صوت ديمقراطي جذري

1.6.06

مع القطاع العام رغم كل شيء


محمد البعلي

أثار الإعلام المصري في الأسابيع السابقة –بشكل ديماجوجي على الأغلب- موضوع خصخصة عمر أفندي، وتقدم البيروقراطي العتيد "يحيي حسين عبد الهادي" , رئيس شركة بنزايون صفوف مهاجمي الصفقة حتى أصبح بطل إبطالها، وحاز (البطل من ورق) على إعجاب العديدين، وانتهت الموقعة بتراجع مخزي للحكومة بعد أن فشلت في المواجهة (الإعلامية بالأساس)، وانتقدها حتى مؤيدوا الخصخصة بسبب فشلها الذريع في مواجهة الهجوم والرد بأي كلام يقنع الرأي العام.
والحقيقة أن غبار هذه الموقعة لم يكن هو الدافع لي حتى أكتب هذا التعليق على قضية عمر أفندي فقد ثار وهدأن قبل أن افكر في تخريك أصابعي على الكيبورد بهذا الشأن، ولكن ما أثارني هو مداخلة قرأتها على الإنترنت للصديق عمرو عزت بعنوان (عمر أفندي: تساؤلات غير بريئىة وشهادة غير منشورة) وقد حفزتني لسبب بسيط أنني اكتشفت أن كراهية البعض لأكاذيب ونفاق البيروقراطية يدفعهم لكراهية القطاع العام بحد ذاته والمطالبة بالتخلص منهما معا على اعتبار أنهما متلازمان، وهو ما لا أعتقده..
بالنسبة لموضوع عمر أفندي، أولا: الدولة مجروحة بالفساد ( ومجروحة مصطلح يستخدم في علم الحديث النبوي الإسلامي للإشارة على المصادر محل الشك) لذلك فطرحه في أي قضية تتعلق بها أمر طبيعي، ولكنني لا أعترض على بيع عمر أفندي لشبهة الفاسد.
أنا هابتدي في هذا الموضوع من الآخر.... أنا ضد الخصخصة وضد بيع القطاع العام ..سواء فيها فساد أو فيها شفافية....
ممكن البعض يستغرب (إزاي يسار ديمقراطي يبقى ضد الخصخصة ومع الكلام القديم بتاع القطاع العام ده)، أيوه أنا ضد بيع القطاع العام، معتقد إن منطقي بسيط، أنا مع دور تدخلي للدولة بطريقة مباشرة (القطاع العام) أو غير مباشرة (الضرائب وسياسات البنك المركزي) في تطوير معدلات المساواة الاجتماعية، وتخفيف وطأة التقلبات الاقتصادية على الفئات الأشد فقرا.
وأوضح أيضا أنني ضمن هذا المنطق ضد أي كلام عن استقلال البنك المركزي بعيدا عن مؤسسات صنع القرار والرقابة السياسية، ولكن هذه نقطة أعود إليها بعد قليل..
موضوع القطاع العام لما بيتفتح دايما بياخدنا الكلام لمتاهات من نوع الكفاءة الاقتصادية ومصالح المستهلكين، وكل ده كلام يتنوع بين الفاضي والمغلوط، وما باطنه الرحمة وظاهره العذاب..
فالقضية تتمحور حول دور الدولة، فهل نحن نناقش القضية ونحن مع دور للدولة (هو بالظبط ما يدفع باتجاهه "جمال مبارك ورجاله" وينفذ التحول له نظيف وزمرته) يقترب بها من نقطة بين المنظم والمتفرج، ويترك الملعب بالأساس لقوى العرض والطلب، ويترك الفئات الأكثر فقرا والطبقات العاملة والفلاحين الفقراء في مهب قوى السوق العالمية، تكتفي الدولة في هذا الدور بتقديم حد أدنى من الخدمات (السيئة لدرجة تقولك اشترى من برة أحسن لك) مع توفير أفضل الظروف لنمو بديل سلعي (تلعب عوامل السوق الدور الوحيد في تسعيره) لها..
أم مع دولة تلعب دورا تدخليا واضحا لصالح تقليل معدلات التفاوت الاجتماعي، ودعم فرص الفئات الفقيرة في الحصول على خدمات مناسبة تتيح لهم تطوير قدراتهم ومهاراتهم والحياة في مستويات إنسانية، إذا كنا مع الخيار الثاني ( وأنا معه تماما) فوجود أذرع اقتصادية فعالة لهذه الدولة التدخلية أمر مهم، ومن أهم هذه الأذرع مؤسسات القطاع العام، فهي القادرة على تقديم منتجات وخدمات للجمهور ( وأقول الجمهور وليس المستهلكين، لأن اللفظة الثانية تركز على من يستطيع دفع مقابل ما يدفع)، وبالتالي يكون لدى الدولة جهاز يضم أدوات إنتاج تستطيع البعد ولو قليلا عن هدف تعظيم الأرباح، فمثلا ( تستطيع وتقول الدولة حاليا أنها تحاول توفير اللحوم عبر أسعار معقولة عبر المجمعات الاستهلاكية، وعبر توفير الدقيق ومواد الوقود المدعومة توفر الخبز الرخيص)، ومثل هذه التدخلات كان من الممكن أن تكون فعالة أيضا لو استخدمت الدولة شركات الأسمنت والحديد لضبط أسعار سوق مواد البناء، وبالطبع هي ضرورية في قطاعات أثر حيوية مثل الأدوية، كما أن استخدام مؤسسات التوزيع مثل باتا ( وأتذكر أنني ومعظم زملائي في المدرسة كنا عملاء لها) وعمر أفندي، يمكن أن يكون فعالا لتوفير بديل سلعي أرخص لا تحكمه بالكامل أهداف تعظيم الربحية.

سر الأداة وسحر الأداء
أحب هنا أن أورد ملاحظة أشار إلي بها صديقي "عمرو عبد الرحمن" بعد أن قرأ المسودة الثانية لهذا الموضوع، فحسبما أوضح (لا توجد دولة تتحرك في الفراغ، ولكن حركتها وتقنيات عملها و حضورها يتحدد داخل التوزيع الاستراتيجي لعلاقات القوى في المجتمع.
وبالتالي لا يوجد أي إجراء تدخلي يمكن أن تتخذه الدولة إلا ويرد إلى مصالح بعينها قد صاغت وجهته وطريقة تنفيذه).
وهو ما أوافقه عليه إجمالا، ولكنني أرى أن أذرع الدولة أدوات يمكن استخدامها بطرق مختلفة في ظل توزيعات مختلفة للقوى في المجتمع، لذلك فالحفاظ على بعض الأدوات يمكننا في ظل توازن قوى مجتمعي مختلف من استخدامها بشكل مختلف، فسر الأداة هنا يختلف بحسب قدرة اللاعبين في المجتمع على إسماع أصواتهم، كما أن عملية تحول التغير في توازن القوى بالمجتمع أمر يتم بشكل تدريجي، وأعتقد أن الحصول على تغيير في طريقة السيطرة على وتوجيه القطاع العام، بحيث يلعب دورا في ضبط الأسواق أمر هام.
أيضا في موضوعة القطاع العام، تثار دائما قضيتا الفساد وضعف الكفاءة، والنقطة الثانية تحديداً أصبحت مثل سيف سحري يشهر في وجه المدافعين عن القطاع العام، ولكني أراهما غير ذي صلة هنا، لماذا؟؟؟؟؟؟؟؟ أولا لأن الفساد في أي مؤسسة لا يلغي الحاجة إليها، ولكن يظهر الحاجة لمحاربة الفساد، فكثيرون يعلمون أن كبار المسئولين في الجيوش وأعلى المؤسسات نفوذا في كافة دول المنطقة ومعظم دول العالم الثالث يحصلون على عمولات لتسهيل صفقات السلاح، فهل يعني هذا أن محاربة هذا النوع من الفساد يتم بتسريح الجيش!!!!!!!، كما أن الكثير من عمليات إسناد مشروعات الخدمات العامة التي يتولى تنفيذها مقاولوا القطاع الخاص تتسم بالفساد الشديد، فهل يعني هذا وقف مشروعات الخدمات بالمرة، أم العودة فإسناده للقطاع العام فقط، شخصيا أميل للحل الثاني، ولكن هل الأول قابل للتنفيذ، إن موضوعة الفساد تتعلق بمجموعة من العوامل لكنها لا تقود في طريق احد، بل عدة طرق بعدة حلول، ولكني أوضح مجددا أن قضية الفساد ليست الأمر المركزي بالنسبة لي في مسألة القطاع العام.
أما قضية ضعف الكفاءة، أو سحر الأداء كما أحب أن أسميه، فمشكلة تحتاج أولا لوضوح الرؤية حول معنى الكفاءة، فهل نقيس أداء مؤسسات القطاع العام، بالأرباح، فإذا كانت مؤسسة ما رابحة ولو على عن طريق العصف بحقوق العاملين، نطلق عليها مؤسسة كفؤة؟؟ إن قضية الكفاءة يجب ألا تبنى على مركزية الربح، ولكن على موازنة الأهداف ، وبالتالي فنحن حين نتكلم عن رفع كفاءة القطاع العام لصالح المجتمع كلل نحتاج لحلول تبني على إعادة هيكلة مؤسسات القطاع العام، وفقا لموازنة الأهداف الشاملة وليس الأرباح؟؟، فهل نوجه هذه المؤسسات لاستيعاب البطالة في المجتمع، أم لتطوير حزم بديلة من المنتجات والخدمات للفئات الأكثر فقرا، عموما أنا لست خبيرا في تطوير كفاءة المؤسسات، ولكنني سأشير إلى تجربة في الخليج حيث أرى في مدينة صغيرة مثل دبي مؤسسات وشركات حكومية (لا يطلقون عليها قطاع عام) نمت لتصبح عملاقة، في معظم المجالات من العقار وإدارة الموانئ إلى الطيران والخدمات السياحية، وهي بالمناسبة ناجحة بمنطق الأرباح أولا وكذلك بموازنة الأهداف حيث تلعب دورا في استيعاب العمالة الوطنية.
سأمر هنا سريعا على موضوع استقلال البنك المركزي والذي أصبح إيقونة في الاصلاح الاقتصادي (لعلاقته الوثيقة بمسالة تدخل الدولة في الاقتصاد)، فأوضح سبب رفضي الشديد له، فالبنك المركزي مؤسسة مؤثرة بشدة في حياة الناس، معنى استقلالها عن القرار السياسي، هو وضع سلطة اتخاذ قرارات تؤثر في الحياة اليومية للملايين بعيدا عن أي رقابة من أي هيئة منتخبة، وتغل يد جمهور الناخبين عن تغيير أي سياسات يتخذها المركزي.
مثلا إذا أرادت حكومة منتخبة أن تخفض مستويات التضخم لتقليل وطأة التقلبات الاقتصادية على الفئات الأكثر فقرا، وأراد مجلس محافظي المركزي رفعها لتحفيز النمو الاقتصادي، أي الرأيين سينفذ!!!!!!! رأي حكومة متأثرة بآراء الجمهور والناخبين (بافتراض أننا نتحدث عن نظام ديمقراطي) أم رأي مجموعة من الخبراء ذوي الارتباطات بالعالم الأكاديمي وعالم رجال الأعمال!!!!!!.
إن أي خطوة في اتجاه استقلال البنك المركزي عن الحكومة في مصر أو أي دولة، هو خطوة للوراء فيما يتعلق بربط التطور الديمقراطي بالتطور الاقتصادي.

عودة إلى الأفندي
أولا: أحب أن أوضح أن مسألة شبهة الفساد في الصفقة ليست هي النقطة المركزية هنا، على عكس ما ارتأت وسائل الإعلام الديماجوجية، فأنا لا أختزلها إلى فساد يمكن إصلاحه كما اشر إلى صديقي شريف يونس في ملاحظة على مسودة المقال، كما أنني مقتنع عكس ما يظن شريف أن الدفاع عن القطاع العام لا يتساوى مع الولاء السياسي للدولة التي تملكه، فالولاء السياسي لهذه الدولة يعني الموافقة على مجمل مواقفها ، وهو ما لا أظنه موقفي، حتى بالنسبة لطريقة إدارتها للقطاع العام.
ثانيا: أؤكد أنني مما سبق ضد بيع عمر أفندي سواء تمت الصفقة وفق ما أرادت الحكومة أم لا، ولكني سأضع بعض الملاحظات على الصفقة وفق ما أرادت الحكومة، فالتقييم الحكومي الذي جاء أقل من قيمة الأصول بحجة المحافظة على النشاط، يغفل أن المالك الجديد يمكنه بدون أن يغير النشاط، أن يتخلص من بعض أو كثير من الأصول بحجة أنها أصول غير منتجة أو يفعل كما اقترح رئيس عمر أفندي في مكاشفته مع عمرو عزت "ينقل بعض المنشآت إلى أصول رخيصة ويبيع المرتفعة الثمن"، فيحقق ربحا رأسمالياً فورياً بدون تغيير النشاط، ويمكن أيضا أن يبيع أي فرع ويؤجر مكانه آخر وهو ما يعطيه ليس فقط ربحا استثماريا فوريا، ولكن أيضا فرصة لقليل الأصول بما يساعده في المستقبل في أي محاولة لبيع الشركة لمالك جديد، حيث أن كبر حجم أصول أي شركة سلاح ذو حدين في البيع.
كما أنني سأشير إلى أن النائب العام وإن كان قد حفظ التحقيق في بلاغ رئيس بنزايون فقد أهاب بالشركة القابضة في بيان ألقاه عقب انتهاء التحقيقات في البلاغ المقدم ضد الصفقة بالحصول على الضمانات الكفيلة باستمرارية نشاط الشركة بعد بيعها مع الحفاظ على حقوق العمال، بما يعطي إشارة ما على أن الضمانات التي أعلنت الحكومة أنها أخذتها على المشتري الجديد ليس كافية تماما.
كما أحب أن أوضح أن الحكومة بالنسبة لحقوق العاملين، أخذت ضمانات بعدم تسريح العمالة، أي الفصل التعسفي، وهو أصلا أمر غير مسموح به بحكم القانون، أي أنها عبارة في العقد للاستهلاك الإعلامي، وأضيف هنا أنني ممن واقع معايشتي البسيطة لبعض المشكلات العمالية، أعرف تماما أن أي ضمانات قانونية أو حكومية، لا تساوي أي شيء للرأسمالي في مصر إذا أحس أن العمالة أصبحت تمثل عبئا عليه.
أخيرا إنني أرى أن انتفاضة يحيي حسين عبد الهادي , رئيس شركة بنزايون على صفقة عمر أفندي إنما تمثل حركة من بيروقراطي واعي لمصالح الفئة التي ينتمي إليها، ويجيد اللعب على أوتار الرأي العام، وبما يكون أيضا مدفوع ببعض القضايا الشخصية، ولكنه يظل ممثلا متميزا للبيروقراطيين الذين يتضررون بشدة من بيع القطاع العام.
وكوني معتاد على تذكر الآية القرآنية ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا)، فإنني لا أتخذ ضد هجوم يحيي حسين على بيع القطاع العام موقفا مسبقا لكونه بيروقراطيا عتيدا، ولكنني أرى ما يقول ثم أقول ما أرى.
وأوضح المسألة بصيغة أخرى هل لأننا نرفض هيمنة البيروقراطية على المجتمع ننزلق إلى تأييد تصفية القطاع العام، لا أرى ذلك، وأعلنها مجددا أرفض الخصخصة..

No comments: