صوت ديمقراطي جذري

1.6.06

"ورد الجناين إذ لا يكونوا عشاقأ ولا شعراء ولا شهداء بالضرورة"


ما وراء الانتفاضات الطلابية:
خبرات تنظيمية من العمل الطلابى اليومي


عمرو إسماعيل و عمرو عبد الرحمن


رجعوا التلامذة
ياعم حمزة للجد تانى
يا مصر وانتى اللى باقية
وانتى قطف الأمانى
لا كورة نفعت ولا أونطة
ولا مناقشة وجدل بيزنطة
ولا الصحافة والصحفجية
شاغلين شبابنا عن القضية
..............
رجعوا التلامذة ورد الجنايين
اسمع يا"هيكل" وشوف وعاين
ملعون أبوك إبن كلب خاين
هكذا استقبل أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام مظاهرات الطلاب فى يناير 1972. لا يستطيع المرء أن يكتم إعجابه بالنزعة الرومانسية التى تحول بمقتضاها الطلبة من حفنة من الشباب المغيب مشغول بـ"الكورة" وغيرها من مظاهر الهزل إلى "ورد الجناين". حدث ذلك بمجرد تمثل قضية الوطن الكبرى والتظاهر باسمها ضد أبواق النظام وصحفييه وعلى رأسهم محمد حسنين هيكل الذى حمل عليه الطلاب بعنف قبل أن يساقوا إلى الزنازين فى مشهد جنائزى تغنى به عدد كبير من الشعراء. وبعد ثلاثين عاماً بالتمام والكمال وقف هيكل نفسه أمام بضعة آلاف من الطلبة فى الجامعة الأمريكية ينتمى أغلبهم للجامعات المصرية مرتدين سترات أنيقة أو فساتين سهرة فى محاضرة لم تنظمها لا الإدارة الجامعية ولا أى تيار سياسى آخر. أما هيكل نفسه فكان يلقى محاضرته بالإنجليزية- بدون ترجمة إلى العربية- عن مستقبل الهيمنة الأمريكية. انتهت المحاضرة ولم يتحمس الشباب بهجوم هيكل المباشر على ممارسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة ولم يخرجوا فى مظاهرة صاخبة أو ما شابه. وفى المقابل لم يكن هناك ما يشير إلى أى اختلاف مع أطروحات الرجل. بل قضى هذا الشباب ليلة لطيفة فى حديقة قاعة إيوارت وتناول عشاءً فاخراً ورقص وغنى حتى ساعة متأخرة من الليل. وكان فى لهوه هذا يحتفل بافتتاح نشاط سنوى ينتظم فيه الآلاف من الطلبة وهو "نموذج محاكاة جامعة الدول العربية" والذى سيناقش فى أيامه الأربعة كافة القضايا الكبرى المطروحة على جدول أعمال القوى السياسية المصرية والعربية من إصلاح سياسى ودستورى وحرب محتملة على العراق وقمع وحشى لانتفاضة الشعب الفلسطينى.
ربما إذا كان قد قُدر للشيخ إمام ونجم حضور مثل هذا الحدث لما وجدوا فيه ما يدعو للاحتفاء بذوى السترات المنمقة الذين لا يشبهون "ورد الجناين" فى شىء. فلا هم فى صدام مع الشرطة من أجل قضية وطنية كبرى ليست أقل من اغتصاب أرض الوطن أو حقوق مواطنيه ولا هم فى دفاع عن مصلحة مادية مباشرة لطلاب معدمين أو معوزين؛ وهى أنواع الصدام التى وصفها نجم بـ"الجد". على أن إعلاء الأنشطة الطلابية التى يتمحور موضوعها حول القضية الوطنية الكبرى أو المصلحة الطلابية المباشرة على ما عداها من فعاليات تجرى داخل أسوار الجامعة وينتظم حولها الآلاف من الطلاب ليس اختراع نجم وإمام فقط ولكنه ممارسة فكرية وسياسية، استقرت لعقود على يد مثقفينا الثوريين، لا ترى فى "الحركة الطلابية" إلا الانتفاض وما عدا ذلك يحال إلى الهامش أو يتم تعيينه بوصفه إرهاصاً لانتفاض آخر وشيك. ولعقود شكل الطلاب أسراً وجمعيات وعشائر للجوالة وأجروا عدداً لا يحصى من انتخابات اتحاد الطلاب وسيطروا على ميزانيات وأنفقوا أموالاً طائلة وكونوا فرقاً مسرحية ونظموا رحلات ومعارض وحفلات موسيقية ولم يحظوا بشرف الوصف الساحر: "ورد الجناين". ولعقود مازال الخطاب السائد فى صفوف المعارضة المصرية عاجزاً عن رصد التحولات الجذرية لعلاقات السلطة داخل الجامعة على يد الأنشطة الطلابية اليومية وخبراتها المتراكمة ومنها الخبرة التنظيمية وهى موضوع عددنا هذا. فعن أحد هذه الأنشطة اليومية وخبراتها همومها نروى خبرتنا الذاتية.
إذن.. نحن عن هذا "الهزل" نتحدث.
نماذج المحاكاة:
لا القضية الوطنية ولا المصلحة المادية بل المتعة الذاتية
ركزت أغلب الدراسات التى تناولت الحركة الطلابية المصرية على الطلاب كفئة اجتماعية متميزة ذات مصالح يمكن تعيينها بدقة وعلى الجامعة كساحة مفتوحة تعبر فيها هذه الفئة عن مصالحها. واختلفت النظرة لهذه الفئة باختلاف المدرسة الفكرية التى يستند إليها الباحث: فنسبت إليها وظائف مثل تجنيد النخبة والتنشئة السياسية عند البعض فى حين نظر إليها الكثيرون من منظور راديكالى كممثل للمجتمع ككل فى المجال العام- وهو ما عرف بالإنتليجنسيا حاملة القضية الوطنية- أو حتى كمحرك للثورة ضد النظام الرأسمالى. لسنا هنا فى معرض مناقشة صحة فرضيات أى من المدرستين. ولكن ما يعنينا أن التركيز على الطلبة كفئة اجتماعية متميزة قد أدى إلى التركيز على أشكال الاحتجاج الاستثنائى فى مواجهة الدولة والتى تتلاءم مع هذا التصور: التظاهر ضد رفع المصاريف، الاحتجاج على غياب العمل السياسى داخل الجامعة، النضال من أجل تعديل الإطار التشريعى للعملية التعليمية. وهو ما أدى فى النهاية إلى تبنى نظرة مفرطة فى تسييسها للعمل الطلابى وغياب التركيز على العلاقات المؤسسية وتوزيع السلطة داخل الجامعة المدنية كأحد أهم منتجات التحديث فى مجتمعنا.
نحن لا نعتبر الجامعة ساحة محايدة لتصارع فئات اجتماعية متميزة ولكن ننظر إليها كمجال لتشكل ذاتية متميزة هى ذاتية الطالب. فمن خلال تقاطع العديد من الممارسات والعلاقات المؤسسية تظهر الجامعة كمرحلة انتقالية يتعرف من خلالها على الحياة العامة ويتطور من أجل الدخول إلى الحياة العملية، سواء على المستوى المهنى أو مستوى العلاقات الشخصية. فالطالب هو فى حالة استكشاف وترقب دائمين وانفتاح على الجديد لا ينقطع ويتم الاحتفاء به من قبل الخطاب الرسمى عن الجامعة. والأنشطة الطلابية تحتل موقعاً استراتيجياً فى تحديد هذه الذاتية بوصفها الممارسة التى ينفتح بها الطالب على عوالم جديدة أهمها مثلاً العلاقة بالجنس الآخر أو الطلاب القادمين من أقاليم أخرى أو التحكم فى الميزانيات واكتساب خبرات الإدارة.
هذا من حيث المبدأ. أما شكل ومسار هذه الأنشطة فيتحدد تاريخياً نتيجة تقاطع العديد من الممارسات داخل الجامعة كالسوق والاتصالات وأثر الإعلام والخلفيات الثقافية وغيره. وعلى خطوط تقاطع عدد من هذه الممارسات داخل الجامعة تتشكل ممارسة جديدة تتفق مع النشاط الطلابى عموماً فى تركيزه على المتعة الشخصية والمعرفة الذاتية وتوسيع المدارك وإن كانت تفوق ما عداها من أنشطة بمراحل فى هذا الصدد.
شهدت الحياة الجامعية نشوء أشكال تنظيمية جديدة خلال العقدين الماضيين، على رأسها نماذج المحاكاة Models التي ظهرت في الجامعة الأمريكية عام 1990، ثم انتقلت إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة في عام 1998، وذلك محاكاة للعمل السياسي الجارى في منظمات دولية كالجامعة العربية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. وأعقب ذلك انتشار واسع لهذه النماذج لتشمل عددا من كليات جامعة القاهرة خلال السنوات القليلة الماضية، وتماشى ذلك مع ظهور أنشطة خيرية وتنموية تقوم على توزيع سلع وخدمات مجانيا تنظم على هامش هذه النماذج. ويميز هذه الأشكال التنظيمية عدد من السمات عما سبقها من تنظيمات غلبت على الحياة الجامعية طوال عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات نختصرها فيما يلي:
أولا: الطابع غير السياسي لهذه الأشكال التنظيمية. فمن ناحية لا ترتبط هذه التنظيمات بأي من الحركات أو التنظيمات السياسية الواقعة خارج الجامعة، ومن ثم فهي تختلف جوهريا عن نظيراتها التي لا تعدو أن تكون فروعا لتنظيمات اشتراكية أو إسلامية خارج نطاق العمل الجامعي. ومن ناحية أخرى لا تحمل هذه الأنشطة أية صفة أيديولوجية واضحة، حتى تلك التي تحمل الطابع الديني الخيري، فإنها مصطبغة بالشكل التطوعي والأخلاقي للدين أكثر مما هي ممثلة لتصورات أيديولوجية. وينسحب الاستنتاج ذاته على النماذج التى تضطلع بنشاط تثقيفي وتعليمي تحاكي فيه مؤسسات قومية كجامعة الدول العربية، أو منظمة المؤتمر الإسلامي. فهى تدير هذه الأنشطة عادة على نحو موضوعي ومحترف professional مما يجعلها أقرب للتوعية منها للدعاية.
ثالثا: يمثل الجانب المالي والارتباط بالسوق بعدا تنظيميا أساسيا من هذه الأشكال التنظيمية سواء تلك الخيرية والعاملة في مجال التنمية أو النماذج التي تحتفظ بميزانية سنوية تستند بالأساس إلى أنشطة حشد موارد مالية من مؤسسات السوق الحر الهادفة للدعاية والإعلان Fund Raising. وتضم هذه الأنشطة هيئات ولجان تنظيمية تضطلع بعمليات تعبئة الموارد وإدارتها، وهو ما يعكس ظاهرتين: الأولى منهما عدم اعتماد هذه الأنشطة المالية على المساعدات التي تقدمها الجامعات أو الكليات أو الأقسام (بخلاف الأشكال المدمجة في إدارة الجامعات المصرية كاتحادات الطلاب مثلا). والثانية: حضور بعد الإدارة المالية المرتبط بجوانب إدارة الأعمال Business administration والدعاية والإعلان Advertisement، وهو ما سيكون له بصمة ظاهرة على علاقة تلك الأنشطة بإدارات الجامعات.
مستقبل نشطاء النماذج:
أى خبرة تنظيمية أنتجها هؤلاء الشباب؟
هل تعتبر هذه الأنشطة بشكلها التنظيمي المذكور انعكاسا لوعي الطبقة الوسطى الجديدة، وقناة اجتماعية تصوغ هذه الفئات من خلالها هويتها وعلاقاتها بغيرها من الفئات الاجتماعية الأخرى؟ هل تعكس هذه الأنشطة بأبعادها التنظيمية والمالية وخلفية أعضائها الاجتماعية أنماطا استهلاكية معينة تسود الطبقة الوسطى الجديدة في مقابل غيرها؟ ما هي احتمالات تسييس هذه الأنشطة؟ وهل تضخ دماء جديدة في حركة طلابية تطالب بالتحول الديمقراطي؟
رغم أن أشكال التنظيم الجديدة محل الرصد غالبا ما تنزع لتعريف نفسها على أسس احترافية، وتنأى بنفسها عن الانتماءات الأيديولوجية الواضحة أو العلاقة بتنظيمات سياسية خارج السلك الجامعي، فإن هذه الأشكال تطرح مسألة تسييس الشباب الجامعي المنتمي للفئات المتوسطة وموقفه من مسألة التحول الديمقراطي. ويمكن القول فى هذا الشأن بأن الأشكال التنظيم التطوعية غالبا ما تميل لمساحة أكثر اتساعا من حرية التنظيم والتجمع والإدارة. خاصة أن نجاح معظم هذه الأنشطة في تطوير موارد مالية مباشرة لها من خلال علاقاتها مع السوق دعم استقلاليتها في مواجهة الإدارة، وهو ما تحقق بالفعل في نماذج محاكاة جامعة القاهرة التي تمثل مصدر دخل للإدارة أكثر منها عبئا عليها. ومن ثم فإن هذه الأشكال التنظيمية تفترض قدرا لا بأس به من تبني بعض قيم الحرية. ويضاف إلى ذلك أن عمل بعض هذه الأنشطة في مجالات التوعية السياسية والثقافية والتعليم والتنمية يتيح فرصة لاتخاذ موقف إزاء عمليات الحراك السياسي غالبا ما تصب في الحاجة لمزيد من الحريات، وهو ما انعكس في الأعوام القليلة الماضية في تزايد استخدام نماذج المحاكاة في الجامعة الأمريكية، وكذا في جامعة القاهرة، كمنابر للتعبير عن مواقف طلابية ماسة بما يجري على الساحة السياسية المصرية.
يسعنا أن نفترض أن الطبقة الوسطى الجديدة نتاج وعي اجتماعي وسياسي تخلقه علاقات اجتماعية متشابكة بين الأفراد الذين ينزعون لتعريف أنفسهم ضمن هذه الفئة في مواجهة غيرهم. فهل يمكننا في هذا السياق اعتبار أشكال التنظيم المشار إليها في الحياة الجامعية قنوات يتشكل وعي الطبقة الوسطى من خلالها؟ وبالتالي هل يعكس الشكل التنظيمي، والعلاقة بالإدارة والسوق الأنماط الاستهلاكية والقيم الاجتماعية لتلك الفئات؟
فإذا ما افترضنا أن اشتراك الأفراد في نشاط كنماذج المحاكاة ينبع من كونه نشاطا غائيا عقلانيا Rationality Assumption حيث توفر النماذج جملة من المهارات الشخصية المكتسبة كالمهارات الخطابية والحوارية واكتساب لغات أجنبية، بالإضافة لما يمثله النموذج من إطار للتعارف والتنشئة الاجتماعية Socialization توفر مساحة مستقبلية لبناء علاقات شخصية وصداقات ومعارف غالبا ما تدخل مع الأفراد لاحقا إلى سوق العمل سواء مجال الشركات أو البيروقراطيات الحكومية التي غالبا ما يقصدها خريجو أقسام اللغات في كليات الحقوق والتجارة والاقتصاد والعلوم السياسية، بالإضافة لخريجي العلوم الاجتماعية بالجامعة الأمريكية، ويتقاطع مع نشاط النموذج مؤسسات تقليدية طالما استندت إليها الطبقة المتوسطة في إدارة حياتها اليومية، وبالأخص العلاقات الشخصية والعائلية، وهو ما يبدو واضحا إلى حد كبير في مسألة تنمية الموارد المالية من الشركات، وتأمين قنوات للتواصل مع مؤسسات سياسية محلية، ورموز للفكر والسياسة.
وبرغم أن فرضيات العلاقة والغائية تنطبق جزئيا على الأنشطة الجامعية محل الدراسة إلا أن ذلك لا يحيد بنا كثيرا عن الطابع الاجتماعي الحديث لهذه الأشكال التنظيمية والذي يتجاوز الفرضيات الأولى للتنظيم التطوعي القائمة على أسس العائد الشخصي أو العقلانية والرشاد خاصة وأن جانبا كبيرا من هذه الأنشطة يعكس نمطا معينا للحياة Style of Life بما تشتمل عليه من أنشطة ترفيهية واجتماعية تتمايز كثيرا عن الطابع المحترف لعمل هذه الأنشطة سواء في المجال الخيري والتنمية،أو كنماذج المحاكاة التي تعمل على تنمية مهارات أعضائها،وتمارس قدرا من التوعية الثقافية والإعلامية.
إذن، مع ثبوت قسمات مشاركة الطبقة الوسطى الجديدة في الأنشطة الجامعية هذه،وفي ضوء نشأة هذه الأنشطة بالأساس في دوائر أقسام اللغات الإنجليزية والفرنسية بكليات جامعة القاهرة، إضافة للجامعة الأمريكية بالقاهرة، وهو ما يفصلها عن الطبقة المتوسطة التي تكونت إبان العهد الناصري بالتوازي مع توسيع مظلة التعليم الجامعي المجاني وعن الأشكال التنظيمية التقليدية لها، أى عن الفئات التي تضم موظفي الحكومة ومتوسطى ملاك الأراضي الزراعية وغيرها من فئات البرجوازية الصغيرة التي استند إليها النظام الناصري في الخمسينيات والستينيات لإتمام مشروعه القومي.
ولكن هل تقتصر هذه الأنشطة الجامعية الجديدة على الطبقة الوسطى الجديدة دون غيرها من الفئات الوسطى التي تكون السواد الأعظم من طلبة الجامعات المصرية، وبخاصة القاهرة وعين شمس؟ المشاهدة تثبت عكس ذلك، فإذا كانت نماذج المحاكاة قد بدأت في دوائر ضيقة لطلاب الطبقة الوسطى الجديدة فإن اتساع نشاط هذه النماذج في العقد الماضي شهدت إدخالا لقطاعات واسعة متنوعة من طلبة الجامعات المصرية كالقاهرة وعين شمس والأزهر بل وبعض كليات الأقاليم. ويشهد على ذلك كثرة عدد المنضمين للنماذج الناطقة باللغة العربية في كل من الجامعة الأمريكية وكليات الاقتصاد والعلوم السياسية والتجارة بجامعة القاهرة. وهو ما يشير إلى أن الأشكال التنظيمية متجاوزة لوعي طبقي ضيق لصالح نشاط طلابي أكثر انفتاحا على فئة "الشباب". ويدعم هذه الفرضية تحول أسر النماذج هذه إلى أشكال مؤسسية هرمية الطابع Hierarchical تعطي طابعا يوحي بسلك العمل الدائم، واستمرارية في عضوية النشاط طوال سنوات التعليم الجامعي الأربع أو الخمس بغض النظر عن الخلفية الاجتماعية.
وماذا عن العلاقة بالتنظيمات السياسية:
الاحتراف فى مواجهة الأيديولوجيا؟
وتبقى نقطة أخيرة فى هذا الصدد وهى محاولة تبيان أثار احتراف عدد من الطلاب المشاركين فى هذه الأشكال التنظيمية على الأنماط التنظيمية التقليدية السائدة داخل التجمعات السياسية داخل الجامعة أو خارجها. لا تزال هذه الحالات محدودة إن لم تكن نادرة حتى هذه اللحظة. فى بعض الأحيان ينزع عدد من الطلاب إلى الانخراط فى بعض تشكيلات الحزب الوطنى وثيقة الصلة ببعض رموز "الجناح الإصلاحى" فى الحزب الوطنى. فى أغلب الأحيان يتم الالتحاق عن طريق بعض الأكاديميين الأعضاء فى الحزب أو عن طريق العمل فى بعض الأجهزة الحكومية الأكثر ارتباطاً بحركة الاقتصاد العالمى كوزارة الاستثمار أو الخارجية أو التمثيل التجارى. فى هذه الأحوال يكون الالتحاق بالنسبة للطالب القادم من خلفية هذه الأنشطة بمثابة استكمال لـ"نشاطه العام" الذى بدأه فى الجامعة وطريقة للتأثير فى صنع السياسة العامة والتى تعلم عنها الكثير داخل نماذج المحاكاة. أما الاعتبارات الأيديولوجية فتأتى فى آخر قائمة مبررات الانضمام للحزب الوطنى، هذا إن وجدت أصلاً.
وفى المقابل، يعامل هذا الطالب بتقدير بالغ داخل تشكيلات الحزب، إذ ينظر إليه بطريقة أقرب للخبراء الأجانب منها إلى النشطاء السياسيين؛ فهؤلاء شباب حاصلين على تعليم متميز، يجيدون لغة أجنبية أو أكثر، وقادرين على الاشتراك بفاعلية فى عملية صنع السياسات. أى أن الخلفية الاحترافية هى مفتاح الالتحاق سواء لدى الطلاب المتمرسين فى عمل نماذج المحاكاة أو لدى كوادر الحزب الوطنى من أكاديميين أو مسئولين حكوميين. أما فى الحالات التى يلتحق بها الطالب بأحد أحزاب أو حركات المعارضة البازغة فتكون الدوافع هى ذاتها تقريباً: استكمال الاهتمام بالنشاط العام واستثمار ما تم اكتسابه من خبرات فى إثبات "الذات"، والتى يتم تعريفها الآن بوصفها الذات المهتمة بالشأن العام. أما العوامل الأيديولوجية فتتوارى كذلك. الفارق الوحيد هو أن الحزب الوطنى وتشكيلاته تفتقر إلى الإلهام الكافى والمغرى للانضمام إليها كما أنها موصومة دائماً بصفة "الفشل" فى إدارة شؤون الدولة والمجتمع والذى يقترب فى توصيفه من الفشل الإدارى أو الوظيفى.
ولا يختلف الحال كثيراً لدى الطلبة المنتمين للتيار الإسلامى، سواء كانوا أعضاء فى جماعة الإخوان المسلمين أو حزب الوسط، مع فارق طفيف وهو أن عضوية الطالب داخل هذه الجماعات عادة ما تسبق التحاقه بأحد النشطة الطلابية السابق الإشارة إليها. فدافع الانتماء إلى أحد هذه التيارات السياسية إما يتشكل أو يعاد تعريفه- فى حالة كون الطالب منتمياً إلى التيار الإسلامى من قبل- فى علاقته بالالتزام تجاه المجتمع ورفاهيته ونهضته، والذى يرقى إلى مرتبة الفرض الدينى فى هذه الحالة، فى حين تتراجع الاعتبارات الأيديولوجية الإسلامية التقليدية مثل الالتزام بتعاليم الإسلام التى تؤمن الحياة المادية والروحية المتوازنة فى مواجهة مادية أساليب الحياة الغربية وخوائها الروحى. كل هذه الترسانة الأيديولوجية تتراجع للوراء مفسحة الطريق للحديث عن نهضة الأمة التى لن تتحقق بدون "الانشغال بأمر المسلمين".
فإذا كانت هذه هى الدوافع فكيف تكون آثار الانضمام على الهياكل والممارسات التنظيمية القائمة؟ نستطيع رصد ثلاثة أنماط رئيسية من التأثير مع التشديد على حقيقة أن هذا التأثير يتم فى حدود ضيقة للغاية فى ضوء ما ذكرناه عن إحجام عدد كبير من الطلبة عن الانضمام للهياكل السياسية القائمة:
أولاً: يتميز نشطاء نماذج المحاكاة وغيرها من الأنشطة الطلابية بالنزوع الدائم نحو اللامركزية فى القرارات والممارسات دونما تقيد بخط تدفق القرارات القادم من أعلى لأسفل دائماً. والنزوع اللا مركزى هذا قادم من طبيعة النشاط ذاته الذى ولد واكتسب ملامحه التنظيمية وطور موارده المالية داخل الجامعة باستقلال كامل عن أى من التيارات السياسية أو المؤسسات التعليمية الرسمية. وتتخذ المبادرة أشكالاً متعددة كتأسيس مؤسسات أهلية موازية للهيكل الحزبى وإن كانت غير خاضعة له تنظيمياً يديرها الناشط ويعبئ جزءاً من مواردها المالية لمصلحة الحزب -وهى حالة عدد من شباب حزب الوفد ممن شاركوا فى نماذج المحاكاة تلك.
ثانياً: بصفة عامة يتميز هؤلاء النشطاء الجدد بتجاوز الحدود التنظيمية الصارمة التى تفصل بين المنتمين إلى التنظيمات السياسية المختلفة بغض النظر عن الحدود الأيديولوجية الصارمة. ويتخذ هذا الانفتاح أشكالاً متنوعة تجمعها الأرضية المشتركة وهى الاحترافية والرغبة فى الإنجاز العملى الملموس. فعلى سبيل المثال تتم الدعوة إلى الفعاليات المخصصة لمناقشة القضايا العامة مثل المشاركة السياسية أو قضايا التنمية أو التنسيق المشترك فى بعض الفعاليات الخاصة بالقضايا الإقليمية مثل الاحتجاجات المناهضة للحرب أو المنظمة للتضامن مع الشعب الفلسطينى. وإذا كنا قد خبرنا هذا الانفتاح بشكل مباشر مع الطلاب المنتمين إلى حزب الوسط وحزب الوفد- خلال التحركات الأخيرة المطالبة بالإصلاح على سبيل المثال- والذين شاركوا فى بعض النماذج فى السنوات الماضية، إلا أننا قد خبرنا ذلك أيضاً مع ناشطين اثنين انضموا حديثاً للحزب الوطنى. بل أن أحد النشطاء من الحزب الوطنى الديمقراطى ما زال يحتفظ بصلة وثيقة مع الكثير من نشطاء حركة كفاية ويداوم على حضور بعض فعالياتها. أى أن هذه الأنشطة تقترب حتى الآن من نفس الدور الذى لعبته التشكيلات النقابية المهنية أو حتى بعض مستويات منظمة الشباب فى العهد الناصرى من تعريف النخب السياسية المختلفة إلى بعضها البعض وخلق جسور للحوار المشترك بعيداً عن التحزبات الأيديولوجية؛ وهى العملية التى ظلت محتبسة لعقود نتيجة إحكام القبضة الأمنية على العمل المدنى.
المثير فى عملية الانفتاح والتنسيق التى ينظمها منتمون سابقين إلى الأنشطة موضوع النظر أنها لا تستدعى لغة الجبهات أو التحالفات المألوفة لدى التنظيمات السياسية والقائمة على مبدأ التمثيل النسبى وصياغة الوثائق أو البيانات الفكرية من خلال التوافق المشترك على الحد الأدنى. على العكس من ذلك يندر على حد علمنا أن تمت صياغة أية أوراق أو بيانات تأسيسية فى الأنشطة التى قمنا بتنظيمها مثلاً فى بعض لجان حزب التجمع- جمع التبرعات لدعم انتفاضة الشعب الفلسطينى مثلاً أو التضامن مع عمال الاسبستوس- أو أنشطة بعض الإسلاميين والتى دعينا إلى المشاركة فيها فى الجامعة الأمريكية أو بعض مؤسسات المجتمع المدنى مثل جمعية "فاتحة خير" أو "نهضة المحروسة" على سبيل المثال. فى هذه الحالات كان المعيار فى التنسيق هو القدرة على تقديم إسهام نوعى أو مادى ملموس: جمع تبرعات، تقديم خدمة صحية.......الخ. أكثر من ذلك، لم يكن الانتماء السياسى مطروحاً أصلاً خلال المناقشات الأولية للتنسيق ولم يتم دعوة الناشطين من التيارات السياسية المختلفة بغرض ضمان تمثيل مختلف ألوان الطيف السياسى فى عمل مشترك.
للتوضيح أكثر يمكن مقابلة هذا النمط المتميز من التنسيق بالتنسيق الجارى حالياً بين الطلاب المنتمين إلى التيار الإسلامى والطلاب المنتمين إلى بعض التنظيمات الشيوعية أو الناصرية- والذين لم يسبق لهم الانخراط فى أى شكل من أشكال العمل المدنى قبل التحاقهم مباشرة بالعمل السياسى عن طريق "التجنيد الفكرى". فى هذه الحالة عادة يجرى التنسيق بقرارات تنظيمية تمليها تحولات الخط السياسى لهذه المنظمات السياسية. للأسف لا نستطيع فى هذه المرحلة الحكم على مدى ديمقراطية وشفافية هذه القرارات التنظيمية ولكن ما يعنينا هنا أن المبادرات الطلابية المستقلة دونما إقرار من المستويات القيادية لا يوجد لها مكان. أكثر من ذلك، يتم اعتماد مبدأ التمثيل النسبى المعلن عنه بوضوح وفقاً لاعتبارات العدد والتأثير. يتضح ذلك مثلاً خلال انتخابات اتحاد الطلبة البديل والذى دعا التيار الإسلامى بجامعتى القاهرة وعين شمس إلى إجرائها احتجاجاً على شطب عدد من كوادره قبل الانتخابات الرسمية. فوفقاً لعدد من الطلاب الاشتراكيين المنتخبين فى عضوية هذا الاتحاد لم يكن من الممكن الفوز بعضوية هذا الاتحاد دون تصويت الإخوان الذى أتى بأوامر من قياداتهم بالجامعة. على كل لم تتجاوز نسبة تمثيل الطلاب الاشتراكيين 2 إلى 8 من اللجان المنتخبة، وهى نسبة تعكس حسابا دقيقا للقوة النسبية للتيارات أكثر مما تعبر عن انفتاح حقيقى بين هذه التيارات.
وأخيراً، لم تستطع هذه الأشكال من التنسيق القائمة على استنساخ منطق الجبهات الوطنية داخل أسوار الجامعة من مد جسور الحوار المشترك أو التأثير الفكرى المتبادل بين الطلاب المنتمين إلى مختلف التيارات السياسية المنخرطة فى عملية التنسيق تلك إذ ظلت هذه المحاولات محكومة بالأهداف والشعارات المحددة تنظيمياً، إلى جانب أن الخبرة النوعية المكتسبة من الانفتاح على التيارات الأخرى فى هذه الحالة لا تختلف بأى حال من الأحوال عن الخبرات التنظيمية المكتسبة داخل التنظيم الأصلى: المظاهرة، كتابة البيانات......الخ، والموروثة من سبعينيات القرن الماضى. خلاصة القول أننا بصدد ممارسة عملية وقناعة فكرية مفادها ضرورة انفتاح التنظيم السياسى من أسفل أو من الأطراف فى حين يتبلور التحدد السياسى والأيديولوجى من أعلى وليس العكس، أى يجب ألا يكون الانفتاح والتنسيق وعضوية الجبهات المشتركة من خلال المستويات القيادية بينما يستمر التخندق الأيديولوجى والتنظيمى فى المستويات القاعدية والتى لا تنفتح إلا بتعليمات فى حالات محددة.
ثالثاً: سمة أخرى هى إعادة هيكلة العلاقة بين الناشط المحترف والمثقف لمصلحة الأول على غير العادة. ونستطيع أن نتحقق من هذه السمة فى حالة بعض النشطاء المنتمين للأحزاب اليسارية أو الليبرالية بوضوح فى حين يصعب التحقق منها فى حالة الطلبة المنتمين إلى التيار الإسلامى بسبب ضبابية المعرفة بالأشكال التنظيمية الداخلية للإخوان وغيرهم من الجماعات الإسلامية. فعلى مدار عقود ظلت علاقات القوى تميل لكفة المثقف سواء على مستوى المراتب التنظيمية الرسمية أو على مستوى الممارسة اليومية. فى حين كان موقع القادمين إلى التنظيم السياسى بالاعتماد على خبراتهم الكفاحية المتراكمة فى أحد مجالات العمل المدنى خاضعاً للتوظيف فى سيبل تحقيق أحد الأهداف السياسية السامية والتى لم يكن هؤلاء يسهمون كثيراً فى صياغتها. ويمكن ذكر الكثير من الروايات الشخصية والمشاهدات التى تدلل على صحة هذا الفرض.
ربما يرجع هذا التوزيع الاستراتيجى لعلاقات القوى إلى طبيعة الجامعة نفسها وغيرها من مجالات العمل المدنى من نقابات عمالية ومهنية وغيرها، إذ ظلت هذه المؤسسات لعقود معزولة عن حركة الاقتصاد العالمى وثورة الاتصالات التى كانت تجرى على تخوم مصر الناصرية. وظل المثقف هو الوحيد القادر على فك شفرات هذا العصر بحكم صلاته بدوائر صناعة الفكر والقرار فى المركز المدينى بينما الناشط المحترف معزول يتحرك فى أوساط شديدة المحلية، وبالتالى لا يمكن أن يطور خبرة تنظيمية مركبة. أما الآن فالعكس تماماً هو الحادث: الجامعة هى الساحة الأكثر تعرضاً لآثار ثورة الاتصالات والانفتاح على الاقتصاد العالمى وطلابها هم الأكثر تمثلاً للخبرات العالمية فى مجالات التنظيم والتمويل فى حين أصبح المثقف الوطنى التقليدى معزولاً عن أية خبرة تنظيمية مركبة على الصعيد الوطنى أو المحلى، ناهيك عن مهارات الاتصال والتعاون العابرين للحدود.
وقد تمفصل هذا الملمح الجديد مع خبرة الحملات الشعبية التى عرفت طريقها أخيراً لصفوف فصائل اليسار المصرى، وهى التجمعات ذات الهياكل التنظيمية المفتوحة والمشكلة للدعاية والتعبئة لقضية محددة ولا تتأسس على أرضية الانتماء الإيديولوجى. وفى مثل هذه التجمعات يلعب الدور الحاسم الناشط المحترف صاحب الخبرة العملية فى أمور مثل مهارات الاتصال والكمبيوتر. ولا شك أن ثمة تعارض واضح بين هذا النمط من التراتب والتنظيم وبين عقائدية التنظيمات اليسارية والقومية وتماسكها الهرمى الذى كان يحاكى التماسك والهرمية المجتمعية على المستوى الفكرى المجرد فى أدمغة المثقفين بها. وتزداد المشكلة حد بحكم قلة الناشطين اليساريين المعرضين لخبرة أنشطة المجتمعية الجديدة تلك. ولكن يصعب التنبؤ بآثار هذا التناقض على التنظيمات التقليدية على المدى المتوسط.
عودة إلى "ورد الجناين":
لم يكن الهدف من هذا العرض المقتضب لممارسة طلابية تتشكل على الصعيد اليومى بعيداً عن تقلبات المجال السياسى الحادة طرحها كبديل للعمل السياسى السياسى (والنبى بلاش المصطلح الناصرى السلطوى دا) داخل الجامعة. فهذا الأخير حق لا يجوز المساومة عليه. كما أن الدعوة للتركيز على الممارسات الطلابية اليومية لا يجب أن تفهم على أنها دعوة لقراءة التاريخ بأثر رجعى تستخف بنضالات الطلبة المصريين المنتمين إلى تنظيمات سياسية خصوصاً اليسارى منها. كما أنه غنى عن الذكر أننا لا ندعى تطوير أداة تحليلية بديلة لدراسة العمل الطلابى إذ أن هذا يخرج عن طاقتنا. كل ما أردنا توضيحه هو أن النزعة الشاعرية فى النظر إلى تحركات الطلاب المصريين قد حجبت الكثير من أوجه حركتهم ذاتها. وأن التأمل فى الممارسات اليومية للطلاب قد يثرى الحوار حول إشكالية تنظيم وإدارة العمل المدنى ويشعرنا فوق ذلك أن الطلاب لم يكفوا يوماً عن يكونوا "ورد الجناين".


No comments: