سيطرتها لحمل هذه المؤسسات على أداء عملها وتحسينه. وعلى سبيل المثال مشروع تطوير التعليم الجامعى من أعلى، ومحاولة حمل الأساتذة على تحسين مستواهم كمدرسين من خلال دورات تدريبية، واعتبار مقاومة الإصلاح من أعلى دليلا فى حد ذاته على ضرورة القبضة الإدارية المركزية لتحقيق الإصلاح. فى حين أن هذا الإصلاح المزعوم يتجاهل فى الحقيقة المصائب الكبرى التى تحوط التعليم الجامعى، والتى يطول شرحها ولا مجال لتناولها هنا. ولكن يستطيع كل قارئ أن يجد أمثلة شبيهة فى المجالات التى يحتك بها مباشرة().
وتتمثل أحد أهم مبررات الإخصاء السياسى للمجتمع فى مبدأ العدالة. فبرغم تزايد الفوارق بين الطبقات بشكل شاسع، فإن الدولة ما زالت تقدم دعما هائلا للطبقة الوسطى بالذات. ويعتبر هذا الدعم بقايا سياسة النظام التى قامت على جعل العمل السياسى مرتبطا بالمصالح الفئوية والنوعية والشخصية، من خلال الخدمات التى قدمتها التنظيمات السياسية للنظام بدءا من هيئة التحرير وحتى الحزب الوطنى، والتى لخصها شعار عبد الناصر: "السياسة هى معرفة مشاكل الجماهير وحلها". وهكذا حصل النظام على تأييد مقابل خدمات متنوعة سُميت "مكاسب الشعب" ثم "المكاسب الاشتراكية"، وأخيرا اعتبارات "العدالة الاجتماعية". وبناء عليها تم تجريد المنظمات المنتخبة عموما من الطابع السياسى، لتتحول إلى مؤسسات تشتغل فى الوساطة فى المطالب الفئوية، سواء كانت نقابات أو مجالس محلية أو نيابية.
وكما أشار سامر سليمان فى مقال سابق فى "البوصلة"، تقل قدرة النظام تدريجيا على الوفاء بهذه المطالب، أى تقديم الرشاوى من المال العام مقابل، لا نقول التأييد، ولكن "الصمت".
وتتمثل الآلية الأخيرة فى التعتيم على المعلومات، وسيادة روح المناقشات الإيديولوجية حول ما يسمى "الإصلاح". فغياب المناقشات الجادة حول ما يجب إصلاحه، وعدم تبلور تيارات إصلاحية متعددة متميزة فى رؤيتها، المبنية على علم بما يجب إصلاحه وكيف، يجعلان للنظام اليد العليا فى النهاية، بقدر ما ينجح بذلك فى احتكار رؤية كلية للوضع العام ورؤية تفصيلية للموقف فى كل مؤسسة وكل قطاع وكل نشاط. فطالما ظلت المناقشات السياسية تدور حول الوضع المثالى وتتناول الواقع بشعارات عامة، من قبيل الإسلام هو الحل، أو الاستقرار من أجل الاستمرار، أو الديمقراطية، أو الاشتراكية، ستظل الحياة السياسية على هامش الحياة الفعلية للناس، وبالتالى سينصرفون عنها طال الوقت أم قصر.
وتعمل هذه الآليات جميعا على تغطية التحكم الأمنى بإشاعة روح اليأس من أى تغيير يأتى من خارج النظام. فـ"الإصلاح من الداخل" هو الورقة الإيديولوجية الأخيرة المتاحة له. وتقوم عقيدة أنصار هذا الإصلاح من الداخل ضمنا على فكرة أن جهاز الدولة وحده هو الذى يمتلك الصورة كاملة، وهو الذى يحتوى أكبر عدد من الكفاءات والقدرة الأعلى على التنظيم، وهو الذى يستطيع أن يتجاوز انهيار المجتمع نفسه، الذى ساد فيه الفساد، بل وأن يتجاوز بتعيينات مناسبة فساد جهاز الدولة نفسه. وهذا ما يفسر نجاح "لجنة السياسات" فى جذب أفراد مشهود لهم بالكفاءة والجدية.
وبالتالى فإن مواجهة مخططات تحوير الهيمنة الأمنية بدعاوى الإصلاح يتطلب الاعتماد على قوى المجتمع الحية نفسها فى كل موقع: مواجهة هيمنة الأجهزة الأمنية وفى نفس الوقت مواجهة مخططات الإصلاح من أعلى المثيرة للسخط فى كل موقع، ومحاولة إشراك المعنيين أنفسهم فى تصور ما يتطلبه إصلاح جذرى فى كل مؤسسة وكل نشاط. فإذا تحقق ذلك يمكن أن يتطور تسييس حقيقى تتميز فيه الآراء وتُفرز فيه الصفوف بين المنادين بالتغيير من أعلى والمنادين بالتغيير من أسفل على اختلاف رؤاهم، ليحل محل التسييس المزيف الذى يجريه النظام تحت شعارات الوطنية. بغير ذلك لن تُخصم الكفاءات والمعرفة التى راكمتها كوادر المجتمع المتميزة من خانة الاستبداد لتوضع فى خانة الديمقراطية.
وبهذا المعنى فإن العمل فى المؤسسات النوعية، وبهدف إبراز التمايز بين معسكرى التغيير من أعلى ومن أسفل بالدرجة الأولى، وعلى أساس إثارة قضايا واضحة حول مشروعات التغيير وآلياتها، يعتبر ضرورة لا تقل أهمية عن مواجهة تحديات الأمن فى حد ذاتها، ومكملة لها، ومُكسبة للمشروعية الحقيقية فى الصراع. وليس صدفة أن من جنوا حصاد البوادر التحررية الأولى، على الأقل باتساع نشاطهم وتأثيرهم، لم تكن الأحزاب ذات الادعاءات العريضة والشعارات الكبرى، ولكن القوى الاجتماعية المنظمة التى لا غنى للنظام عنها: القضاة، المهندسون، أساتذة الجامعات، وغيرهم. فالعمل من داخل المؤسسات يُكسب المناضلين قوة نظرا لأن خلعهم، فى ظل شيوع أفكار الديمقراطية، يصبح أكثر صعوبة، وتزداد صعوبة ذلك مع تبلور مشروعات التغيير المحددة. غير أن هذا التبلور لا يمكن أن يتحقق بالتأملات فى فضاء الفكر السياسى، وإنما من خلال النشطين أنفسهم الذين هم أدرى دائما بشعاب مؤسساتهم وإمكانيات إصلاحها وكيفية تحقيق ذلك. فبفضلهم وحدهم يمكن أن يتم التغلب على احتكار النظام للمعلومات، وطرح رؤى بديلة بشأن العدالة الاجتماعية، ومطاردة الهيمنة الأمنية.
ويتمثل المناخ المواتى لهذا التحول فى الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة، وحاجة النظام الملحة لتوفير حد أدنى من الحريات وتقليل هيمنة الجهاز الأمنى على القطاع الاقتصادى على الأقل، لكى تنتشل الاستثمارات الخارجية والداخلية البلاد من مأزقها الاقتصادى الصعب. كما يتمثل رافد آخر فى السهولة النسبية فى الحصول على تمويل خارجى لمشروعات إصلاح محددة. والأهم من ذلك أيضا مواصلة الضغط على محور ارتكاز النظام، أى فصل الجهاز الأمنى عن مؤسسات الدولة، لأنه ببساطة لا يستطيع أن يحكم بغير هذه الصلة.
خاتمة
فى التحليل الأخير تعتمد سيادة إيديولوجية الأجهزة الأمنية على إيديولوجيا رجعية قديمة للغاية.. هى تلك التى تعتبر الإنسان منحرفا أساسا، ومتهما حتى تثبت براءته. فهذا هو ما يبرر تدخل الأجهزة الأمنية لتحقيق العدالة، من خلال سطوة الجهاز البيروقراطى وتعقيده. وهى نفس الإيديولوجيا التى تبرر كل سلطوية. نعم تتغنى الأجهزة بالشعب العظيم، ولكنها دائما ما تشيع الخوف والقلق وعدم الثقة فى كل ما هو غير حكومى.
بالمقابل يجب أن تكون نظرة أى إصلاح ديمقراطى مختلفة جذريا. فالناس بالفعل تحب العمل والنشاط والتحقق والإبداع، ليس الإبداع الفنى والأدبى، بل الإبداع اللذيذ الذى يرافق كل عمل إنسانى حر ومرهق (متعوب فيه)، كحل مشكلة ما مهما كانت صغيرة، ولو كانت إصلاح كرسى مكسور. الناس تحب أن تشعر بشخصيتها فاعلة مؤثرة. ربما لهذا يحب الناس عندنا المشروعات الصغيرة التى تمنحهم إحساسا، ولو محدودا، بحرية ما. ليس فى مستطاع عمل جماعى ما أن ينجح ما لم يتح مجالا لشخصيات الأفراد أن تتنفس. ليست الفردية والتعاون متناقضين، وإنما الفردية المقهورة هى العاجزة عن احترام غيرها من الأفراد، ناهيك عن التعاون معهم. وفى ظل القهر المعمم لا تحقق الأعمال الجماعية سوى نجاحات محدودة تعتمد على قوة القهر الإدارى. فى زمن مضى كانت الناصرية تعوض عن ذلك بأحلام كبرى، يتحمل الأفراد القهر فى مقابل تحققها (الذى لم يحدث). ولكنى حتى هذا سقط. فالنظام أصبح فاقدا للجاذبية والاعتبار، لدى الطبقة الوسطى على الأقل.
إذا صرفنا النظر مؤقتا عن البديل الديمقراطى، لا يكاد يوجد بديل آخر سوى عسكرة شاملة للمجتمع. أن يتولى الجيش بنفسه ومباشرة (ليس مثلما كان الحال عليه فى ظل نظام يوليو)، إدارة البلاد، مستعينا بما بناه من كوادر متخصصة من المهنيين العسكريين (فهو من هذه الزاوية مختلف تماما عن جيش يوليو 1952). غير أن هذا سيكون انقلابا عنيفا فى مسار الدولة لا يقل صعوبة عن التحول الديمقراطى. وليس عجيبا أن الأصوات ترتفع الآن، حتى فى البرلمان، تطلب بزيادة العسكرة، مثل المطالبة برئيس وزراء، أو نائب رئيس جمهورية، عسكرى. ولكن هذا المشروع يحتاج إلى ما هو أكثر بكثير من تغيير رئيس الوزراء، يحتاج إلى أن يصبح الجيش حزبا عسكريا على النمط التركى (وهو بالمناسبة نمط أكثر تقدما من نمط انقلاب يوليو، برغم الشعارات "التقدمية" للأخير).
الخلاصة أن مواجهة الوضع الراهن، أو ذلك البديل المخيف، لا يكون بالشعارات الإيديولوجية عن الحرية، وإنما بإطلاق قوى التحرر من أسفل، من خلال الحركة المستقلة للفئات الاجتماعية المعنية، العمال والطبقة الوسطى. وليس بالتنابز الإيديولوجى بالألقاب مع النظام، بتهم العمالة والخيانة والفساد وغيرها، وإنما بإشاعة روح التعاون والفردية والنضال المشترك وفقا لمثل إنسانية ديمقراطية.
هذه أفكار أولية حول طبيعة الاستراتيجية التى تتفق بأفضل شكل مع هدف مواجهة نمط الاستبداد الذى نعيش فى "ظلاله".
صوت ديمقراطي جذري
1.6.06
تنظيم الدولة وفرص اليسار الديمقراطى
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment