صوت ديمقراطي جذري

1.6.06

صعود اليسار فى أمريكا اللاتينية



لا ينبغى الخلط بين مناضلين فى سبيل الديمقراطية وديكتاتوريين أشبه ما يكونون بحكامنا

عمرو عبدالرحمن

استقبلت الفضائيات العربية والتحليلات الإخبارية فى الصحف الحكومية والمعارضة على حد سواء ظاهرة الانتصارات الانتخابية لليسار فى أمريكا اللاتينية بترحاب صاخب. وتنوعت التحليلات حسب المدرسة الأيديولوجية التى ينتمى إليها هذا المعلق أو ذاك. أنصار الاتجاهات القومية العربية والإسلامية، وبعض أنصار النظام الحاكم فى مصر بالمناسبة، اعتبروا هذه الظاهرة بمثابة صفعة قوية للإمبريالية الأمريكية فى القارة فى حين اعتبرها غالبية المعلقين اليساريين تحدياً سافراً للعولمة وما يرتبط بها من ظواهر مثل تحرير التجارة الدولية وتعميم نموذج تنموى واحد يرتكز على آليات السوق الرأسمالى. على أن هؤلاء المتحاورون قد أجمعوا على أن تجربة اليسار فى السلطة فى تلك البلدان تقدم دروساً مهمة لأنظمة الحكم وقوى المعارضة فى العالم العربى بشأن إمكانية انتهاج سبيل جديد للتنمية معتمد على الذات يتحدى الهيمنة الأمريكية، بل وينزل بها هزائم مدوية. الاسم الأكثر شعبية فى هذه المحاورات هو اسم الرئيس الفنزويلى هوجو شافيز الذى ما فتئ منذ صعوده لسدة الحكم فى 1999 يناصب السياسة الأمريكية العداء ويسعى لبناء حلف عريض بين النظم الحاكمة فى القارة خلف تلك المعارضة. بل ذهب البعض إلى ما هو أبعد واصفاً ما يحدث فى أمريكا اللاتينية بأنه كفيل بإحداث توازن فى العلاقات الدولية طال انتظاره منذ نهاية الحرب الباردة، فى حالة تحالف الأنظمة العربية مع هذه الحكومات اليسارية. فهل تقترب الحقيقة بالفعل من الصورة المتداولة فى الإعلام العربى؟ وهل تشكل الانتصارات الانتخابية لليسار فى أمريكا اللاتينية حلقة فى المسيرة المظفرة المناهضة للاستعمار الأمريكى؟ الإجابة فى رأينا هى بالنفى.
ليس الغرض من هذه الإجابة إحباط القارئ المتحمس، ولكن ذكرها فى المقدمة يأتى بغرض التنبيه للهدفين الرئيسيين من كتابة هذا التقرير عن صعود اليسار فى أمريكا اللاتينية.
الغرض الأول، هو وضع الظاهرة فى سياقها الاجتماعى والسياسى الطبيعى بعد تجريدها من أية أحكام مسبقة يدمغها بها المحللون العرب. فالصعود الانتخابى لليسار هو أحد الاستجابات المتنوعة لتحديات ثلاثة رئيسية تواجه بلدان القارة وهى: كيفية دفع النمو الاقتصادى لمعدلات تقارب ما كان عليه فى سبعينيات القرن الماضى أو ما هى عليه حالياً فى بعض دول الشرق الآسيوى؛ ودعم مؤسسات المجتمع المدنى من أجل تعميق الممارسة الديمقراطية التى بدأت منذ انهيار الديكتاتوريات العسكرية مع نهاية الثمانينيات؛ وأخيراً القضاء على كافة أشكال التمييز التى تغض بها القارة على أساس العرق والنوع أو اللون. ويتقاطع مع هذا المخطط العام أسئلة خاصة بطبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة لا يمكن اعتبارها المحدد الرئيسى للظاهرة التى نتحدث عنها. فاليسار لم يأت للسلطة من أجل مناهضة الإمبريالية وفقط ولكن من أجل تقديم إجابات مبدعة عن الأسئلة الثلاثة السابق ذكرها.
الغرض الثانى، هو التنبيه إلى أن ليس كل ما يلمع ذهباً. فلا يوجد يسار واحد ينبغى الترحيب بصعوده والتعلم منه فى العالم العربى. على العكس، يمكن التمييز بين فصيلين رئيسيين، أحدهما شعبوى قومى ينحدر بالأساس من خلفيات عسكرية، ويشبه العديد من أنظمة الحكم فى العالم العربى فى استبداده وفشل إدارته الاقتصادية ورطانته القومية، والآخر ديمقراطى/أممى أو إنسانى النزعة لا يضحى بالديمقراطية لصالح التنمية ولا يرى فى العداء للولايات المتحدة أو المؤسسات الاقتصادية الدولية شعاره الرئيسى أو هدف نشاطه الأول. ينتمى للنوع الأول هوجو شافيز فى فنزويلا، نيسترو كريشنر فى الأرجنتين، إيفو موراليس فى بوليفيا، هيومالا فى بيرو، وأخيراً "لوبيز أوبرادور" فى المكسيك (الأخير ما زال فى صفوف المعارضة). أما اليسار الآخر- الأقل شعبية فى العالم العربى نتيجة قلة معاركه مع الإدارة الأمريكية والذى لا نسمع عنه شيئاً تقريباً- فينتمى إليه لويس ايسناسيو داسيلفا (لولا) فى البرازيل، تابارى فازكويز فى أوروجواى، ميشال باشليه وسلفها ريكاردو لاجوس فى تشيلى.
سنحاول فى السطور القادمة التعرض لأهم مظاهر التمايز بين التيارين والإجابات التى قدماها للأسئلة الثلاثة المحورية المطروحة على مجتمعاتهم، ثم ننتهى بالعرض لكيفية الاستفادة من تلك التجارب لدعم النضال الديمقراطى فى مصر والعالم العربى.

صعود اليسار: قراءة فى الأسباب
يحيل المحللون الانتصارات الانتخابية لليسار اللاتينى إلى ثلاثة أسباب رئيسية ليس من بينها السعى لمناهضة الهيمنة الأمريكية على القارة والتى تحتل صدارة الافتتاحيات العربية المرحبة بصعود اليسار اللاتينى. بل على العكس كلها أسباب تتصل بديناميات محلية وإن كانت تتماس مع بعض العوامل الدولية إلا أنها ليست مبرر وجودها.
أولا، يأتى صعود اليسار كرد فعل على سياسات الليبرالية الجديدة بملامحها الرئيسية مثل تخفيض الدعم الحكومى للسلع الأساسية ولمدخلات العملية الإنتاجية ومحاولة جذب الاستثمارات الأجنبية، فضلاً عن التوسع فى عملية الخصخصة. تختلف التحليلات حول الجدوى الاقتصادية من هذه السياسات حيث أن معدلات النمو لا زالت أقل من مثيلاتها فى مناطق أخرى من العالم مثل جنوب شرق آسيا أو حتى مقارنة بدول أمريكا اللاتينية ما بين 1940 و1980. أما على الصعيد الاجتماعى كانت مخرجات هذه السياسة غير محتملة بالنسبة للشرائح الأكثر فقراً وتجلت فى تدهور مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وتراجع الدخول. وفى هذا السياق يأتى الصعود اليسارى الراهن كاستجابة لتلك السياسات وبحثاً عن سبيل لعلاج آثارها الاجتماعية الفادحة.
ثانياً، شكلت عملية المقرطة المتسارعة والتى بدأت بشائرها فى القارة منذ نهاية الثمانينيات مع تحلل الأنظمة العسكرية الديكتاتورية قوة دفع لصعود اليسار. فمن جهة، أدت هذه العملية المتسارعة بما صاحبها من تعاظم نفوذ الاتحادات العمالية والمنظمات الفلاحية ومجالس الأحياء وغيرها من منظمات المجتمع المدنى إلى وضع مواقع النفوذ التقليدية والأحزاب القائمة والأوليجاركيات المسيطرة على عملية صنع القرار داخل الجيش والبيروقراطية، إلى جانب الأجنحة التقليدية داخل المؤسسات القضائية - والتى شكلت نخبة ما قبل التحول الديمقراطى فى هذه البلاد - محل التساؤل والنقد. وكان طبيعياً أن تنجرف هذه العملية النقدية بالمزاج الانتخابى ككل تجاه اليسار. ومن جهة أخرى، أدى اقتران عملية المقرطة تلك مع تفاقم مؤشرات اللا مساواة الاجتماعية إلى تبنى الحركات السياسية المشكلة حديثاً لخطاب اجتماعى بالمعنى الواسع للكلمة. ويشبه بعض المحللون هذا الوضع فى أمريكا اللاتينية بالوضع فى غالبية مجتمعات أوروبا الغربية مع نهاية القرن التاسع عشر حيث اقترن النفوذ الواسع للاتحادات العمالية والأحزاب الاشتراكية بأشكال متنوعة من اللا مساواة على أساس العرق والنوع والدخول، وهو ما أدى بهذه الاتحادات إلى الانجراف يساراً، بهدف تفكيك أبنية اللا مساواة تلك وإكساب السياسة ملمحا شعبى فى مواجهة الطابع البرجوازى الفوقى للعبة الديمقراطية.
ثالثاً وأخيراً، شكل انهيار الاتحاد السوفيتى، ويا للمفارقة، بيئة مواتية لصعود اليسار اللاتينى. فقد أدى اختفاء التهديد السوفيتى ونهاية الحرب الباردة إلى إعادة نظر جذرية فى السياسة الأمريكية تجاه أمريكا اللاتينية. لم يعد اليسار يشكل تهديداً للأمن القومى الأمريكى ولم تعد الحركات اليسارية موصومة بصفة التبعية الدائمة للسوفيت، وهو ما فتح الباب أمام انخراط اليسار فى سياسات وتحالفات انتخابية واسعة بغير انقطاعات مربكة من الانقلابات العسكرية المدعومة أمريكيا، على خلاف السياسة الأمريكية منذ خمسينيات القرن الماضى (مثل انقلاب بينوشيه على الرئيس المتخب ألليندى فى تشيلى 1972).

ما وراء المتشابهات:
سياقات إجتماعية متنوعة ويسار أكثر تنوعاً
إذا كانت النجاحات الانتخابية لليسار تشترك فى الكثير من الملامح، فإنها لا تنتهج نفس المسارات. سنتبع هنا تمييزاً داخل اليسار اللاتينى يأخذ فى اعتباره الأصول الفكرية والسياسية لفصائل اليسار المختلفة إلى جانب السياقات الاجتماعية والاقتصادية التى تتحرك فيها وتحكم خياراتها الاستراتيجية. بداية، يظهر من خلال تتبع الخريطة المعقدة لفصائل اليسار اللاتينى وتاريخها المتداخل تيارين رئيسيين يكادا أن يكونا على طرفى نقيض.
اليسار الأول، هو يسار قادم للساحة السياسية من خلفيات ماركسية أو كاستروية/ جيفارية (نسبة إلى فيدل كاسترو وتشى جيفارا اللذان دعا إلى حرب عصابات فى جميع دول أمريكا اللاتينية قوامها الفلاحون المسلحون من اجل تحرير هذه الدول من الفقر والتبعية) أو حتى اشتراكية ديمقراطية. هذا اليسار تحلى منذ البداية بروح نقدية تجاه تجارب بناء الاشتراكية فى الاتحاد السوفيتى وغيرها من بلدان الكتلة الاشتراكية السابقة واتخذ منها موقفاً رافضاً نتيجة طبيعتها الشمولية الظاهرة للعيان.
وظل هذا اليسار منذ النشأة، وبرغم مواقفه السياسية المتباينة، ينهل من منابع إنسانية بشكل عام ويسعى للتوفيق بين انتمائه الاشتراكى وضرورة دعم الديمقراطية ويحافظ على طابع أممى لم يجره إلى الرطانة القومية التى خيمت على العديد من مناطق العالم منذ نهاية الحقبة الاستعمارية وفى القلب منها المنطقة العربية. بل إن وجهة نظره فى مسألة التحرر الوطنى لم تكن منفصلة عن تحرر الناس بأنفسهم من علاقات السلطة الإقطاعية المتخلفة أو السلطة البرجوازية فى المدن، رافضا فكرة أن يأتى التحرر الوطنى على يد مجموعة من الزعماء الملهمين يأتون عادة من خلفيات عسكرية ويصادرون حريات المواطنين فى سبيل مجد قومى مزعوم.
وهنا نقطة التميز الأهم: اليسار اللاتينى القادم من الخلفيات السابق ذكرها ظل بعيداً عن أروقة الدولة وارتبط منذ البداية بالنضالات الجماهيرية من أسفل والتى أفرزت أحد أهم الظواهر السياسية فى أمريكا اللاتينية منذ سبعينيات القرن الماضى وهى الحركات الاجتماعية الجديدة. لم تنشغل هذه الحركات فى المجمل بالأسئلة التى هيمنت على الجدل السياسى خلال حقبتى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى مثل كيفية الاستيلاء على السلطة السياسية؟ الانقلاب أم الانتخابات؟ العسكر أم الشارع؟ أو أى النظم الاقتصادية أجدى؟ التأميم أم الملكية الخاصة؟ لأن هدفها لم يكن الاستيلاء على السلطة السياسية بأقصر الطرق الممكنة، وإنما إجراء تعديلات جوهرية فى علاقات السلطة القائمة أو على الأقل تغيير آلية عملها كما تتشكل فى المواقع المحلية (المصنع، الحى، المدرسة، الخ)، وكما يدركها الناس فى حياتهم اليومية، لا كما يدركها المثقفون فى تحليلاتهم. فاتجهت هذه الحركات إلى التركيز على العمل فى وسط الأحياء الفقيرة وشكلت مجالس لرقابة إنفاق المجالس المحلية المنتخبة كما أولت أهمية قصوى للنضال المصنعى فى مواجهة النقابيين الصفر وصفقاتهم المستمرة مع السلطة المركزية إلى جانب الدفاع المستميت عن استقلالية الاتحادات العمالية. فحتى لو لم تؤد هذه النضالات إلى انتصارات سريعة وملموسة على الصعيد السياسى فإنها تفتح الباب أمام تحلل علاقات السلطة القديمة على المدى البعيد.
وفى خضم صعود الحركات الاجتماعية الجديدة أعاد اليسار الماركسى والجيفارى والاشتراكى الديمقراطى صياغة استراتيجياته مستنداً إلى الروح النقدية العلمية والأممية التى تحلى بها منذ البداية. فتخلى معظم المناضلون الجيفاريون عن السلاح واستراتيجية حرب العصابات، فأصبحوا يعتبرونها مجالاً خصباً لتشكل النزعات البطولية الفردية، الذكورية فى أغلب الأحيان، أكثر من النزعات الديمقراطية التى تركز على سيطرة مجموع المواطنين على مصيرهم. وبالتوازى تخلى أغلب المنتمين للأحزاب الشيوعية القائمة عن تبعيتهم للخط الماركسى الكلاسيكى السوفيتى بتركيزه المفرط على دور الدولة التدخلى فى الاقتصاد وتبعية التنظيمات النقابية للدولة والعداء الأيديولوجى المتصلب للولايات المتحدة والديمقراطية الليبرالية. هذا إلى جانب النشطاء اليساريون الجدد أبناء نضالات الحركات الاجتماعية الجديدة فى أماكن التركز الصناعى أو الأحياء الفقيرة.
تشكلت من هذه الروافد المتنوعة مع نهاية الثمانينيات تحالفات يسارية واسعة مثل "حزب العمال الموحد" بزعامة (لولا)، عامل الصلب والمناضل العمالى فى البرازيل، و"الحزب الاشتراكى الديمقراطى" بزعامة ريكاردو لا جوس ثم ميشال باشليه (ناشطة حقوق الإنسان) فى تشيلى، و"الحزب الاشتراكى الديمقراطى" فى أورجواى بزعامة تابارى فازكويز (المقاتل السابق فى حركة توباكوموراس). وهذه الأحزاب تتولى مقاليد السلطة فى بلادها حالياً. كما تشهد نيكاراجوا صعوداً متسارعاً لتحالفات يسارية من هذا النوع وإن كانت مازالت فى المعارضة حتى الآن ومرشحة بقوة لتولى زمام السلطة مع نهاية العام الحالى.
ومن حصيلة المراجعة النقدية التى خاضها هذا التيار وابتعاده الدائم عن مواقع السلطة فى فترة الانقلابات التى اجتاحت أمريكا اللاتينية فى منتصف القرن الفائت تشكلت مساهمته فى الإجابة على السؤال المحورى: كيف يمكن تعميق الممارسة الديمقراطية سبيلاً للقضاء على كافة أوجه اللا مساواة القائمة. فكانت إجابته أن شكل الملكية ليس هو المحدد الرئيسى للسياسة الاجتماعية المتبعة فى حين أن تمكين الحركات الاجتماعية وتنظيماتها المستقلة من الرقابة على الإنتاج والمشاركة فى الأرباح والإدارة هى السبيل الوحيد لضمان الفاعلية الاقتصادية والقضاء على الفساد. كما أن انتهاج سياسة مالية ونقدية فعالة هى السبيل الوحيد لتمويل برامج الضمان الاجتماعى وليس الإنفاق الحكومى الموسع من خلال الدين المحلى أو التأميم. على الجانب الآخر يشكل الانفتاح على الاقتصاد العالمى ضرورة لهذا التيار، ولذا فإن مواقفه الأكثر تصلباً فى التفاوض مع المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل صندوق النقد الدولى ومنظمة التجارة العالمية تهدف إلى تعظيم الفائدة من الاندماج فى حركة الاقتصاد العالمى وليس الانعزال عنه. ومن حيث العلاقة مع الولايات المتحدة، فقد أسقط هذا التيار ترسانته الأيديولوجية التقليدية بنت مرحلة حرب العصابات لتحل محلها نزعة براجماتية تخضع السياسة الخارجية لمقتضيات مشروع النمو والديمقراطية المحلى.
اليسار الثانى يأتى من خلفية متباينة تماماً وأصوله تشكلت بالكامل داخل أمريكا اللاتينية وينتمى إلى الاتجاهات الثقافية المحلية المسيطرة أكثر من انتمائه إلى أفكار قادمة من عصر الأنوار الأوروبى بشقيه الليبرالى أو الاشتراكى النقدى. أما أصوله التنظيمية والسياسية فتعود إلى التجارب الأشهر فى تاريخ أمريكا اللاتينية خلال الخمسينيات من القرن الماضى والتى تسمى النظم الإدماجية الشعبوية. فقد اجتاحت أمريكا اللاتينية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية موجة من عدم الاستقرار السياسى التى هددت بتحول العديد من هذه البلدان نحو الشيوعية. أدى ذلك لقبول التحالفات الاجتماعية فى هذا الوقت لتدخل العسكر للامساك بتلابيب السلطة وفرض الاستقرار قبل فوات الأوان. من أشهر تلك الانقلابات العسكرية التى أسست لنماذج الحكم فى العديد من بلدان القارة انقلاب الجنرال خوان بيرون فى الأرجنتين وانقلاب جيتوليو فارجاس فى البرازيل.
ما هى مرتكزات هذه النظم وسياساتها؟ الشغل الشاغل لهذا اليسار هو فرض الاستقرار السياسى وضبط الشارع فى مواجهة خطر التثوير. ويحقق ذلك بالتوسع فى الإنفاق على الطبقات الأفقر والنهوض بمستوياتها المعيشية من خلال التعليم والعلاج المجانيين ومختلف مكونات شبكات الضمان الاجتماعى المعاصرة. ولتمويل هذه البرامج لا تلجأ تلك النظم عادة لفرض الضرائب على الدخل، خاصة دخول الطبقات المتوسطة، إذ من شأن ذلك أن يضع شرعيتها على المحك ويجعلها مطالبة بتبرير سياساتها فى مواجهة دافعى الضرائب. فبدأت فى تمويل هذه البرامج من خلال تأميم كل مصادر الريع الممكنة مثل البترول (كارديناس فى المكسيك) خطوط السكك الحديدية (بيرون فى الأرجنتين) الصلب (فارجاس فى البرازيل) والفحم (ألفارادو فى البيرو). هذا التأميم الواسع لمصادر الريع والتحكم الكامل فى توزيعه سمح لهذه النخب بموقع تفاوضى أفضل بكثير من ذى قبل مع القوى الاجتماعية المختلفة.
وكانت عملية توزيع هذه الفوائض تتم من خلال إنشاء تنظيمات إدماجية على أساس المهن والطوائف المختلفة تتولى التفاوض مع أجهزة الدولة على التوزيع. وتتناقض هذه التنظيمات بالضرورة مع أى مبادرة مستقلة لأعضائها من القاعدة إذ أن ذلك قد ينفى مبرر وجودها كممثل وحيد لهذه الطائفة أو تلك فى عملية التفاوض. وبالتالى اقترن هذا التقسيم الطائفى بمستويات عالية من القمع للمبادرات الجماهيرية المختلفة. وللإبقاء على هذه الهياكل التعبوية لم يكن أمام هذه النخب إلا الاستمرار فى الإنفاق الاجتماعى من عائد الريع الاقتصادى، وهو ما أدى إلى خراب اقتصاديات هذه الدول، وإثارة النعرات القومية المحلية وتحويلها لنزعة معادية للولايات المتحدة من حيث هى أمة وثقافة مغايرة، لا من حيث كونها ممثلة لإمبريالية عالمية.
وصلت هذه الاستراتيجية لنهايتها المنطقية مع بداية السبعينيات. حيث بدأت هذه النظم فى الاصطدام بالقوى الاجتماعية الأكثر فقراً والساعية لاستقلال تنظيماتها النقابية من أجل السيطرة على الدولة. ففتح هذا الاستقطاب الباب أمام موجة ثانية من الانقلابات العسكرية تحت الرعاية الأمريكية المباشرة لوضع حد لنضالات الجماهير وتنفيذ روشتة الليبرالية الجديدة: وقف الإنفاق الاجتماعى الموسع واتباع سياسة لجذب الاستثمارات الأجنبية تقوم على استبعاد الجماهير من الساحة السياسية بالكامل وتحويل هذا القمع إلى ميزة نسبية (جاذبة لرؤوس الأموال). وعلى هذا الأساس تم تدبير الانقلاب على الرئيس الاشتراكى المنتخب سلفادور ألليندى فى تشيلى، وانقلابات فى البرازيل والأرجنتين وغيرها من دول أمريكا اللاتينية (ما عدا المكسيك إذ استطاعت النخب القائمة هناك التكيف مع ضغوط السوق العالمى وتنفيذ شروط المؤسسات الاقتصادية الدولية بغير التخلى عن السلطة للعسكر وهى تجربة شديدة الشبه بالحالة المصرية ولكن هذا موضوع آخر). شهدت هذه الفترة تسارعاً فلكياً فى معدلات النمو الاقتصادى.
غير أن هذه النظم القمعية لم تكن قادرة على القمع إلى ما لا نهاية، إذ سرعان ما انهارت تحت وطاة الضغوط الشعبية منذ منتصف ونهاية الثمانينيات، وتخلت عنها واشنطن مع انهيار الاتحاد السوفيتى وانتفاء الحاجة الاستراتيجية إلى وجودها. والمهم هنا أن تلك النخب العسكرية المدعومة أمريكياً لم تدخل خلال هذه الفترة القصيرة فى صدام من أى نوع مع الاتجاهات الشعبوية القديمة القائمة داخل أجهزة الدولة، وخصوصاً العسكرية منها، والتى تفضل سياسات الإنفاق الاجتماعى الموسع القديمة وأيديولوجيتها القومية. ومع التحول الديمقراطى أطلقت هذه الاتجاهات الشعبوية على معارضتها لسياسات الليبرالية الجديدة المطبقة صفة اليسارية، والتى تكتسى هنا بغموض بالغ. فهذه التيارات لم توجد قط إلا داخل أجهزة الدولة، العسكرية منها خصوصاً، وناصبت الحركات الاجتماعية الصاعدة العداء، بل وكان عداؤها الرئيسى موجها لليسار الديمقراطى بالمعنى السالف ذكره. ففى عام 1973 قام خوان بيرون، بعد عودته إلى الأرجنتين من المنفى عقب انقلاب فاشل، بمذبحة واسعة النطاق لنشطاء اليسار الراديكالى تحت دعوى تطهير البلد من الخطر الشيوعى. نفس السيناريو القمعى تكرر مع نهاية الثمانينات ضد الحزب الشيوعى المكسيكى على يد كارديناس، زعيم الحزب الثورى التأسيسى (الذى يكاد، بالمناسبة، يتطابق من حيث بنيته الداخلية وخطه السياسى الهلامى مع الحزب الوطنى فى مصر).
وفى المقابل شكل أقطاب الشعبوية القديمة فى طبعاتها الأشد راديكالية من حيث معاداتها للديمقراطية أو توجهاتها الاقتصادية الكارثية انشقاقاً داخل الحزب الثورى التأسيسى أسموه "الحزب الديمقراطى الثورى" بزعامة لوبيز أوبرادور رفيق كارديناس القديم ومهندس سياساته القمعية والمرشح الأكثر قوة فى الانتخابات الرئاسية القادمة خلال هذا العام. وكل نشطاء هذا الحزب تقريباً ينتمون لأجنحة الحزب الثورى التأسيسى وإن كانوا قد اختلفوا معه نتيجة قبوله "ببعض" سياسات الليبرالية الجديدة. وكذلك الحال مع هوجو شافيز الجنرال السابق والمعتز بالأيديولوجية البيرونية والقادم للسلطة عن طريق الانتخابات فى 1999، ولكن بعد سلسلة من المحاولات الانقلابية العسكرية الفاشلة حاول فيها تعطيل الديمقراطية الفنزويلية الناشئة لفرض الاستقرار فى مواجهة حركة الجماهير المستقلة. ويشبهه فى ذلك تابارى كريشنر فى الأرجنتين وهو بيرونى الأصل والتوجهات تولى عدة مناصب قيادية خلال حكم خوان بيرون. أما هومالايا الذى تم انتخابه منذ أسابيع لرئاسة بيرو فهو مقدم سابق فى الجيش البيرفوانى حاول الوصول للسلطة من خلال محاولات انقلابية فاشلة آخرها فى عام 2000 ضد الرئيس ألبرتو فوجيمورى قبل أن يترك الخدمة العسكرية ويقود تجمعاً للشعبويين من أجل الانتخابات الرئاسية. أما إيفو موراليس فى بوليفيا فهو قادم من خلفية شعبوية قحة تدافع عن زراعة نبات الكوكا السام والذى يستخدم فى إنتاج الكوكايين تحت دعوى الخصوصية الثقافية لشعب الإيمارا الهندى الأحمر! وهو فى كل الأحوال ليس أكثر من زعيم محلى للسكان الأصليين لم يضبط متلبساً يوما ما بدعم نضال جماهيرى خارج هذا الإطار. فمثلاً لم يشارك بأى شكل من الأشكال فى الإضرابات الواسعة المطالبة بتأميم الغاز الطبيعى عام 2004 وظل دوره مشبوهاً فى هذا الإطار.
بعبارة أخرى ارتسمت خريطة سياسية بعد انهيار النظم العسكرية ليست بالبساطة التى تبدو عليها فى الإعلام العربى. فمن جهة تخندق اليمين المؤيد لسياسات الليبرالية الجديدة وعلاقات السلطة التقليدية القائمة فى الواقع معاً حول تحالفات من رجال الأعمال والنخب الاجتماعية المحافظة الأخرى. قوام دعاية هذا اليمين هى أن اليسار يجر أمريكا اللاتينية نحو المجهول والانحلال الأخلاقى وهى الفكرة الرئيسية التى وظفت فى دعاية اليمين ضد ميشال باشليه مرشحة اليسار فى تشيلى نتيجة كونها مطلَّقة. أما اليسار اللاتينى فقد انقسم إلى يسار سلطوى شعبوى قوامه يتشكل داخل أروقة الدولة وهمه الرئيسى استعادة نموذج الدولة التوزيعية ولا يشعر بالارتياح تجاه سياسات التعبئة الاجتماعية الواسعة إلى تقودها الحركات الاجتماعية بتنظيماتها المستقلة. وعلى الجانب الآخر تشكل يسار ديمقراطى تقوم أطروحاته الرئيسية على افتراض أن النمو الاقتصادى والعدالة الاجتماعية وإلغاء كافة أشكال التمييز الاجتماعى لا يمكن أن يتم إلا عن تعميق الممارسة الديمقراطية واستقلالية الحركات الاجتماعية وليس بالضرورة من خلال سياسات التأميم أو الاصطدام بالولايات المتحدة وأن تعميق هذه الممارسة الديمقراطية كفيل بتحقيق أى خلل ناتج عن عمل آليات السوق الرأسمالى ويستطيع فرض تنازلات على تغول الاستثمارات الأجنبية. وهو هنا ينطلق من رؤية نقدية لتجارب بناء الاشتراكية خارج أمريكا اللاتينية وتجارب الأنظمة الشعبوية فى أمريكا اللاتينية نفسها.
تنبغى الإشارة هنا أن صعود أى من هذين اليسارين إلى مقاعد السلطة يتوقف بالطبع على السياق الاقتصادى والاجتماعى الذى تعمل فيه هذه التيارات. فظروف الأزمة الاقتصادية الطاحنة مثلاً أو هشاشة المؤسسات الديمقراطية وضعف الحركات الاجتماعية دائماً ما يفتح الطريق أمام اليسار الشعبوى لاختطاف السلطة. فكريشنر لم يصل للسلطة فى الأرجنتين إلا فى أعقاب انهيار اقتصادى كامل فى عام 2002 لم يجعل هناك بد من اللجوء إلى الشعبويين القدامى لفرض الاستقرار برغم تململ المؤسسات الاقتصادية الدولية من سياساته. ووصول موراليس للسلطة كان فى بوليفيا الأفقر والأقل نمواً فى أمريكا اللاتينية وفى أعقاب أزمة سياسية امتدت لأكثر من ثلاث سنوات. كل هذا فى ظل تخلف الهياكل السياسية فى بوليفيا وأزمة الاندماج القومى الحادة بين الغالبية الهندية والأقلية البيضاء التى تسيطر على مفاصل الدولة والاقتصاد القومى وضعف الحركات الاجتماعية البالغ وقلة خبرتها.
على العكس، أتت الانتصارات الانتخابية لليسار الديمقراطى فى تشيلى فى أعقاب عقد من النمو الاقتصادى الناجح قفز بتشيلى إلى الصدارة من حيث المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية للتنمية. وفى البرازيل جعلت خبرة وتعبئة الحركات الاجتماعية الخيار الشعبوى غير ذى موضوع.

يسارشعبوى ويسار ديمقراطى فى السلطة:
أى سياسات وأى نتائج
بديهى ان الأصول المتباينة لليسار ستلعب دوراً محورياً فى صياغة السياسات التى سيتبعها هذا اليسار أو ذاك حال وصوله للسلطة.
ففى البرازيل على سبيل المثال، كان "لولا" واضحاً من البداية، حتى قبل انتخابه، أنه لن يجرى تغييرات درامية فى سياسات سلفه الليبرالى كاردوسو، وانه لن يخل بالاتفاقات الموقعة مع صندوق النقد الدولى وغيره من جهات التمويل الدولية. ومع وصوله للسلطة استطاع من خلال هذه السياسات تحقيق فائض سنوى فى الموازنة العامة بالرغم من تباطؤ معدلات نمو الاقتصاد البرازيلى. ومن جهة أخرى، استطاع حزب العمال البرازيلى انتهاج سياسات اجتماعية مبدعة مثل التمويل الاجتماعى للعائلات حسب ارتفاع مستوى تعليم أبنائها وهى المبادرات التى كان حجر الزاوية فيها إدماج مؤسسات المجتمع المدنى. المحصلة كانت قفزة نوعية فى مؤشرات التنمية الاجتماعية مثل التعليم والصحة وخلافه.
والحال كذلك فى تشيلى، فخلال 16 عاماً متواصلة من حكم اليسار برئاسة لاجوس، والتى ستستكمل بعد انتخاب باشليه، قفزت مؤشرات النمو الاقتصادى والتنمية البشرية بمعدلات قياسية. وكذلك الحال فى أوروجواى تحت حكم "فازكويز". أما على الصعيد الخارجى، فسياسة هذه الأنظمة كانت أبعد ما تكون عن القسمة الحدية بين العمالة لأمريكا وقوى الإمبريالية العالمية والصدام السافر على طريقة شافيز. بل ضربت هذه الأنظمة اليسارية نموذجاً فى كيفية إخضاع علاقاتها الخارجية لأهداف مشروعها المحلى فى النمو الاقتصادى والعدالة الاجتماعية وتعميق الممارسة الديمقراطية. فعلى سبيل المثال وقعت تشيلى تحت رئاسة لاجوس اتفاقية للتجارة الحرة بين البلدين مع إدارة الرئيس بوش فى بداياتها كما ردت واشنطن بتأييد مرشح تشيلى لرئاسة منظمة الدول الأمريكية. ولكن لم يحل ذلك دون معارضة تشيلى الحازمة لغزو العراق خلال عضويتها لمجلس الأمن إلى جانب رفضها القاطع لأى تعاون مع الإدارة الأمريكية فى هذا الإطار.
أما فى أورجواى، فقد استطاع الرئيس فازكويز أن يبدأ مفاوضات ناجحة لتوقيع اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة وأن يوقع اتفاقية لدعم الاستثمارات المتبادلة مع الإدارة الأمريكية. ولكن لم يمنعه ذلك من استئناف العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع كوبا بعد سنوات طويلة من القطيعة وقفز معدلات التبادل التجارى بين البلدين، برغم المعارضة الأمريكية الحادة. وفى البرازيل، لم تمنع العلاقات الودية بين إدارة بوش و"لولا"، والتى توجتها زيارة بوش للبرازيل فى نوفمبر الماضى، اختلاف البرازيل مع الولايات المتحدة حول قضايا إصلاح الأمم المتحدة وتحرير التجارة الدولية. كما لعبت البرازيل دورا محوريا فى دعم تجارب التنسيق جنوب- جنوب فى المحافل الدولية ومد جسور علاقات ودية مع كوبا كاسترو. على أن الإنجاز الأهم لهذه الأنظمة بإجماع المحللين هو تعميق الممارسة الديمقراطية ودعم مؤسساتها، سواء على الصعيد المحلى فى الأحياء والمناطق المهمشة، أو على الصعيد الوطنى مثل دعم استقلالية القضاء ومكافحة الفساد.
ليس القصد من وراء هذا العرض رسم صورة وردية عن أنظمة اليسار فى الدول الثلاث السابق الإشارة إليها. فهذه التجارب تنطوى على قدر لا يستهان به من المعارضة من داخل أحزابها نفسها. المثال الأبرز على ذلك هو برازيل "لولا". فهو يواجه معارضة قوية من الأجنحة اليسارية فى حزبه بزعامة خوسيه جونينو وخوسيه ديركو محورها تبقرط الحزب واقترابه فى السلطة من نموذج الأحزاب النخبوية التقليدية على العكس من تراثه الكفاحى. وتسعى بعض التيارات إلى الخروج من حزب العمال وتأسيس أحزاب جديدة لليسار مثل "حزب الاشتراكية والحرية"، هذا بخلاف فضيحة الفساد المشهورة والخاصة بتجاوز حدود الإنفاق فى الحملة الانتخابية للولا خلال العام 2002. ولكن ينبغى أن يكون واضحاً فى الأذهان أن هذه الخلافات أبعد ما تكون عن نموذج التخوين والعمالة للخارج كما أن محورها ليس الموقف من الولايات المتحدة بقدر ما هو علاقة الحزب بالحركات الاجتماعية التى نشأ فى كنفها. ومن ثم لا يمكن إطلاق الأحكام وتحديد الانحيازات اعتباطاً دونما علم بالسياق الداخلى لهذه الانقسامات وهو ما يخرج عن هدف هذا العرض المختصر. على أية حال، تشير بعض التحليلات إلى احتمال تنحى "لولا" نفسه عن خوض الانتخابات الرئاسية القادمة حفاظاً على وحدة الحزب من الانشقاقات.
على الجانب الآخر، لنر ما أدت إليه سياسات اليسار الشعبوى؟ يتحاشى الكثير من المحللين العرب الخوض فى هذه التفاصيل، لأن هذا سرعان ما يؤدى لطرح أسئلة غير مرحب بها حول مسيرة معاداة الإمبريالية المظفرة فى القارة.
ربما يجدر البدء بتناول تجربة فنزويلا- المثال المحبب للمعلقين العرب. النظرة السريعة تشير إلى تدهور مؤشرات النمو الاقتصادى والتنمية البشرية منذ مجئ شافيز للسلطة فى 1999 بشكل متواصل. وهو ما يتضح من مقارنة تلك المؤشرات مع نظيرتها فى المكسيك، التى شهدت واحدة من أدنى معدلات النمو فى القارة بالمناسبة خلال الفترة ذاتها. فخلال السنوات السبع الماضية نما الاقتصاد المكسيكى بمعدل إجمالى 17.5% بينما لم يحقق الاقتصاد الفنزويلى أى نمو على الإطلاق. وفى الفترة بين 1997 و2003 نما الناتج المحلى الإجمالى المكسيكى بنسبة 9.5% على مدى الفترة، بينما انكمش الاقتصاد الفنزويلى بمعدل 45%. وفى المدة بين 1998 و2005 فقد البيزو المكسيكى 16% من قيمته بينما هبطت قيمة البوليفار الفنزويلى بنسبة 292%. وبين عامى 1998 و2004 تقلص عدد الأسر المكسيكية التى تعيش فى فقر مدقع بنسبة 49% فى حين ازداد عدد الأسر التى تعيش فى فقر مدقع فى فنزويلا فى ذات الفترة بنسبة 4.5%. أم من حيث معدل التضخم، فقد قدر بـ3.3% فى المكسيك فى عام 2005 فى حين بلغ نظيره فى فنزويلا 16% فى نفس العام. ولم تمنع هذه الأزمة المالية المستحكمة شافيز من التوسع فى عقد صفقات السلاح مع كل من روسيا وأسبانيا. أكثر من ذلك، تشير الكثير من التقديرات إلى انخراط شافيز فى تمويل الحملة الانتخابية لموراليس فى بوليفيا وهيومالا فى بيرو هذا بخلاف تدخله لشراء الدين الأرجنتينى.
أما فى الأرجنتين، فبرغم نجاح كريشنر فى السيطرة على معدل التضخم واستعادة النمو مرة أخرى إلا أن جميع المؤشرات تشير بقلق إلى تداعيات التوسع فى الإنفاق الحكومى بعد تجاوز مرحلة الاستقرار الحالية. وفى المكسيك، ما زالت النخبة السياسية تتذكر ما أدى إليه الإنفاق الموسع خارج آلية الضرائب المركزية من ارتفاع غير مسبوق فى نسبة الدين المحلى والتى انتهجها لوبيز أوبرادور (أقرب مرشحى اليسار الشعبوى للسلطة فى أمريكا اللاتينية) خلال توليه منصب عمدة مكسيكو سيتى. ومن الواضح أن كل من موراليس فى بوليفيا وهيومالا فى بيرو عازمين على معاودة نفس الكرة حيث أعلن كلاهما عن نيته فى تأميم الغاز والفحم والمياه على الترتيب.
أما من حيث العلاقات الخارجية، فلم يترك شافيز ديكتاتوراً فى العالم تقريباً دون إعلان التقرب إليه دون أسباب واضحة. والقائمة تطول لتشمل صدام حسين ومعمر القذافى وملالى إيران. هذا إلى جانب معارضته الديماجوجية غامضة الأسباب لخلق منطقة تجارة حرة بين الأمريكتين برغم اتجاه حكومات يسارية أخرى للقبول بالمشروع مثل تشيلى وأوروجواى والبرازيل كما سبق الذكر. بالإضافة إلى ذلك يسعى شافيز بالتعاون مع صديقه كريشنر فى الأرجنتين إلى تطوير التكنولوجيا النووية لأسباب غير معلومة برغم التكلفة الباهظة لهذه المشاريع، خاصة فى ظل ظروف التدهور الاقتصادى التى تعانيها فنزويلا. وأصبح من الواضح للعيان أن التوجهات الراديكالية فى سياسة شافيز الخارجية ليست إلا محاولة بائسة لدعم شعبيته المتآكلة منذ اضطرابات 2002 التى قادها الطلاب وشرائح الطبقة الوسطى فى المدن احتجاجاً على تدهور الأداء الاقتصادى لنظامه، مطالبة بمزيد من الديمقراطية وتنحى شافيز، وما تبعها من انقلاب عسكرى فاشل أعلنت الولايات المتحدة بغباء استثنائى دعمها له.
أما من حيث تعميق الممارسة الديمقراطية وتدعيم مؤسساتها فلا يمكن أن تكون هذه التجارب مصدراً للإلهام على الإطلاق. فبعد عودة شافيز إلى البلاد بعد الانقلاب الفاشل فى 2002 انتهج السياسة المفضلة لأسلافه وهى تصفية خصومه السياسيين وأنصارهم المحتملين داخل مؤسسات القطاع العام حتى يضمن ولاء العاملين به وقت الحاجة إليهم. خلال هذه العملية تم فصل حوالى 8000 موظف فى مصافى البترول الحكومية- والتى شكل العاملون بها مركز معارضة شافيز الرئيسى- دون أن تكون لهم أى علاقة واضحة بالانقلاب العسكرى (بالمناسبة أشاد كاتب قومى عربى أردنى يدعى إبراهيم علوش بهذه الإجراءات لأن شافيز كان بإمكانه إجراء مجزرة لخصومه ولكنه أبى ذلك- لا تعليق). هذا بخلاف استحضار الأجنحة العسكرية الموالية له بشكل منتظم منذ منتصف العام 2003 لقمع انتفاضات الشارع المتوالية بوحشية ظاهرة فى الفضائيات. ويبدو أن لوبيز أوبرادور فى المكسيك لن يألو جهداً فى السير على درب رفيقه شافيز حال وصوله لرئاسة المكسيك، حيث أعلن أن أحد أهم أولوياته هو "تطهير" المحكمة العليا والبنك المركزى من العناصر الموالية للولايات المتحدة وسياسات الليبرالية الجديدة.
المثير أن دعوة شافيز لتشكيل حلف من اليسار اللاتينى لمواجهة الإمبريالية الأمريكية فى القارة قد قوبلت بفتور بالغ من قبل بقية الحكومات اليسارية فيما عدا موراليس، وكاسترو بالطبع. فقد رفض فازكويز فى أوروجواى على سبيل المثال دعوة موراليس لحضور حفل تنصيبه وظل تعامل لولا فى البرازيل ولاجوس فى تشيلى مع شافيز على درجات متفاوتة من الفتور. يرد بعض المحللين ذلك الفتور إلى العداء التاريخى بين اليسارين، نظرا لأن اليسار الشعبوى لم يأل جهداً فى تصفية اليسار الراديكالى بمجرد حصوله على السلطة. فى حين يضيف البعض الآخر أسباباً تتعلق بانتفاء الحاجة الموضوعية لصدام مفتوح مع الإدارة الأمريكية طالما أن اليسار فى السلطة قادر على الوصول لتفاهمات لا تخل بأهداف الديمقراطية والنمو والعدالة على المدى البعيد.

اليسار اللاتينى: أى خبرات وأى دروس؟
ليس من الوارد استنساخ تجربة اليسار فى البرازيل وتشيلى وأوروجواى من حيث السعى لتعميق الممارسة الديمقراطية وإنجاز أعلى قدر ممكن من العدالة الاجتماعية والنمو الاقتصادى فى ظل علاقات ودية مع الولايات المتحدة والسوق الرأسمالى العالمى. ذلك لأن الوضع فى منطقة الشرق الأوسط أكثر تعقيدا، بفعل الحضور العسكرى الأمريكى المباشر، والأهم بفعل ضعف مؤسسات المجتمع المدنى البالغ مقارنة بنظيراتها فى أمريكا اللاتينية. ولكن الغرض من هذا العرض هو توضيح مدى استحالة إسقاط أمنياتنا وتصوراتنا الأيديولوجية على سياق اجتماعى وسياسى على هذه الدرجة من التعقيد والحيوية. فكما أسلفنا، صعود اليسار فى أمريكا اللاتينية لا يمكن حشره تحت النزعات المناهضة للغرب والتى تنتشر بين مثقفينا العرب ولا يجوز التعويل على قادة اليسار الجدد فى تلك البلدان فى قيادة القوى المناهضة للإمبريالية فى العالم وفى القلب منها منطقتنا المنكوبة.
من جهة أخرى، أردنا توضيح أن ما يقدم إلينا كأمثلة من هذه القارة على إمكانية التنمية عن طريق فك الارتباط بالسوق العالمى ومناطحة الولايات المتحدة الأمريكية، ليس سوى تقديم دعائى يبتسر الحقائق بل يكاد يكون مزورا لنماذج غير ملهمة على الإطلاق سواء من حيث مستويات النمو الاقتصادى أو العدالة الاجتماعية أو تعميق الممارسة الديمقراطية. على العكس من ذلك، تتشابه هذه النماذج، وشافيز فى القلب منها بالطبع، مع ديكتاتورياتنا العربية ورموزها التاريخية مثل صدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافى أكثر من تشابهها مع أى نظام ديمقراطى إنسانى التوجه والنزعة فى العالم. وربما يفسر ذلك التشابه إعجاب كثير من المثقفين العرب القوميين والقوميين اليساريين بهذه النماذج بالذات برغم وجود نماذج أخرى أكثر كفاحية وديمقراطية فى السلطة فى البرازيل وتشيلى وأوروجواى لا نسمع عنها فى إعلامنا، بل مناقشاتنا الثقافية، شيئاً يذكر.
فالنخب الثقافية العربية المهيمنة على الجدل العام فى الفضائيات والصحف ذائعة الصيت ينحدر أغلبها من خلفيات قومية عربية أو إسلامية ضحت دائما، ولا زالت على أتم الاستعداد للتضحية، بالمطالب الديمقراطية فى سبيل قيام نظم شمولية تنخرط فى صراعات إقليمية مدمرة، لعل ذلك يشفى عصابها الفكرى تجاه الغرب بشراً وحضارة. إنها عنصرية مقلوبة تصطبغ رؤيتها لما يجرى فى العالم من تطورات بنظرتها الأيديولوجية التى لا ترى العالم إلا منقسماً لفسطاطين يتصارعان حتى الموت يحتل فيه العرب ومن والاهم موقع الأخيار فى حين تلعب الولايات المتحدة ومن والاها فى الغرب دور الشيطان الأعظم كما وصفه الخمينى. وفى هذا الإطار، وظفت هذه النخب صعود اليسار فى أمريكا اللاتينية، فطمست الفروق، وجعلت من شافيز علما على تحولات قارة بأكملها، وتجنبت القراءة، ولو العابرة، لسياسات أبطالها الأمريكيين اللاتين الذين رفعتهم إلى عنان السماء، سواء من حيث أسسها أو القوى التى تساندها أو نتائجها. هذا المقال يهدف أولا إذن إلى كشف هذا "المسكوت عنه".
ولكن إذا كانت التطورات السياسية فى أمريكا اللاتينية لا تسعف هذا التصور الحدى بل على العكس تدحضه، فبماذا تفيدنا- أعنى القوى السياسية التى لن تفرط فى مطالبها الديمقراطية أبداً- دراستها إذن؟ ظنى أن صعود اليسار إلى مقاعد السلطة يلهمنا باستنتاجين أساسيين:
الأول، هو أن شعبية وتماسك أى حزب أو تحالف سياسى يتوقفان على درجة الاستقلالية والمبادرة الحرة التى تتمتع بها القواعد الجماهيرية المساندة له وليس العكس. فالحزب السياسى هنا يلعب دور الكونجرس الذى تتجمع فيه آراء تنظيمات مستقلة مالياً وإدارياً وتصل لنقطة اتفاق على الاستراتيجيات التى ينبغى اتباعها. فى هذه الحالة تتمتع تلك الاستراتيجيات بدرجة شرعية وإجماع يكفلان لها الاستمرارية. ومن ناحية أخرى، تسهم تلك الاستقلالية ودعم المبادرة الذاتية للناس على المستوى المحلى فى مقرطة الحياة العامة ككل، على مستوى الأحياء أو حتى داخل الأسرة، وهو ما يعنى رصيدا إضافيا وهامشا أكبر لحركة أية قوة ديمقراطية. هذه المسافة بين الاتحادات العمالية وحزب العمال البرازيلى مثلاً هى التى سمحت للأخير بالوصول للسلطة وليس العكس. فى حين أن أزمة الحزب الحالية تعتبر فى أحد أوجهها أزمة جهاز سياسى تضخم وبدأ يسعى لفرض سيطرته الحركات الاجتماعية المحيطة به.
نستطيع الجزم بمنتهى الارتياح بأن الأحزاب العربية لا زالت أبعد ما تكون عن هذه الاستراتيجية. فالأحزاب الإسلامية، وهى أحزاب الأغلبية بين جميع قوى المعارضة، لا زالت فى غالبيتها تعتمد الأسلوب المركزى الهرمى فى تحديد استراتيجياتها وتسعى لفرض سيطرتها الحديدية على أية فعالية جماهيرية مستقلة خشية أن تنفلت وتفضى لوجود أكثر من قوة تنازع الإسلاميين هيمنتهم. فلنأخذ تجربة هيمنة الإخوان المسلمين فى مصر على النقابات المهنية كمثال. دافع الإخوان، ولا يزالوا، عن مركزية التنظيم النقابى وواحديته كما ينص عليها القانون الحالى، وهاجموا أى مطلب للتعددية النقابية أو حتى إعادة صياغة قوانين الانتخاب لتصبح أكثر لا مركزية: فإما احتكار وسيطرة كاملة على النقابات أو مصادرة الحياة النقابية على يد النظام الاستبدادى. وبالطبع أدى هذا إلى استمرار الخطاب الاستبدادى الأبوى معششاً فى أدمغة النشطاء النقابيين المنضمين حديثاً لتلك النقابات وما يستدعيه من كآبة تهيمن على المشهد النقابى ككل. فقبل أن يهلل اليسار مع هذه القوى الإسلامية لشافيز اليسارى عند صدامه الديماجوجى مع الولايات المتحدة لماذا لا نتعلم من "لولا" عندما يناضل من اجل الديمقراطية؟
الاستنتاج الثانى، هو أن فاعلية السياسة الخارجية أياً كانت توجهاتها مرهونة بتعبيرها عن مصالح أوسع قطاع ممكن من المواطنين وبمدى شرعية النظم التى تنتهجها. فعندما عارضت تشيلى مثلاً الحرب على العراق برغم العلاقات الودية مع الولايات المتحدة لم تنتهج الأخيرة ضدها أية سياسات عدائية. بل لم تلجأ الإدارة الأمريكية إلى سلاحها المفضل وهو وقف مفاوضات التجارة الحرة، لأنها تعلم جيداً أن قرار معارضة الحرب صادر عن نظام شرعى وقوى لا يمكن كسره بسهولة. بل أن وزيرة الخارجية الأمريكية لم تملك إلا الإشادة بتجربة تشيلى فى النمو الاقتصادى والتحول الديمقراطى واعتبارها نموذجاً يحتذى به لدول المنطقة. كذلك الحال بالنسبة لبرازيل "لولا" التى انتهجت سياسة نشطة من أجل فرض شروط تجارة عادلة ومقرطة نظام اتخاذ القرار داخل الأمم المتحدة إلى جانب معارضتها للحرب على العراق أيضاً برغم بدء مفاوضات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة. لم تستطع الولايات المتحدة كذلك أن تفرض عليها تنازلات سياسية فى أى من تلك المواقف. بل زار الرئيس بوش البرازيل خلال قمة الأمريكتين الأخيرة وعبر عن تطلعه لعلاقات أكثر عمقاً مع البرازيل فى المستقبل. كما هو الحال فى تشيلى، تعلم الإدارة الأمريكية جيداً أن نظام "لولا" شرعى ولم تستمع للأصوات المتشددة داخل المخابرات المركزية التى طالبت بانتهاج سياسة معادية للولا غداة انتخابه فى 2002.
العكس تماماً هو الحادث فى فنزويلا، إذ شجعت الثقوب البادية فى شرعية شافيز- والناتجة عن فشل سياساته الاقتصادية وعدائه الأصيل للديمقراطية- الإدارة الأمريكية على التدخل لزعزعة الاستقرار فى فنزويلا إلى جانب سهولة التعبئة ضده فى المحافل الدولية. سياسة تصدير الأزمة الداخلية للخارج على شكل افتعال عداوات مع الولايات المتحدة وجيرانه لم تسعف شافيز فى حين أن شرعية وديمقراطية تشيلى والبرازيل أسعفتهم فى معارضتهم للسياسة الأمريكية. خلاصة القول، أن إخضاع السياسة الخارجية لمتطلبات ومصالح أوسع قطاع ممكن من المواطنين وليس لاعتبارات إيديولوجية هو الكفيل بالوصول إلى نقطة توازن فى العلاقة مع الولايات المتحدة والسوق العالمى لا تنجرف إلى الصدام ولا تهدر المصالح الوطنية.


No comments: