صوت ديمقراطي جذري

29.8.06

الفردية تغلب على جيل التسعينات من الفنانين


داليا شمس


جيل فناني التسعينات يعبر في أعماله عن تجربته الفردية الحميمية، وهو يحاول الانعتاق من سيطرة السلطة أو من سطوة "المهام القومية الكبرى". جيل استفاد من التمويل الأجنبي للمنتج الثقافي. ولكن تظل أعماله نخبوية حتى لو وجهت أنظارها إلى الشارع. جيل لا زال يتخبط في طريقه، لكن غالباً ما سيسفر تخبطه عن شيء، كما ترى داليا شمس.

جيل التسعينات من الفنانين يمكن تشبيهه بحبات " الفشار" التي تنطلق غير آبهة بضيق الوعاء. ثمة تعارض الآن بين الثقافة "الشابة" والسلطة اكثر من أي وقت مضي. لم يعد الحس القومي عاملاً موحداً، كما لم يعد بإمكانه إسكات الصيحات الفردية. فإذا كان هدف كل سلطة هو الحفاظ على الاستقرار وضبط الأمور, وإذا كان هدف الثقافة هو مواكبة الحياة في تدفقها وتغيرها فان التعارض بين الثقافة والسلطة إنما يندرج تحت إطار الاعتيادي. إذا أخذنا في الحسبان تحول الثقافة إلى ساحة نزال إيديولوجي في النظام العالمي الجديد وأيضاً تلمس الفرص نحو التغيير الديمقراطي في عالمنا العربي المعاصر لوجدنا أنفسنا ثقافيا إمام حالات سياقات غير متجانسة تنم كلها علي وجود محاولات حثيثة من اجل تحقيق التجربة الفردية والتحرر السياسي في آن واحد .
سيطرة السلطة على الثقافة في مصر ليس بالشيء الجديد. فهو الأمر الذي بدأ منذ عام 1956 حين قام النظام بكبح جماح الحركة الثقافية من خلال مؤسسات سعت إلى حشد المثقفين وإحكام السيطرة عليهم. وبوصول مبارك إلى السلطة عام 1981 سعي إلى إعادة التحالف مع المثقفين، الذين خسرهم السادات، بهدف اكتساب شرعية سياسية. وقد تطور هذا التحالف في مطلع التسعينات، في ظل انهيار الكتلة الاشتراكية واندلاع حرب الخليج وكذا اشتداد الهجمة الإسلامية، فحدث نوع من إعادة تشكيل الحقل الثقافي المصري لمجابهة الإسلاميين، وكان علي النظام مثلا استقطاب اكبر عدد ممكن من المثقفين اليساريين. ونجحت وزارة الثقافة إلى حد بعيد في مهمة الاستمالة تلك.
ولكن الأمر مختلف الآن. فخلال التسعينات كانت قد ظهرت أعمال بعض الفنانين من الجيل الجديد، يشجعها دعم المبادرات الخاصة المتنامية، ووسائل الاتصالات الحديثة. فمنذ نهاية التسعينات اصبح هنالك ما يسمي بمراكز الثقافة البديلة كجاليري تاون هاوس ثم مركز الساقية ثم مسرح الجنينة الذي تديره مؤسسة المورد الثقافي الخ... واجتذبت هذه المراكز مصادر الدعم المادي فلم تعد المنح الأجنبية توجه إلى المؤسسات الرسمية كذي قبل، ولذا كان من الطبيعي أن ينتقد مسؤول أحد المراكز التابعة للدولة عدم حصوله علي الدعم المادي الذي كان يشكل 30% من موارده بين 1976 و1995 . فالسفارة الهولندية أو السويسرية علي سبيل المثال لا الحصر وكذا القطاع الخاص المصري اصبحوا يفضلون مراكز الثقافة البديلة ويشجعونها.

صراع أجيال؟
الصراع الثقافي في مصر لا يتأتى فقط علي هيئة صراع بين تيار حداثي عولمي وآخر قومي يركز علي الهوية أو بين ثقافة رسمية وأخرى غير رسمية ولكنه يأخذ أيضا طابع صراع بين الأجيال ... فهناك جيل تشكل بالقرب من السلطة يدافع عن مكانته وإنجازاته أمام جيل يطلق عليه غالبا جيل التسعينات الذي يحاول الخروج من عباءة الكبار وتولي زمام الأمور علي طريقته. جيل التسعينات ولد بعضه في الستينات والبعض الأخر في السبعينات وينتمي في السواد الأعظم إلى الطبقة الوسطي.
بالنسبة لهؤلاء المجتمع المدني ليس مساوياً لمفهوم " الجماهير" في الخطاب الاشتراكي العربي السابق وهم لا يسعون إلى الانخراط في المجال السياسي للقيام بدور إيجابي كما هو الحال بالنسبة لجيل الكاتب المثقف محمود أمين العالم على سبيل المثال. ولكن ربما تنصب مهمة المثقف لديهم علي فك الاشتباك بين الحقل الثقافي والسياسة العربية بكل أنماطها وعلي تأسيس حقل ثقافي مستقل عنها ومناهض لها بشكل أو بأخر حتى لو بمجرد التمرد علي رموزها. فجملة " حذاري فنحن علي مفترق طرق " التي كان يرددها أحد المخرجين الشبان علي سبيل السخرية من الخطاب القومي هي بالفعل وصف لحالة جيله المتأرجح بين العام والفردي بطريقة شائكة مع وجود إحساس عام بضرورة تجاوز الميراث الناصري في الفن.
يحاول بعض مثقفي جيل التسعينات تطوير أساليب العمل المدني بعيداً عن الأحزاب والنقابات، فيشرعون في تأسيس جماعات ذات أهداف ثقافية معينة لخدمة اتجاهاتهم، منها مثلا جماعة السينما المستقلة . فتعبير السينما المستقلة شاع بشكل غير مسبوق في وسائل الأعلام والأوساط الثقافية في عام 2003، وصدرت أول مجلة تعني بشؤون السينما المستقلة ألا وهي " نظرة ". تعالج هذه المجلة التجارب السينمائية المختلفة العالمية والمحلية في الهند وإيران ومصر علي سبيل المثال، تلك التجارب التي تسعي لتحرير الفن السينمائي من قبضة واحتكار السينما السائدة بمعاييرها التجارية النمطية.


دور تكنولوجيا
وقد ساعدت التكنولوجيا الجديدة في ظهور تجارب جديدة لجيل التسعينات. لقد أعطت الكاميرات الرقمية الجديدة الفنانين مزيداً من الحرية في خوض تجاربهم الخاصة إلى النهاية. فقد اصبح بإمكان الشخص العادي أن يصنع سينما قليلة التكلفة بفضل كاميرات الديجيتال التي يعود تاريخ انطلاقها إلى عام 1998، حيث أن تصوير ساعة واحدة علي شريط فيديو ديجيتال يتكلف حوالي 5 دولارات بينما يتكلف حوالي 4 آلاف دولار ويزيد لو تم التصوير بكاميرا 35 مللي. وبالطبع تفرض الأداة الجديدة لغة بصرية وسمعية مختلفة، فظهرت التجارب السينمائية التي تتسم بالحميمة والنظر بقسوة وخشونة للواقع. وهنا بزغت أسماء بعض الشباب بالفيديو أرت كحسن خان.
ولد هذا الفنان الذي في القاهرة عام 1975 ودرس الأدب الإنجليزي والمقارن بالجامعة الأمريكية، وينتمي إلى نوع من الثقافة المضادة يظل منتجها على الهامش. وكما هو الحال في أوروبا تتجاور هذه الثقافات مع الثقافة المؤسسية وتصبح أسلوب حياة علي المدى البعيد، وبالتالي تحدث نوعاً من التأثير التراكمي البطيء لدي الناس حتى لو كان رد فعلهم الأول هو الرفض. فخلال بينالي القاهرة التاسع والأخير عام 2003 عرض حسن خان علي سبيل المثال فيلم " طبلة ضب " في الجراج المجاور لجاليري تاون هاوس ( بوسط المدينة) هذا الجاليري الذي نظم أنشطة مكثفة موازية للأنشطة الرسمية المعلنة من قبل منظمي البينالي. اتضح جليا خلال تلك التظاهرة تجاور الثقافة المضادة والثقافة المؤسسية، كما لاحظنا تواجد العديد من فناني التسعينات في الأنشطة الموازية للبينالي في تاون هاوس والساقية، وكانوا يشككون في المفاهيم الرسمية ويسخرون منها. وهنا يجدر بنا الذكر أن هؤلاء الشباب خرجوا في معظمهم من عباءة المؤسسة الرسمية من خلال صالون الشباب والبينالي الخ، ولكن سرعان ما انقلبوا عليها في ظل التحول الثقافي والسياسي الذي لحق بالمجتمع المصري في النصف الثاني من التسعينات بصفة خاصة. ففي أعمال هؤلاء الشباب نجد الثقافة العولمية متضافرة بإحكام مع الظرف المحلي من خلال موضوعات غارقة في الخصوصية والمحلية بل والشخصية الحميمية أيضا، نحن إذن بصدد ثقافة اكثر فردية متأثرة دون شك بالغرب، لا يزعجها ان يقدم الفولكلور المصري بتمويل من مؤسسة كفورد فوندتشين طالما أن يسمح لها ذلك بالتواجد دون اللجوء إلى مسالك الحكومة. فهل نلومهم علي قبول الدعم الأجنبي للوصول إلى جمهور أوسع أم نلوم حكومتنا التي تطبق غالبا سياسة ثقافية عشوائية؟
ربما تفتقد تلك الثقافة العولمية للقاعدة الشعبية، فغالبا يصاحبها خطاب متخصص مرتبط بالوسائل الاتصالية الحديثة، وهي تظل نخبوية، منحدرة من دوائر مبهمة ومتباعدة. إلا أن أصحابها لا يشعرون بعزلة فعلية لأنهم مرتبطون بأخريين مثلهم من خلال virtual community أو جماعة افتراضية منتشرة في أرجاء العالم . لذا فبالرغم من بعد فنانين تشكيليين أمثال معتز نصر ووائل شوقي وشادي النشوق (الذين لمعت أسماءهم مؤخرا) عن رجل الشارع أو عن الجمهور المحلي، فهم يحصدون الجوائز خلال البيناليات العالمية ويعرضون أعمالهم في الخارج من خلال معرض كـ Africa Remix الذي أقيم مؤخرا في فرنسا أو معرض Contemporary Arab Representations and Dis-orientation الذي اقيم في بيت ثقافات العالم . فالكثير منهم يرتبط بمروجينcurators يسوقون أعمالهم في الخارج، خاصة في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي زادت من الاهتمام بهذه المنطقة من العالم.
وللتدليل علي الطبيعة النخبوية لتلك الأعمال يمكننا الرجوع إلي مثال " طبلة ضب " لحسن خان، والذي أشرنا له سابقا. فلدي عرضه في الجراج المجاور لتاون هاوس كانت القاعة التي تعج بالناس شبيهة بأماكن عدة في كثير من العواصم الأوروبية. وتنوع الجمهور بين شباب مرتبط بالحداثة وأفراد عاديين من أبناء الحي الذين كانوا يتسللون من وقت إلى آخر داخل المكان بدافع حب الاستطلاع . ملابس بعضهم الشعبية تشبه هؤلاء الأشخاص اللذين ظهروا علي شاشة العرض الكبيرة ، ففيديو حسن خان كمعظم أعماله يتناول حياة القاهرة الصاخبة بأفرادها وتناقضاتها وإيقاعها اللاهث والمتهدج ، روح العمل مصرية ولكنها آتية من بعيد ربما من آتون حضارة أخرى ينظر إليها المتلقي العادي بدهشة لا تخلو ربما من الإعجاب والاستغراب أو عدم الفهم . ما الذي يريد قوله هؤلاء الفنانين عندما يتحدث شادي النشوقاتي عن ذاكرته الدمياطية أو وائل شوقي عن ثقافة البترول أو معتز نصر عن علاقة الرجل بالمرأة من خلال نموذج والديه ؟ إنهم يريدون التعبير عن تجارب فردية لهم.
فتداخل الثقافات ذات الطابع الكولونيالي العالمي والثقافات المحلية يخلق نوع من الصراع والمقاومة ومشكلات التكيف والتكامل كما يشير عالم الاجتماع د/ احمد زايد لدي تعرضه لتناقضات الحداثة في مصر . فهنالك مغالاة شديدة في الدعوة للتنوير والانفتاح علي العالم وفي مقابلها مغالاة شديدة في الانكفاء علي الماضي والخوف من ما هو جديد. فالمتلقي المصري ما هو إلا نتاج طبيعي للتجربة السياسية والاجتماعية التي اتسمت بالحذر الشديد تجاه كل ما هو غريب عن الأفكار الراسخة . ولكن أثناء تصفح مطبوعة تماس التي تصدر بتمويل أوروبي في إطار مشروع " تصويرات عربية معاصرة " يقع نظرنا من جديد علي صورة التقطتها رندا شعث لمظاهرة ميدان التحرير في اليوم الأول من الحرب علي العراق يوم 20 مارس 2003 . الصورة تأتى في سياق طبيعي ، وجودها في تلك المطبوعة لا يصدم بل يربطنا مجددا بعام 2003 الذي تكرر ذكراه مرات عديدة في ما سبق . فهؤلاء الفنانين في النهاية يعودون للتواصل مع المجتمع، وحقبة عدم اليقين التي تحدث عنها روبرت ستون في كتاباته منذ الستينات مستمرة ولكن الالتباس والارتباك الحالي غالبا ما سيتمخض عن شئ.

No comments: