صوت ديمقراطي جذري

1.6.06

مشكلات التنظيم والعمل الجماعي بمصر



عندما يفشل الناس في تنظيم أبسط أمور حياتهم اليومية مثل إدارة مصالحهم المشتركة في العمارات التي يعيشون بها، عندما تتكلس الأحزاب السياسية وتصبح غير قادرة على تعبئة أعضائها في الانتخابات، وعندما يصبح كل خلاف فيها مدخل للانزواء أو للانسحاب أو للانشقاق، هنا يجب أن نتوقف كثيراً لكي نناقش أزمة العمل الجماعي في مصر.
مجتمعنا لديه أفراد ناجحين، كل في مجاله، بل هو يصدر كفاءات خارج البلاد، ولكن المشكلة تظهر حينما يتطلب النشاط تعاون العديد من الأفراد في نفس المشروع، والمشكلة تتفاقم أكثر حينما يكون المشروع من النوع الكبير الذي يتطلب تعاون ألاف البشر. التاجر الصغير ليس لديه مشكلة تنظيمية كبيرة، لأن بإمكانه الاعتماد على أبناءه كفريق عمل لإدارة المشروع، لكن الشركة الكبيرة لا يمكن أن تقوم على أسرة أو حتى عائلة ممتدة، لأن الكفاءات والأيدي العاملة المتوفرة في عائلة لا تكفي لتسيير المشروع.
مصر بها معضلة تنظيمية حقيقية، التنظيمات الكبيرة الوحيدة هي تنظيمات الدولة أو تنظيمات تسيطر عليها الدولة أو تقوم عليها عائلات، لا يستثنى من ذلك إلا تنظيمين كبيرين خارج الدولة لا يقوما على حكم العائلة، حتى لو اخترقتهما العلاقات العائلية والمصاهرة، الإخوان المسلمين والكنيسة القبطية الأرثوذكسية. المصريون فاشلون في خلق وإدارة تنظيمات كبيرة، فلا غرابة إذن أن تتحلل الدولة المصرية وتصل إلى مستوى من التردي لم يسبق له مثيل. هذا الإخفاق التنظيمي مؤسف، لأنه إذا كان للمصريين أن يفخروا بأشياء في ماضيهم فأهم شيء يمكن لهم أن يفخروا به هي قدرتهم التنظيمية الفائقة، فهم مؤسسي أول دولة في التاريخ البشري، دولة كان لها العديد من الخطايا ولكنها على الأقل استطاعت تنفيذ مشروعات عملاقة مثل الأهرامات. وبغض النظر عن الدافع الغريب من إقامة هذه المقابر العملاقة وهو دافع يمكن تفهمه في ضوء وعي الناس ومعتقداتهم في بداية التاريخ البشري المكتوب، فإن هذه الأبنية تشهد على عبقرية فذة في التنظيم وفي إدارة الموارد البشرية والمادية. ليس للمصري عقم طبيعي في إنتاج التنظيمات الكبيرة.. المسألة لها علاقة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تمارس إخصاء عبقريتنا التنظيمية الكامنة.
تعتمد كفاءة الناس في العمل المشترك والجماعي على عدة عوامل مادية وثقافية واجتماعية. بعبارة أخرى، فشل المصريين في العمل الجماعي له العديد من الأسباب. لكننا سنركز في هذا الملف على الجانب السياسي لمشكلة التنظيم، أي سنتمحور حول مشكلة التنظيم في المجال السياسي، أي مشكلة بناء تنظيمات سياسية كفئة. هذا لأن التنظيم في المجال السياسي هو أردأ أنواع التنظيم في مصر. فالتنظيمات الكبيرة غير الحكومية التي تستطيع تحريك ألاف البشر للمشاركة السياسية تقتصر في مصر اليوم على الإخوان المسلمين والكنيسة، وهي تنظيمات تلعب أدوار سياسية بالرغم من أنها في الأصل ليست تنظيمات سياسية، فالكنسية في الأصل مؤسسة دينية والإخوان المسلمين في الأساس جماعة دينية دعوية. هناك فراغ سياسي رهيب في مصر تملأه مؤسسات غير سياسية. بعبارة أخرى المأساة التنظيمية المكبلة لطاقات المجتمع المصري تتبدى أقصى ما تتبدى في المجال السياسي. وهذا ما يبرر تركيزنا على التنظيم في هذا المجال. كيف ينظم المصريون أنفسهم في المجال السياسي في المرحلة المقبلة؟ هذا هو السؤال الذي كان يدور في أذهاننا عندما اخترنا قضية التنظيم لملف العدد.

***
لقد حلت ساعة الديمقراطية لأن القوى السياسية والمدنية المطالبة بالديمقراطية بدأت تنتبه أخيراً إلى ضرورة مقرطة المجتمع المصرى من أسفل، بما فى ذلك تنظيماتها واستراتيجياتها ذاتها. بعبارة أخرى، لم يعد السؤال الوحيد المطروح على جدول أعمال القوى الديمقراطية المصرية من أحزاب وجماعات مجتمع مدنى هو كيفية فرض تنازلات على النظام الحاكم أو إسقاط هذا التشريع أو تعديل ذاك. الأسئلة تمتد لتشمل كيفية تفكيك علاقات السلطة وممارساتها المستقرة في الحياة اليومية للناس غير المنخرطين في السياسة بالضرورة وإبداع علاقات وممارسات جديدة تفجر طاقات الفرد الإبداعية. السؤال الجوهري فى هذا السياق، هو كيف يمكن تخليص هذه المؤسسات من الميراث السلطوى الذى يتحكم فى بنائها الداخلى وممارساتها مع أعضائها والذي يعتبر السبب الرئيسى فى ترهلها وفشلها فى إدراك أهدافها المعلنة؟ ويرتبط بذلك التساؤل حول كيفية إعادة هيكلة هذه المؤسسات لتكون أكثر كفاءة (بمعنى القدرة على إنجاز الأهداف الموكلة إليها. لقد زادت درجة إلحاح هذا السؤال بعد الانتخابات البرلمانية بسبب ما كشفت عنه من إفلاس للقوى السياسية المدنية مثل الحزب الوطنى وقوى الليبرالية واليسار مجتمعة لصالح جماعة الأخوان المسلمين.
يتضمن هذا العدد مجموعة من المقالات التى تتناول واقع التنظيم للدولة المصرية ولثلاث قوى سياسية رئيسية هى الحزب الوطنى الحاكم والأخوان المسلمين وجماعات وتنظيمات اليسار المصرى، الماركسى منها على وجه الخصوص، إلى جانب مقال عن أشكال تنظيم النقابات المهنية. كما يضم العدد تقريراً عن حلقة نقاش استضافتها "البوصلة" ضمت عددا من النشطاء السياسيين والنقابيين للحديث عن تصوراتهم حول بناء تنظيمات ديمقراطية من واقع خبراتهم الشخصية وقراءتهم للتحولات العالمية فى هذا الصدد.
وأخيراً، نقدم ثلاث تجارب فى بناء تنظيمات جديدة أكثر كفاءة وديمقراطية ربما يجد فيها النشطاء ما يثرى حوارهم. التجربة الأولى، هى مشروع اللائحة التنظيمية الداخلية لحركة اليسار الديمقراطى اللبنانى والذى كنا قد عرضنا لوثيقتها التأسيسية فى العدد الأول من البوصلة. التجربة الثانية تنتمى للعمل الطلابى وهى خبرة أنشطة نماذج المحاكاة فى الجامعة الأمريكية وبعض الجامعات المصرية. تقدم تلك التجربة التى أصبحت تجتذب الآلاف من الطلاب سنوياً نموذجاً حول كيفية إعادة هيكلة العلاقة بين الإدارة الجامعية والطلاب على أسس أكثر ديمقراطية بعد التمكن من فك احتكار الجامعة لمصادر تمويل النشاط الطلابي. التجربة الأخيرة، هى تجربة "التعاونيات" كشكل متفرد من أشكال إدارة النشاط الاقتصادى قائم على التشارك فى الإدارة والأرباح بعيداً عن الإدارة البيروقراطية لجهاز الدولة أو إدارة رأس المال التى لا تأخذ فى اعتبارها إلا تحقيق الربح.
عند التعرض لأسباب شيوع أنماط الإدارة الاستبدادية داخل التنظيمات السياسية المصرية أو المؤسسات العامة تجنب المشاركون أى طرح ثقافى يرجع الأزمة إلى معتقدات راسخة فى الثقافة المصرية أو العربية، بل كان البحث عن الأسباب فى نمط الحكم المستقر منذ 1952 والقائم على مصادرة السياسة ككل وإخضاع جهاز الدولة والمجال العام بشكل منهجى لسطوة غابة من الأجهزة الأمنية. أدى هذا فى حالة التنظيمات اليسارية، كما يطرح "سامر سليمان"، إلى تكلس أبنيتها، فاليسار لا يمكنه العمل خارج المؤسسات الحديثة من نقابات واتحادات عمالية، وهى المؤسسات التى صودرت لصالح الدولة/الأمن. فكانت النتيجة انغلاق التنظيمات اليسارية على نفسها، وضعف حجم عضويتها، وفقدانها للحيوية التى يتيحها ارتباطها بالحركة الاجتماعية، ومن ثم هيمنة قلة منظمة على أعمال هذه المنظمات. كذلك الحال مع التنظيمات الإسلامية. فيطرح "حسام تمام" فى مقاله حول الأخوان المسلمين أن الملاحقة الأمنية المستمرة للنشطاء الإسلاميين منذ نهاية السبعينيات هى السبب الرئيسى وراء عودة جماعة الأخوان للسرية على بناء تنظيم متماسك مركزى وهرمى كى يصعب كسره من قبل أجهزة الأمن. وكما هو الحال فى التنظيمات اليسارية، أفضى خيار السرية إلى هيمنة مجموعة مغلقة على شئون التنظيم المالية وقراراته الاستراتيجية. ولم يفلت حزب الدولة الرسمى، الحزب الوطنى الديمقراطى، من تبعات نموذج الحكم الناصرى. يطرح "يوسف بشاى" فى معرض تحليله للأزمة التنظيمية التى يمر بها الحزب الوطنى لمخاطر تبعية الحزب لجهاز الدولة وهى التبعية التى حولت نواب الحزب إلى مجموعة من مقدمى الخدمات لدوائرهم، إذ أن العمل السياسى بالمعنى المتعارف عليه للكلمة لم يكن مطلوباً منهم بالمرة. والمحصلة فى رأى بشاى كانت هيمنة عدد من العائلات المتنفذة على المواقع القيادية فى الوحدات المحلية للحزب ومصادرة آلية الانتخابات.
أما فى النقابات المهنية والعمالية فقد أفضى توحيد التنظيم النقابى ورفض التعددية واللامركزية سواء على مستوى التشريع أو على مستوى الممارسة، كما يوضح زياد العليمى إلى استبداد أقلية محترفة تابعة للنظام الحاكم بالعمل النقابى. أما الكارثة الحقيقية فكانت داخل مؤسسات الدولة العامة وسلطاتها الثلاث كما يوضح شريف يونس. فواقع سيطرة الأمن لم يكن ليكشف عن جوهر ممارساته القائمة على الإرهاب صراحة للجمهور، إذ يحتاج دائماً للتخفى خلف المؤسسات المدنية الرسمية. هكذا تم تصميم هياكل هذه المؤسسات لتسمح بتلك السيطرة. فأصبحت القواعد التشريعية التى تبين عمل أى سلطة من السلطات أو مؤسسة عامة على سبيل المثال مفصلة خصيصاً لتركيز السلطات فى يد فرد واحد يسهل السيطرة عليه فيما بعد من قبل الأجهزة الأمنية.
على أن المشكلة ليست فقط في النظام، ولكن في أدمغة وعقائد النخب المصرية والتي أدت بهم إلى تبنى النماذج المركزية فى التنظيم والإدارة. فيشير سامر سليمان إلى العقيدة اللينينية في التنظيم (نسبة إلى فلاديمير لينين قائد ثورة أكتوبر الاشتراكية فى روسيا ومؤسس الاتحاد السوفيتى) التى صبغت الفكر اليسارى المصرى بصبغتها منذ بزوغه وأسفرت فى التطبيق عن بناء تنظيمات هرمية مركزية. فالعقيدة اللينينية فى التنظيم لا تكن الكثير من الود لاستقلال المبادرة الجماهيرية عن الحزب الذى يفترض أنه يمثلها، مثل الحركة العمالية على سبيل المثال. على العكس، تنظر اللينينية إلى الحزب بوصفه ساحة لتشكل الطليعة المخولة بنقل الوعى للطبقة العاملة من الخارج. وتركز اللينينية على المركزية التى تكفل تماسك الحزب فى مواجهة ضربات الطبقات الحاكمة.
ويشير حسام تمام إلى أن مجموعة النظام الخاص (تنظيم سرى أنشأه حسن البنا مؤسس جماعة الأخوان المسلمين فى أربعينيات القرن الماضى لتنفيذ عمليات اغتيال ضد الاحتلال البريطانى ومن اعتبرته الجماعة عميلاً للاحتلال البريطانى من المصريين) التى هيمنت على الأمور التنظيمية لجماعة الأخوان المسلمين لا تكن الكثير من الود لفكرة الديمقراطية الداخلية واللامركزية فى اتخاذ القرار، ولكن تفضل نسق الطاعة والتبعية التنظيمية من القاعدة للقمة. أما شريف يونس فيلقى الضوء على أثر العقيدة القومية التى تشكلت حول عمل المؤسسة الأمنية فى شيوع نزوع معاد للديمقراطية ويرتاب فى الداعين لها تلقائياً داخل سلطات الدولة الثلاث أو المؤسسات العامة.
بالإضافة إلى ذلك يتعرض الملف لما أحدثته التطورات الاقتصادية/الاجتماعية والتكنولوجية من تأثيرات على الأشكال التنظيمية. فيذهب حسام تمام إلى أن التحالف الاجتماعي الذى عبرت عنه جماعة الأخوان بهياكلها التنظيمية المنضبطة بين فقراء المدن والطبقة الوسطى المصرية خلال ثمانينيات القرن المنصرم قد بدأ يتحلل مخلفاً أزمة تنظيمية يعانى منها الإخوان اليوم. فنشطاء الطبقة الوسطى الجديدة القادمين من قطاعات اقتصادية وثيقة الصلة بالاقتصاد الرأسمالى العالمى ليسوا على استعداد للتضحية بأنماط معيشتهم المرفهة نسبياً لصالح الالتزام العقائدى والتنظيمى الجامد للإخوان، في حين أن بإمكانهم التعبير عن رؤاهم السياسية والثقافية المحافظة من خلال الالتفاف حول ظاهرة مثل الدعاة الجدد أو الالتحاق بتنظيمات إسلامية أخرى أقل مركزية كحزب الوسط الجديد. أما فقراء الضواحى، فلم يعرف عنهم يوما التزاما تنظيمياً بالمعنى الحرفى للكلمة. على العكس، علاقتهم بالتنظيم تتم عبر شبكات عائلية فى أغلب الأحيان ولا ترتب أى التزامات على العضو. أفضى ذلك وفقاً لحسام إلى ترهل التنظيم وتحول حجمه الضخم من ميزة نسبية إلى عيب يثقل حركته ولا يفيده. ويصف يوسف بشاى حالة شبيهة بأزمة الأخوان، وإن كانت على نطاق أوسع، داخل الحزب الوطنى. يطرح بشاى أن الانتخابات الأخيرة، وقبلها انتخابات 2000، أظهرت أن نموذج "حزب كل المواطنين"catch all party لم يعد ملائماً للارتباط بمصالح طبقات وفئات اجتماعية صاعدة، خصوصاً الطبقة الوسطى الجديدة، التى لا تجد لنفسها موطئ قدم فى هذا الهجين الاجتماعى الممثل داخل الحزب الوطنى (كبار ملاك أراضى ريفيين ورجال أعمال جدد وبيروقراطيون عاملون بجهاز الدولة.....الخ).
أما المشاركون فى الحلقة النقاشية فيضيفون أبعاداً أخرى للحوار بشأن أزمة الأنماط الاستبدادية القائمة فى بناء التنظيمات وإدارتها وهى الخاصة بتحولات نمط الإنتاج الرأسمالى والثورة فى تكنولوجيا الاتصالات. فيشير عبد الغفار شكر ورحمة رفعت إلى تراجع الاعتماد على الإنتاج الموسع المعتمد على تركز العمال فى مواقع إنتاج عملاقة ومن ثم إمكانية تنظيمهم فى منظمات واحدة عملاقة. يتصاعد الآن اتجاه لتفتيت عملية الإنتاج الرأسمالى، التى كانت تتم بالكامل فى ذات الموقع، لصالح سلسلة من العمليات المعزولة التى تدور فى منشآت أصغر حجماً وليست كثيفة العمل، كما تتزايد أعداد العمالة الموسمية التى لا تنتظم فى أى عملية إنتاجية واضحة. كل ذلك أدى لتراجع عضوية الاتحادات العمالية التقليدية المؤسسة لاستيعاب أعداد ضخمة من العمال لصالح بزوغ العديد من المنظمات غير الحكومية التى تتبنى قضايا عمال قطاعات بعينها أو العمالة النسائية على سبيل المثال. أما هبة رءوف فتشير إلى ما أدت إليه ثورة الاتصالات، وخصوصاً الانتشار المكثف لشبكة الانترنت، من تفكيك للوحدة الزمنية المكانية للوجود الإنساني والتى اعتمدت عليها كافة التنظيمات السياسية والمدنية، ناهيك عن جهاز الدولة، فى تنظيم أمورها. فالأفراد فى السابق كانوا دائماً وأبداً موجودون الآن وهنا وفقط. ولكن مع ثورة الانترنت أصبح التحكم فى الأفراد وصلاتهم أكثر صعوبة ومن ثم يقتضى علاقات أكثر ديمقراطية بما يتيح الالتزام الطوعى لهؤلاء الأفراد بالقرارات المتخذة.
هذا الملف يحاول تسليط الضوء على بعض الإشكاليات التنظيمية. ولكن لا يزال هناك قضايا عالقة تحتاج إلى المزيد من النقاش. فمشكلة التمويل على سبيل المثال تظل غائمة وتنتظر مساهمة مبدعة تكسر احتكار الدولة لتوزيع الفوائض المالية على منتفعيها وزبائنها. أما تفعيل هذه الرؤى المطروحة فيظل مسؤولية القوى السياسية المناضلة فى سبيل مقرطة مصر وليس فقط فى سبيل إجراءات الإصلاح السياسى والدستورى بمعناه المباشر.






No comments: