صوت ديمقراطي جذري

29.8.06

تدين الطبقة الوسطى الجديدة : تدين بلا توبة.. وايمان بلا تجربة

أكرم اسماعيل


الطمأنينة دليل على سوء طوية النفس
اكثر ما يدهشني و يشد انتباهي في هذه الطبقة الواعدة، سكان المدينة الجدد،هو تعبيرهم الدؤوب عن النفوذ والطمأنينة والثقة ، الكتمان و طمس المأزق هو سرهم ،و تضرعهم إلى الله ينقصه الخشوع. هذا ما يشعر به أكرم إسماعيل.

منذ ظهور عمرو خالد ورفاقه الدعاة الجدد، انتبه المحللون إليه والى أصوله الاجتماعية، إلى صوته وطريقته في الأداء، إلي حرفيته في الانتقاء من الشريعة والسنة والتراث الإسلامي، هذه الانتقائية التى يغزل بها خطابه وإيقاعه وتوجهه، ولكن لم ينتبه هؤلاء المحللون انه قد تم إنتاج هذه الظاهرة ذات الطابع الديني وهذا الخطاب فى عمليه اجتماعية طويلة. تم فيها أيضا إنتاج الفيديو كليب، والسينما النظيفة، وفضائيات تسليع الخبر والقضايا.وبالتالي عمرو خالد هو أحد أبطال الطبقة الطامعة فى الحقبة.
فدعوة عمرو خالد ، مفردات خطابة، مغزى انتقائه لاطروحاته وطريقة برهنته عليها، كل ما حوله هو دعوة دينيه مفصلة لتناسب البرجوازية المدينية الجديدة أصدقاء المالتى ناشونال والبنوك وصناعة الخدمات والقطاعات الحكومية الحيوية الناجحة المندمجون نسبيا فى الاقتصاد العالمي وثقافته المرئية.
هذه الدعوة التي تستطيع بسهوله من خلالها قراءة كيف تعي هذه الشريحة الاجتماعية مصالحها وكيف تتصور طرق حماية هذه المصالح، وكيف تدفعها مصالحها إلى قراءة أيدلوجية خاصة للواقع الاجتماعي المصري. و هنا قد أكون قد وصلت لإجابة السؤال الذي لم أساله قط، هل تبنى هذه الشريحة الاجتماعية لهذا النموذج من التدين هو استعانة بالمرجعية الدينية في سؤال الهوية، في ظل هذا الاجتياح من حضارة السوق غربية الطابع ، أم أن هذا التدين نفسه هو تسويق إسلامي لليبرالية الجديدة، يمرر قيمها وثقافتها في وعى الطبقات الواعدة.
يعطى هذا الخطاب شرعية دينية لكل ما تقوم به هذه الشريحة اجتماعيا وثقافيا بالفعل، فمثلا حضور منتجات أدبيات النجاح الغربي- الأمريكي في توجه ولغة هؤلاء الدعاة مثيرة للدهشة فانهم يقتبسون الأمثلة بل والبناء بشكل مخل من هذا الأدب، الذي يوجه كل طاقته إلى إقناع مريديه باستحقاق فن الإدارة في أن يصبح دينا، بان السعادة والخلاص يمكن ان يضمنها لك إدارة علمية وحكيمة. فمن خلال تقديس المهارات الإدارية (القدرة على التفاوض-تكنيك وضع الأولويات- التعامل مع العلاقات الإنسانية على أنها مادة يمكن تحويلها إلى أرقام ومؤشرات، يمكن توصيفها في جداول ورسوم بيانية حتى يمكن تقييمها وتقييم جدواها ) يتحقق الإنسان. وقد يكون كتاب ستيفن كوفيس ( 7 habits to be highly effective person) سبع عادات لتصبح إنسانا فعالا ومؤثرا، هو خير معين في قراءة البناء المعرفي لهذه الأدبيات، وهنا أود أن استحضر بعض أمثلة عمرو خالد لتوضح الانسجام.
يرى عمرو خالد مثلا أن النجاح = إرادة + إخلاص +دعاء + تخطيط سليم، يرى أن متر الأرض في المعادى، اقتنائه أغلى و اصعب من الحصول على متر في الجنة الذي يمكن أن تتملكه بغضة بصر أو ركعتين على حد قوله، وبالتالي عليك أن تغض البصر لأنه خيار أجدى وأرخص. يجب عليك أن تقوم بالتسبيح والدعاء وأنت في طريقك للعمل لأنه وقت فراغ يمكن استثماره بشكل مربح للغاية.
هذه الشريحة الاجتماعية التي تعمل في المالتى ناشونال والبنوك ، جزء من تطوير مهارات أفرادها المهني هو تحسين قدراتهم الإدارية و قدراتهم في ترتيب الأولويات وتقييم جدوى الأمور، وبالتالي تصبح أدبيات النجاح مألوفة ومفهومة منطقية ومقنعة بل مبهرة وهى تتناول القضايا الروحية والإنسانية. فإلى أي مدى مريح ومناسب أن يتحول وجودك وعلاقتك بالله إلى مشروع يمكن أن تتلقى دروس في إدارته.
وهنا قد يظهر أن وعى هذه الشريحة من الطبقة الوسطى بمصالحها وخيارتها وصراع أفرادها للحفاظ على الوضع الاجتماعي قد دفعها لانتاج نموذج فكرى مرجعيته مبادئ الإدارة الحديثة، وان هذه الشريحة الاجتماعية تدرك حتى التجارب الوجودية والروحية من خلال هذا النموذج. ولكن قد يتجاوز الموضوع هذا الحد ويصبح نجاحك المهني وحفاظك على وضعك الطبقي هو في حد ذاته تقرب إلى الله.ومن هنا يبدو منطقيا دأب هؤلاء الدعاة لتحويل النجاح في حد ذاته إلى فضيلة.
ولان النجاح لا يمكن أن يصبح فضيلة إلا من خلال بعض الفرضيات، فقد قام هؤلاء الدعاة بإثبات صحة هذه الفرضيات. وهنا أود أن استعرض بعض هذه الفرضيات، أولا: النجاح لا يمكن أن يصبح فضيلة إلا في وعى يقرأ الواقع الاجتماعي على انه واقع منسجم ... فصورة مجتمع يحتقن بالتناقضات والتفاوتات الاجتماعية الصارخة وملايين من المهمشين صورة غير مناسبة ، يجب تبريرها بشكل لائق: الفقراء خص لهم الله رزقا ضيقا لحكمة ما وبالتالي الفقر ليس سؤالا أخلاقيا او اجتماعيا ولكنه شأن إلهي وراءه حكمه، وربما انهم فاشلون لا يديرون مشروعهم جيدا وهذا قدر الفاشلين ، ومن هنا على الفقراء أن يجتهدوا في العمل وفى التقرب من الله كسبيل للنجاة من اللعنة الإلهية، أما علينا نحن الناجحون هو مساعدتهم بالدعاء والزكاة التي تبدو هنا طقس لإدارة مشروع آخر ناجح مع الفقراء (نحن نصبح اكثر صلاحا ...نجاحا وهم يستفيدون من نجاحنا) وهنا تتحول الزكاة من كونها ممارسة:الغرض منها التضامن إلى ممارسه: الهدف منها الحفاظ على المركز الاجتماعي وترسيخ صورة المجتمع المنسجم.
ثانيا: قد تستدعى فضيلة النجاح بالضرورة كتمان بعض الأفكار الناجحة عن الزملاء (سر المهنة) والتستر على الحيل الذى يستعين بها الفرد لتكليل النجاح . وقد تستدعى متطلبات صورة الصلاح أن يبدو الفرد دائما مطمئنا واثقا ناجحا ،وأن يدارى المعاناة والمرارة مما أدى إلى تراجع ثقافة الشكوى والمواساة غيرالمجدية لمشروع الفرد في الصعود على السلم الاجتماعي والتي قد تضر بمظاهر النجاح.
ثالثا: على الفرد الناجح أن يتخلى عن كل شيء قد يعوقه ولايمكن أن أجد مثلا اكثر دلالة من العلاقات العاطفية، فهدا الخطاب الديني يدين بشكل حاد ومنهجي العلاقات العاطفية فقد يتخللها بعض المعاناة التى لا جدوى منها وضياع للوقت ، ولأنها مهددة بالضرورة لمظاهر الورع والصلاح الاجتماعي وبالتالى فهى دينيا مكروهة بل ومحرمة. فيصبح الزواج الفاخر المبكر هو الوسيلة الآمنة الضامنة لرضا الطبقة والله. ولا يمكن أن أنسى مقولة عمرو خالد أن الارتباط العاطفي قد يدمر الأسرة المسلمة فإن ارتباط عاطفي فاشل قد يلقى بظلاله على العلاقات الزوجية التقليدية الحميدة عندما لا يستطيع أحد طرفي الزواج نسيان هذه العلاقة العاطفية وتجاوزها.
رابعا: لا يحتمل هؤلاء المؤمنون الجدد(الملتزمون) الشك ،هم جادون في ألا يتساءلوا،ألا يشكوا،ألا يطرحوا أو يتحمسوا للاسئلة الكبرى إنسانية كانت أو وطنية أو قومية ومادام مشروعهم ناجحا صالحا محققا الرضا الاجتماعي الذي يعكس رضا إلهي فإنه لا داعي للشك الكافر.

مؤشرات التحلي بالفضيلة
وبعد مروري على الأمور التي تجعل تحول النجاح الى فضيلة ممكنا نظريا. علينا أن نفهم أن للنجاح مؤشرات وان الإنسان المتحلي بفضيلة النجاح عليه أن يجنى ثماره وان يحدث بنعمة ربه فعليه ان يظهر أمارات النجاح التي لا يمكن إلا أن تكون عربة فاخرة وملابس ثمينة وأثاث مبهر وشاليه في مصيف يليق...فيصبح معدل الاستهلاك هو معدل جنى ثمار النجاح والتحلي بالفضيلة .وعلينا هنا ان نتذكر عمرو خالد وهو يمدح المؤمن( الشيك) الوسيم الجدير بان يصبح القدوة الحسنة للآخرين( وهنا أود أن استحضر كيف كانت الطرق الصوفية تفترض النقيض ، فالقدوة لديهم هى الزاهدة المضحية ببريق الدنيا وترفها) .وفى هذا السياق يمكن تفسير اهتمام الطبقات الوسطى الأفقر بمختلف شرائحها بعمرو خالد.فانهم معنيون بأمره ليس فقط لأنه داعية إسلامي مجدد ولكن لأن خطابة يغوى تطلعهم الاجتماعي وشوقهم لهذه الحياة وهذه المعدلات من الاستهلاك والترف.

لا تنازل عن الفردية
يفترض تدين هذه الجماعة بالضرورة أن التجربة الإيمانية هي تجربة فردية بل أنها في مواجهة مع الآخر وقد يغنيني عن الشرح المستفيض مقارنة سريعة مع الطرق الصوفية( تدين الحرافيش ) وهو نمط تدين تبنتة طوائف الحرفيين التي ظهرت فى مصر فى اوائل القرن التاسع عشر ،فقد انتمت هدة الطوائف للطرق الصوفيةالتى صبغت المزاج الدينى فى مصرفى تلك الفترة .هذا التدين الذي عبر عن قدر هائل من التضامن ، يعكس مقدار التكافل الاجتماعي الذي كفلتة طوائف الحرفيين لأبنائها، ففي ظل ذلك النظام الاقتصادي البدائي نسبيا، كان وعى الأفراد بمصالحهم الاجتماعية هو وعى جماعي فان نجاح الطائفة هو أمان للفرد والتكافل الاجتماعي هو جزء لا يتجزأ من حماية المصالح الفردية . فكانت التجربة الإيمانية لهذه الجماعات تجربة جماعية فالحضرة والمولد هي طقوس دينية لا يمكن إتمامها إلا مع الجماعة، صحيح أن الفرد سوف يلقى ربه وحيدا ولكن تدينه لا يكتمل إلا من خلال الجماعة.أما الملتزمون الجدد فانهم لا يتضامنوا مع الآخر بل انهم قد يديروا معه مشروع مجدي ناجح ، وهنا اذكر شعار إحدى الجمعيات الخيرية ( ساعد الفقراء واحجز مكانك في الجنة).
إننا هنا أمام تدين يعلى من القيم الفردية، يقدس النجاح المهني، يحرض على التنافس ، يعمق ثقافة الاستهلاك، يدرس جدوى كل ممارسة دينية ولا يتناول قضايا الإنسان الكبرى ، هو بوضوح تسويق إسلامي لاقتصاد السوق.

موت السياسة
يزداد نفوذ هذه الشريحة وتتبلور مصالحها الاجتماعية و تفرض مزاجها الاستهلاكي والثقافي على المدن يوما بعد يوم ، تعبر عن مصالحها من خلال علاقتها بل قرابتها للقيادات البيروقراطية والأمن ، ولكنهم بطبيعة حال القوى الاجتماعية في مصر لايعبرون عن مصالحهم سياسيا ، وقد يكون هذا هو المأزق الذي يحله عمرو خالد ورفاقه ، فبينما تواجه الدولة المصرية ضغط دولي لاستكمال برنامج الخصخصة وإعادة الهيكلة وتطبيق بنود معاهدات التجارة الدولية ،تندمج هذه الطبقة تدريجيا مع الاقتصاد العالمي وتتبلور مصالحها بدون اى تعبير سياسي عن هذه المصالح مما قد يجعل هذا الخطاب الديني هو سبيل أيدولوجى للتعايش مع الليبرالية الجديدة واقتصاد السوق في ظل غياب التمثيل السياسي .
ولكن المشكلة هنا أن هذا الخطاب لا يمكن أن يغنى عن السياسة فهو قد يساعد على تسويق أيدولوجيا الليبرالية الجديدة ولكن يظل وعى هذة الشريحة بمصالحها الاجتماعية مشوها وغير مكتمل بدون تمثيل سياسي يفرض بعض المعايير ويحرضها على تبنى خيارات واقعية تعزز مواقعها وتحميها.
ومن هنا تتبنى هذه الشريحة الاجتماعية في أحيان كثيرة ادعاءات الأمن المفترضة مثل تهديد الفقراء وسكان العشوائيات لأمنهم ومصالحهم ومن خلال هذا تنجح الدولة في لعب دور الشرطي المسؤول عن تامين مصالحهم فى مواجهة جمع الفقراء الخطرين مقابل التنازل عن التمثيل أو حتى المطالب السياسية. وبالتالي يتربع خوف مفترض من جماهير الفقراء في تصور هذ الشريحة عما يهدد مصالحها ،مما يشكك في تبنيها لأي مشاريع تنموية حقيقية،بل يقطع هذا التصور الأمني الطريق على تبنىهذه الشريحة الاجتماعية أي مشروع اجتماعي يتبنى تحسين الأحوال المعيشية لجمع الفقراء حتى يمكن أن نأمن جانبهم .وتظل تسلك طريقتين في التعامل مع جموع المهمشين اما من خلال العمل الخيري او من خلال النظرية الأمنية .
ويبدو أن المشروع الذي ابتدعه عمرو خالد وتبناه مريدوه له مغزى ، هذا المشروع التنموي القائم على قدرة الفرد على التغيير ، كيف يمكن أن تواجه مشكلة البطالة والفقر وتلوث البيئة وأزمة المرور والأمية و تحسين الخدمة الصحية وأزمة السكن ...الخ من خلال مجهودات فردية خيرية ، نتوسط من خلال علاقتنا بالقيادات لتوفير فرصة عمل لشخص ما ونقوم بجمع التبرعات لتحسين أحوال الفقراء و نتبرع لبناء جامع يكون دار عبادة ودار لفصول التقوية الدراسية وعيادات طبية ، و نقوم بزراعة الحي ونتوسط لإيجاد مأوى لأسرة مشردة ....وكيف يمكن من خلال الوساطة لاجهزة الدولة تحسين الوضع .
يعكس هذا المشروع بوضوح كيف تقرأ هذه الشريحة الاجتماعية الواقع الاجتماعي المصري وكيف تحاول تناوله والاشتباك معه بدون التطرق للسياسة وكيف تخلق آليات للقيام بهذا المشروع الخيري التي تختبر فيه نوعا ما نفوذها، مستخدمة وسائلها.... القرابة للبيروقراطية و(الواسطة).ولكن هل يمكن أن تكون حماية المصالح والتعبير عن النفوذ فقط من خلال الواسطة؟
وأخيرا يتضح لي أن هذه الشريحة الاجتماعية المدللة من الدولة والمهيمنة على أنماط الاستهلاك والمجال الثقافي والمتدينة تدينها الخاص المتصالح و المتحيز لمصالحها، المندمجة في الاقتصاد العالمي والطامحة في اندماج أوسع، المنفصلة عن الواقع الاجتماعي لجموع المصريين ، المفطومة من كل الهواجس القومية والوطنية هل يمكن أن تكون قوى اجتماعية ديمقراطية ، هل قادرة على أن تصبح وقودا لانتاج المعايير وتحسين معدلات النمو، أم أنها بنت الدولة المدللة ، غير قادرة إلا على التلويح بالامتعاض ، تهوى المسكنات ذات الطابع الديني المناسب ،غير المحرض ،متبنية نظريات الامن حول الفقراء، المحافظة على معدلات استهلاك عالية من دخل صناعة الخدمات التى تضمنها لهم الدولة من خلال صفقات سياسية اقتصادية، فتظل الصفقة بين الدولة وبينهم أنها هي الضامنة لأمنهم وولائهم، تظل الدولة هي الأم الحارسة وتترك لهم ظنهم بأنهم صناع الحياة.







No comments: