صوت ديمقراطي جذري

29.8.06

العاملون بأجر فى القطاع الخاص والتغيير


سامح سعيد عبود


تاريخيا، يشكل عمال الصناعة بطبيعتهم قوة ديمقراطية. فى هذا المقال يحاول سامح سعيد عبود أن يستكشف إمكانيات مساهمة عمال القطاع الصناعى الخاص المتنامى فى النضال الديمقراطى، من خلال دراسة عامة لأوضاعهم ومشكلاتهم وتصوراتهم.

التحولات العامة فى نظم العمالة
بلغ إجمالي قوة العمل فى مصر في أول يناير من العام الحالي ما يزيد عن‏20‏ مليونا‏,‏ وبلغ عدد المشتغلين في القطاع الحكومي نحو ‏5 ‏ ملايين، ونسبتهم من إجمالى عدد العاملين بأجر غير معرضة للزيادة فى ضوء سياسة تقليص التعيينات بالحكومة. أما عدد المشتغلين في قطاع الأعمال العام فيقرب من نصف مليون فرد، وهم يتقلصون باستمرار مع عمليات الخصخصة. وفي القطاع الخاص داخل المنشئات‏ يبلغ عدد العاملين المؤمن عليهم نحو‏5‏ ملايين وفق الإحصائيات الرسمية، ونسبتهم تتزايد مع تصاعد كل من عمليات الخصخصة والاستثمار الخاص. والحقيقة أن الكثير من العمالة المنظمة فى القطاع الخاص غير مؤمن عليها، ومن ثم لا يتضح حجمها الحقيقى من الإحصائيات الرسمية. أما عدد العاملين بالقطاع الخاص خارج المنشئات، أى العمالة غير المنظمة، فقد بلغوا نحو ‏7‏ ملايين وفق الإحصائيات الرسمية، ولكن يمكن أن يكون العدد أكبر بكثير فى ضوء انتشار عمالة الأطفال، واتساع حجم الاقتصاد غير الرسمى. وينقسم العاملون بأجر حسب القطاعات التى يعملون بها إلى 50% يعملون فى التجارة والخدمات، و19% يعملون قى الصناعة، و31% يعملون فى الزراعة‏.
هذه الإحصائيات يمكن فهمها فى سياق تطور تكوين الطبقة العاملة فى مصر والعالم، حيث تشهد المرحلة الحالية من التطور الرأسمالى عالميا ومحليا تزايد البطالة والتهميش عموما الذى يصل إلى معدلات عالية جدا، كما تشهد تقلص كل من العمالة المستقرة والعمالة المنظمة بالنسبة للحجم الإجمالى للعاملين بأجر، وفى نفس الوقت اتساع حجم كل من العمالة غير المستقرة وغير المنظمة. وإذا كانت الفترة السابقة فى التطور الرأسمالى شهدت سيادة وحدات عمل كثيفة العمالة فإن التطورات الحديثة تشهد سيادة وحدات عمل قليلة العمالة.
وقد ترتب على ذلك أن أصبح عدد العمال فى معظم الوحدات أقل من خمسين عاملا درءا لوجود تنظيمات نقابية. أما بقية الأعمال المساعدة للإنتاج كالخدمات الإدارية، والتسويقية، والحراسة، والنقل فيتم اللجوء إلى نظام "المهمة" لتوفيرها عبر شركات أو مقاولين. وتشهد نفس المرحلة تصاعد نسبة من يعملون من منازلهم. وإذا كانت الفترة السابقة قد شهدت تضخم حجم العمالة الصناعية، فإن الفترة الحالية تشهد تقلصها لصالح تضخم العمالة فى الخدمات والتجارة، مع ثبات نسبى فى عمال الزراعة. ففى مصر عام 86 كانت نسبة عمال كل من الصناعة والزراعة تبلغ 30%، بينما بلغت نسبة عمال التجارة والخدمات 40% من العمالة الكلية. كل هذه الظروف الموضوعية أضرت بقدرة الطبقة العاملة عامة على تنظيم نفسها فى إطار النضال الاقتصادى، وأضعفت تأثيرها السياسى.

أوضاع العمالة فى القطاع الخاص الصناعى
سنحاول هنا أن نركز على العمالة المنظمة فى القطاع الخاص الصناعى، وذلك لأنهم غالبا أكثر تعليما من العاملين بالقطاع غير المنظم، بسبب حاجة قطاع الصناعة المنظم إلى عمالة أكثر مهارة بالمقارنة بالقطاع غير المنظم فى الزراعة والخدمات. ويلاحظ من الإحصائيات نشوء جيل جديد من العمال فى هذا القطاع فى المدن الجديدة (يقدر البعض عددهم بما يقرب من ربع مليون عامل)، أقرب إلى العمال ذوى الياقات البيضاء. فهم غالبا من المهندسين، وخريجي الكليات والمعاهد التكنولوجية العالية والمتوسطة، وهم أيضا أكثر شبابا فى الغالب من العاملين بقطاع الأعمال العام والحكومة، حيث توقفت بهما التعيينات أو تقلصت إلى حد كبير. والأهم من ذلك أنهم أكثر بلترة من عمال الحكومة وعمال قطاع الأعمال العام، لأنهم مجردين أكثر من الملكية الخاصة الصغيرة، وترجع أصول معظمهم إلى المدينة ولأسر عمالية. بينما تتسم العمالة القديمة فى القطاع العام بكثرة ذوى الأصول الريفية المرتبطين بأنماط التملك البرجوازى الصغير فى الريف والمدن، وبعائلاتهم الريفية الممتدة. كما أن العاملين بأجر فى القطاع الخاص يخضعون لعقود عمل يمكن أن تخضع شروطها للمساومة الجماعية مع أصحاب العمل، على عكس عمال قطاع الأعمال العام والحكومة الخاضعين لقواعد قانونية فى علاقات العمل التى تمنع المساومة الجماعية بين الدولة والعاملين لديها.
هذه هى الجوانب الايجابية التى يتميزون بها عن العاملين بالحكومة وقطاع الأعمال العام. أما الجانب السلبى فيتجلى فى خبراتهم النضالية المحدودة. فهم فى الغالب الأعم غير مؤطرين نقابيا وسياسيا. يقول محمد عبد العظيم قائد نقابى من مصنع السامولى بالمحلة الكبرى: "لا توجد لجنة نقابية لأى مصنع قطاع خاص بالمحلة سوى فى مصنع واحد فقط هو مصنع السامولى، فى حين أن عدد عمال القطاع الخاص أكثر من 225 ألف عامل، بينما لا يتجاوز عدد العاملين فى قطاع الأعمال العام فى المحلة 27 ألفا".
وفى ضوء البطالة المستشرية يخضع العاملون فى القطاع الخاص لظروف عمل قاسية. فالمرتبات منخفضة غالبا إلا فى بعض القطاعات والوحدات القليلة، كفروع الشركات متعدية الجنسية. إلا أنهم فى كل الأحوال يعملون غالبا أكثر من عشر ساعات يوميا. يقول محمد مصطفى، وهو عامل بأحد مصانع الغزل بالمحلة: "إننا نعمل من 8 صباحا حتى 6 مساء ونحصل على راتب يومى 8 جنية". أما محمد على منصور بتريكو الصياد بالمحلة فيعمل: "من 8 صباحا إلى 6 مساء وأجره الشهرى 140 جنيها، والراتب الأساسى الذى ورد بالعقد 87 جنيها"، وهو يشير إلى أن هناك مصانع أخرى تعمل من 7 صباحا إلى 7 مساء". ويشير محمد عبد العظيم أيضا إلى أن "معظم العمال فى المحلة خارج مظلة التأمينات، وحتى المؤمن عليهم أجورهم الفعلية أضعاف ما هو مثبت فى التأمينات".
هناك بعض التشكيلات العمالية تحاول صياغة موقف سياسى للتغيير من وجهة نظر العمال مثل "اللجنة التنسيقية للحقوق والحريات النقابية"، التى أصدر مؤتمرها الثانى (العمال والتغيير) فى 27/5/2005 بيانا بشأن رؤية العمال للتغيير السياسى فى مصر. كان هذا البيان الأكثر جذرية بين البيانات التى صدرت فى مصر بهذا الشأن، حيث تضمن برنامجه مطالب الحريات والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كما طرح مطالب على جدول الإصلاح السياسى تتجاوز كثيرا مطالب حركات التغيير الأخرى مثل "كفاية" و"الحملة الشعبية" و"التحالف الوطنى". وقد جاء فيه:
يرى العمال أن الديموقراطية لن تكون سوى ثرثرات فارغة في أروقة البرلمان، أو أداة لتسوية الخلافات بين أجنحة الطبقة الحاكمة، ما لم تقترن بتوسيع حدودها، بالنضال من أجل المطالب الاجتماعية للعمال والكادحين الذين يمثلون الأغلبية الساحقة من الشعب.
ولكن بعيدا عن الطابع الطليعى للبيان الذى يعبر عن عمال مؤدلجين سياسيا، فإن كل التحركات الاحتجاجية فى وحدات العمل لا علاقة لها بالسياسة بالمعنى المباشر، وإنما لها علاقة بالأجر وتكاليف المعيشة وتعامل الإدارة المهين وظروف العمل العبودية. كما أن فكرة التضامن العمالى بين عمال الوحدات المختلفة مازلت ضعيفة وجنينية بسبب عدم وجود نقابات فى معظم المصانع. كما لا يوجد وعى نقابى كاف عند الكثير من العمال.
ولكن حتى تكتمل الصورة، يجدر بنا أن نشير أن بعض المناطق العمالية شهدت بؤر احتجاج عمالى وتجارب نضالية تؤدى لاستنتاج مختلف عما سبق، مثل تجربة عمال مصنع الاسبستوس الذين نجحوا أخيرا فى الحصول على تعويضات عن إصاباتهم وتوقف المصنع، وأجورهم المتأخرة، وكذلك تجربة الإدارة الذاتية فى مصنع المصابيح الكهربائية بالعاشر من رمضان (حيث تولوا إدارة المصنع جماعيا وتسويق منتجاته بعد توقفه). وقد يعد هذا التباين مؤشرا على اختلاف أوضاع العمال بين منطقة عمالية قديمة كالمحلة، ومنطقة جديدة كمدينة العاشر من رمضان. ولعله مما يلفت نظر المراقب للحالة العمالية فى مصر هى أن هناك دائما تصورا سائدا إعلاميا أن سائقى الميكروباصات مجموعة من "الصيع" والحشاشين، ولكن كفاح رابطة سائقى الميكروباص بالإسكندرية دليل كبير على تطور فى وعى ونوعية سائقى الميكروباصات بوضعهم كمجموعة ذات مصالح موحدة.

موقف عمال القطاع الخاص من التغيير السياسى
وهناك 3 استنتاجات أساسية مبنية على استطلاع آراء العديد من العاملين بأجر غير المؤدلجين سياسيا: فأولا، اتضح لنا أن العامل العادى غير مهتم بالنظام القائم إلا فى إطار قدرة هذا النظام على توفير احتياجاته الأولية، وهو لا يهتم كثيرا بطبيعة ملكية المؤسسة التى يعمل بها سواء أكانت عامة أم خاصة، ربما لأن لديه وعى طبقى فطرى بأنه فى الحالتين مستغَل، ومن هنا فإن ما يهمه بالفعل هو تحسين شروط الاستغلال ما دام لا يستطيع القضاء عليه. فالعامل الذى لم تلوث عقله أفكار دولة الرعاية الأبوية، يهتم بأوضاعه المعيشية وأوضاع العمل والمكاسب التى يمكن أن تتحقق فى أى نظام، وهو ما أكده مثلا سيد عبد الرحيم الذى يعمل حاليا بمصنع قطاع خاص فى السادس من أكتوبر بعد أن ترك شركة الكراكات، وهى إحدى شركات قطاع الأعمال العام: "إنه يفضل العمل فى القطاع العام بسبب الامتيازات التى كان يحصل عليها من خلاله، لا تفضيلا لشكل الملكية".
الاستنتاج الثانى أن العاملين بأجر كأى طبقة اجتماعية أخرى تتفاوت فيما بين أفرادها درجات الفهم والثقافة، كما تتباين نوعيات الاهتمام. فالقليل منهم يهتم بالسياسة بالمعنى المباشر، شأنهم شأن سائر طبقات المجتمع. ونسبة أقل من هؤلاء على استعداد لتحويل اهتمامها لممارسة سياسية عمليا. والسياسة تأتى عموما فى المرتبة الثانية بعد الاهتمام بمستوى الدخل عند معظمهم، وهم موضوعيا لا يمكن أن يتحركوا من أجل مجرد تغيرات محدودة فى إطار الديمقراطية السياسية، إلا إذا ضمنت لهم تلك الديمقراطية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن الحريات النقابية، وعلى رأسها حق الإضراب والمساومة الجماعية على شروط العمل، لارتباط ذلك لديهم بتحسن مستوى المعيشة.
ليس هذا مجرد كلام نظرى، فالعاملين بأجر فى إطار صراعهم الطبقى العفوى يمارسون الإضراب ويشكلون النقابات عفويا بصرف النظر عن الشرعية، وبصرف النظر عن وعيهم السياسى واهتمامهم بالسياسة، أو تبنيهم لأيديولوجيات مختلفة، كما أنهم بالطبع مع عقود عمل تصاغ وفق المساومة الجماعية بينهم وبين أصحاب العمل لا عقود الإذعان الحالية. ومن ثم فاحتياجهم للاعتراف بتلك الحقوق قد يدفعهم للتحرك السياسى.
الاستنتاج الثالث أن العاملين بأجر مع الديمقراطية السياسية بشكل عام، وهو ما عبر عنه معظم المستطلع رأيهم. فقد تبين لنا أنهم مع الحريات والحقوق الإنسانية كاملة، ومع انتخاب رئيس الجمهورية. وقد اقترح أحدهم، وهو محمود الدسوقى (عامل فنى بخدمات الساتلايت) "أن تكون فترة الرئاسة لمدة واحدة ولأقل فترة ممكنة". كما قال محمد منصور (عامل نسيج) "أن الحاكم لا يجب أن يكون من الجيش لأنه سيحكم بالحديد والنار بل يجب أن يكون من عامة الشعب ليشعر بمشاعر الناس العاديين والشقيانين".
ولنا فى النهاية ملاحظة ذات صلة، هى أنه برغم أن الخبز يشكل محور الاهتمام الجوهرى لدى العمال، باعتبارهم مجردين أساسا من الثروة، وخصوصا فى ضوء عدم توفره، إلا أن الحرية والكرامة الإنسانية أيضا لها أهميتها لديهم حتى ولو اضطروا اضطرارا لقبول إهدارها. فالكثير من الاحتجاجات العمالية تتم بسبب سوء معاملة الإدارة للعمال. وهذا يشى فى النهاية بأن فكرة المستبد العادل أخذت تتلاشى فى وعى الأجيال الشابة من العاملين بأجر، وأننا ربما كنا مقبلون على حقبة جديدة من تشكل حركة عمالية مستقلة تعتمد على وعى طبقى أكثر وضوحا.



No comments: