صوت ديمقراطي جذري

1.6.05

أفق ديمقراطى من قلب اليسار


ربيع الحرية يتفتح فى مصر. برغم الافتقار إلى قوى سياسية فاعلة وتقاليد ديمقراطية، برغم الحضور الدائم الكثيف للأمن، برغم كل المعاناة والإحباط والتردد والأزمة الاقتصادية وانعدام اليقين والقلق من المستقبل... يتفتح. بوادره فى كل مكان: تردد النظام بين الاندفاع والتراجع فى قمع القوى الديمقراطية الصاعدة؛ وبين التلويح بإصلاحات ديمقراطية ومساعٍ لإفراغها بقدر الإمكان من أى مضمون يسمح بتمكين الناس من المشاركة الفاعلة فى صياغة بنية السلطة؛ ظهور جناح يدَّعى قدرته على قيادة تحول ديمقراطى "تدريجى" داخل "الحزب" الوطنى؛ تنامى روح الاحتجاج؛ تكاثر الصحف المستقلة؛ الاتجاهات الفنية والأدبية الجديدة؛ ظهور مشاريع قوى سياسية جديدة مثل "حزب الغد"؛ ظهور حركة "كفاية" وتأثيراتها المتصاعدة؛ موقف القضاة الأخير من أجل انتخابات غير مزورة واستقلال فعلى للقضاء يضرب واحدا من أهم ركائز النظام الاستبدادى؛ تهاوى الكثير من الخطوط الحمراء فى النقد السياسى والاجتماعى حتى فى الصحف الحكومية. إنها الخطوات الأولى فى مرحلة انتقالية ممتدة، تصل بين نظام استبدادى شاخ، ونظام ديمقراطى جديد لم يولد بعد.
بفضل هذا الربيع تصدر "البوصلة"، كـ"صوت ديمقراطى جذرى"، من داخل معسكر الحرية. فتطرح فى حمايته صوتها الخاص، وترتبط به، وتناضل من أجل بلورته وتدعيمه، من أجل استعادة الحقوق السياسية والمدنية لسكان البلاد، على حساب وصاية الدولة. أعداؤنا مشتركون؛ هم الاستبداد السياسى والاقتصادى والفكرى والطائفى، ومؤسساته، وأفكاره. وأصدقاؤنا هم أنصار الحرية بأوسع معانيها، فسنعمل معهم وسنقف إلى جوارهم حتى لو انتقدناهم، فنحن نتعثر مثلهم وسنتقبل انتقاداتهم، وأمامنا مراحل طويلة من الكفاح المشترك، ومتسع من الوقت لتمييز الرايات داخل معسكر ديمقراطى متآذر.
"البوصلة" صوت قادم من معسكر اليسار، يحاول أن يقدم رؤية جديدة لأحوال مصر والمنطقة والعالم، ويسعى لبلورة خيار ديمقراطى لليسار، أو تيار ديمقراطى يسارى، وطرحه على جمهور القراء. وهو يطرح نفسه كصوت مختلف عن كل من الليبرالية الجديدة واليسار الدولتى، سواء فى تشخيص الأزمة القائمة أو فى التصور السياسى بشأن مواجهتها.
*
تقدم "البوصلة" رؤيتها للأزمة السياسية والاقتصادية كالآتى: إننا نواجه نظام حكم قام على حل مشكلة التوازن الاجتماعى بإقامة قاعدة اجتماعية مرتبطة بإنشاء وتوسيع الآليات الحكومية البيروقراطية وتوسيع نطاق تدخلها فى كافة الأنشطة الاجتماعية. وتتمثل هذه القاعدة فى جهاز دولة متضخم يمتص سخط الخريجين جزئيا، ولو لم يقوموا بعمل مفيد للمجتمع، وقطاع عام أخذ ينمو منذ 1953 وحتى بداية التسعينيات، بصرف النظر عن كفاءة إدارته وقدرته الإنتاجية. وقد أفاد هذا التكتيل للموارد والقوى البشرية فى يد الدولة فى تدعيم قبضتها المانحة المانعة، وتأميم الصراع الاجتماعى والسياسى، لصالح آليات تحصر "العمل السياسى"، كما تسميه، فى توزيع الغنائم عن طريق "الحزب" الحاكم والمحليات والمجالس النيابية والنقابات والفساد السياسى والمالى، الذى تغلغل من أصغر الوظائف حتى أعلاها، وهو ما يمكن تسميته بالنظام السياسى "الزبونى"، حيث يقوم الولاء على حصول زبائن النظام على منافع يقدمها لهم من المال العام.
وتعتمد هيمنة هذا النظام "السياسى" على تضييق، بل وخنق، المجال السياسى بأجهزة القمع البوليسى والتحكم الإدارى وترسانة من القوانين التى تحميها، وتمنحها سلطة التحكم، رسميا أو فعليا، فى تشكيل الجمعيات والنقابات والاتحادات والأندية والأحزاب، والإشراف على النواحى المالية والإدارية لنشاطها وتحديد نوعه وحجمه، والسيطرة الشاملة على الإعلام والثقافة. هذه الترسانة الهائلة المتشعبة من القوانين والأجهزة تشكل الأساس الحقيقى للاستبداد الذى لا يقوم قانون الطوارئ وغيره من قوانين القمع المباشر إلا بوضع اللمسات الأخيرة عليه، بالحيلولة بالقوة العارية دون تشكل أى بديل آخر.
وتغطى أفكار الوصاية الصريحة هذا كله، فيُعتبر الجمهور غير ناضج لممارسة حقوقه السياسية، بل والمدنية، وفى حاجة إلى وصاية تحميه من الاستغلال، أو من شراء الأقوياء لأصواته الانتخابية، أو استدراج قواه السياسية للعمل لصالح الأجنبى المستعمر. كما يُعتبر الصراع السياسى فى حد ذاته شرا ينبغى تجنبه، بحيث يُطرح الوفاق على الولاء لرؤوس النظام كمعيار للولاء الوطنى. وهكذا يدعى النظام أنه الحصن الوحيد للوطنية والصالح العام والعدالة الاجتماعية.
وأيا كان ما تحقق فى ظل هذا النظام، اقتصاديا واجتماعيا، وما لم يتحقق، فإنه يواجه منذ فترة أزمات متوالية: فالأزمة المالية والاقتصادية تقلل حجم الأموال التى يستطيع أن يوزعها على زبائنه؛ وبيع القطاع العام، برغم أنه أُجرى بنفس منطق توزيع الغنائم، يقلل من الكعكة التى يتحكم فيها النظام بشكل مباشر، ويضع قوى اجتماعية متزايدة خارج آلياته فى تدعيم التوازن الاجتماعى الملائم له؛ ويصطدم مخرج توسيع القطاع الخاص الذى اضطر له بشكل متزايد بمنطق جهاز الدولة الاستبدادى الراغب فى الإشراف على كل صغيرة وكبيرة وتعقيد الأمور من أجل الحصول على مقابل حلها؛ وتضيق قاعدته الاجتماعية وتضعف بقدر تدهور أوضاع زبائنه من موظفين ومنتفعين آخرين بالمقارنة بالقوى الصاعدة من القطاع الخاص، بسبب تراجع وزن المؤسسات التى بناها من نقابات إجبارية العضوية واتحادات، الخ، وبالتالى حرمانها فعليا من جانب من سلطاتها المتنوعة فى خنق ما يقع خارجها وإخضاعه. كما يعانى النظام الاستبدادى مشاكل جمة فى تحويل قاعدته الزبونية التى تربت على تقديم تأييد رسمى غير سياسى مقابل إنجاز مصالحها إلى قاعدة موالية سياسيا قادرة على مواجهة مشاريع القوى السياسية الصاعدة، وذلك لأنه غير قادر على تفويض جانب من سلطته السياسية لهذه القاعدة، ومنحها حق المشاركة فى وضع سياساته.
وبقدر ما تظل قبضة النظام منيعة برغم هذه الأزمات بقدر ما يستمر تغلغل مفاهيم الوصاية الديكتاتورية ومبرراتها فى أفكار وممارسات كثير من قوى المعارضة نفسها. ولا غرابة فى ذلك، إذ أتى بعضها من داخل الاتحاد الاشتراكى ذاته، وجاء بعض آخر منها من قلب أحزاب سابقة على انقلاب يوليو تحمل مفاهيم ديكتاتورية أصيلة (مثل مصر الفتاة والإخوان المسلمين)، ترفض من حيث المبدأ فكرة الحق المجرد لأفراد الشعب فى التنظيم المستقل، ناهيك عن صياغة النظام السياسى.
ولكن بقدر ما تتقدم قضية الديمقراطية بقدر ما تجرى، كما نرى فعليا، إعادة فرز سياسى، تتهاوى فيها الحدود التقليدية بين معسكرات الحكم والمعارضة، وبين أنصار الناصرية والساداتية، بينما تنشق التنظيمات داخليا، فيختلف أنصار التيار الإسلامى مثلا بين من يرى الاستيلاء على النظام بالتدريج من داخله، أى إضفاء طابع إسلامى على السلطوية القائمة ذاتها، ومن يرى الاندراج فى إطار الكفاح العام من أجل قدر من الديمقراطية بمنظور إسلامى. وهكذا تصطف تدريجيا قوى النظام القديم من حكومية ومعارضة فى معسكر واحد، بينما تصطف القوى الديمقراطية وشبه الديمقراطية فى المعسكر الآخر.
*
فى ضوء هذا التشخيص تطرح "البوصلة" نفسها كمساهمة فكرية داخل "المعسكر الآخر". ولكنها تطرح داخله مساهمة خاصة مختلفة. تتمثل رؤيتنا للديمقراطية فى إقامة دولة مدنية: فنحن نقاوم كل وصاية على حقوق الناس الديمقراطية وحرية العقيدة باسم "ثوابت" و"مقدسات" الأمة أو الدين أو العرق أو الدولة أو التقاليد، سواء فى مجال الفكر السياسى والاجتماعى، أو حريات الأدب والفن، أو قضايا المرأة والحقوق المتساوية لكل الأديان والعقائد؛ ونعتبر هذه "الثوابت" عوائق تشيد فى مواجهة الديمقراطية نفسها. وترمى الدولة المدنية إيضا إلى تفكيك التعصب الطائفى المنتشر، بتفكيك الدولة السلطوية التى رعت تشكل وتضخم هذه الظاهرة. فالدولة السلطوية بطابعها الزبونى تميل إلى تقسيم الناس إلى طوائف، لكل منها تمثيل "رسمى" يعترف به النظام ويتعامل معه، ليسهل التحكم فيها. وبالمقابل تحقق الدولة المدنية رسميا وعمليا، تساوى الناس على اختلاف أديانهم وأفكارهم وخلفياتهم الاجتماعية وثقافاتهم فى الحقوق والواجبات، وتكفل حريتهم فى تنظيم أنفسهم وفق أية معايير يرتضونها، بغير حاجة إلى إذن خاص من الدولة.
و"البوصلة" هى صوت ديمقراطى جذرى: فنحن نطرح ديمقراطية تُبنى من أسفل: تقوم على أوسع اشتراك نشط للناس فى المجال السياسى، المغلق حاليا فعليا أمام الأغلبية، بفتح مجال الصراع السياسى والاجتماعى والفكرى، والسعى النشط لتشجيع الناس على التنظيم الحر فى نقابات وجمعيات وروابط طوعية لا إجبارية، ومستقلة عن الدولة، يتولون فيها بأنفسهم تحديد مصالحهم ورؤاهم وتوجهاتهم، فى ظل إطار ديمقراطى شامل يسمح بالتفاعل السلمى بين مختلف التنظيمات الطوعية وتبادلها الخبرات والمؤازرة، ويحد بذلك من أية ميول سلطوية تنشأ فيها. ومن هنا فإننا لا نطرح الديمقراطية كمجموعة إصلاحات قانونية أو دستورية تتولاها نخبة محدودة بغرض إتاحة الفرصة لبعض قوى المعارضة للحصول على قدر ما من كعكة السلطة عبر تفاهمات علوية.
والجذرية فى تصورنا للقضية الاجتماعية لا تنبع من شعارات ديماجوجية شعبوية، لا سند لها سوى الإشارة لأغلبية عددية متضررة من سياسات الدولة الاقتصادية فى لحظة تاريخية بعينها، وإنما إلى تحليل علمى لحساب المكاسب والخسائر لغالبية الناس على المدى الطويل. وبمعنى آخر لا تقوم على المزايدة على مصالح جمهور رث مغلوب على أمره. فالجذرية التى نطرحها تؤسس نسقها القيمى على محورية العقلانية النقدية التى لا تردد المقولات الإيديولوجية الجاهزة التى تصادر على الإمكانات المتعددة الموجودة فى الواقع، وفى نفس الوقت تناضل ضد خيارات الأقلية المهيمنة على مفاصل صنع القرار، والتى تتمسك بمقولات السوق تمسكا إيديولوجيا فجا يسفه أية محاولة جادة لإعادة النظر فى الخيارات الإقتصادية القائمة، بينما تتعايش مع بنية الاستبداد القائم فى تناغم لم يعد له أفق واعد.
وهى أيضا جذرية تستمد أصولها الفكرية وأشكالها التنظيمية من تراث الديمقراطية الحداثى المتحقق بالفعل، فهى لا تستلهم شرعيتها من تطبيقات تسمى شيوعية أو اشتراكية بعينها، تسعى لمحاكاتها وفرضها على الوقائع القائمة، ولا تبحث عن أئمة إيديولوجيين تعقد لهم لواء السبق التاريخى فى فضح آليات عمل السوق. وغنى عن الذكر أنها لا تستلهم أية محطات ذهبية فى تاريخنا العربى أو الإسلامى. فهى ترى أن هذا التراث الديمقراطى، بما يرتبه من مؤسسات حزبية ونقابية وممارسات كالتظاهر السلمى وما يماثلها من أشكال التعبئة الجماهيرية، يفرض قيودا حقيقة تحول دون مصادرة قلة للقرار الاقتصادى للمجتمع وتفتح أفقا غير محدود لصالح أقصى تحكم ممكن للناس فى سبل معاشهم وأشكال وجودهم الاجتماعى.
ويتمثل طرحنا للقضية الاجتماعية فى تعزيز الحقوق الديمقراطية للفئات الاجتماعية الأفقر والأضعف عبر ممارسة التفاوض الديمقراطى، ورفع كل أشكال الوصاية على منظماتها، بما يمكنها من ممارسة الضغط على الدولة والمجتمع من أجل تحقيق توازن اجتماعى لا يلقى بها لقمة سائغة بلا حول ولا قوة فى مواجهة الرأسمالية الصاعدة. ونرى أن من واجب أى طرح ديمقراطى جذرى أن يشجع وبقوة تشكل مثل هذه القدرة التنظيمية للفئات الاجتماعية الأضعف، ويساعدها على تبادل خبراتها وبلورة أهدافها وتشكيلاتها.
ولا يتجاهل هذا الطرح دور الدولة فى الصراع الاجتماعى. بل نحن نطالب الدولة الديمقراطية من خلال أدوات الضغط الديمقراطى بالتدخل بسياسات لصالح المهمشين تنهى تهميشهم، ووضع القوانين الكفيلة بحماية حقوق الطبقات الدنيا وتحقيق رفاهيتها. وفى هذا كله نعلن أننا نؤمن بأن الصراع السياسى والاجتماعى السلمى والمساومة لتحصيل الحقوق تمثل الضمانة الحقيقية لهم، لا دولة تدعى حق احتكار الحفاظ على التوازن الاجتماعى وتجميد الصراع بوسائل سلطوية. فالصراع هو الظاهرة الطبيعية المفيدة والفاعلة فى ظل الانقسامات الاجتماعية الفعلية، وفى أى ديمقراطية تستحق اسمها. وبديهى أن ضغطها هذا سوف يسفر عن تقنين حقوقها المشروعة فى ضمانات اجتماعية تعبر عن قدراتها التنظيمية والسياسية، وسياسات تحول دون تحول الليبرالية والسوق الحر إلى مقولات افتراسية لحقوق العاملين.
من منطلق هذا التصور، تطرح "البوصلة" نفسها فى مواجهة اليسار الدولتى الذى برغم دعاواه الديمقراطية ينطلق من نفس البنية الاجتماعية التى بُنى عليها النظام، فيدافع عن إبقاء القطاع العام بأى ثمن وتعيين المزيد والمزيد من الخريجين، مطالبا عمليا بتدعيم دولة الرعاية الاجتماعية السلطوية، حتى ولو دمرت الاقتصاد، طالما ظلت الفئات الوسطى مستفيدة بدعم أو وظائف صورية. كما نرى أن إفلاس الدولة المتزايد يدفع فعليا بالمستفيدين بفتات الدولة أنفسهم إلى الهاوية بشكل متزايد.
كذلك فإن اليسار الدولتى وإن كان يؤيد إلغاء القوانين القمعية المباشرة، فإنه يوافق عمليا على قمع النظام للاتجاهات التى يعتبرها غير وطنية أو لا تتسق مع فرضياته هو بشأن الصالح الوطنى العام، ولو بالصمت المشين بحجج واهية. وهو أيضا يمارس بنفسه التكفير الوطنى ضد معارضيه. وهو يردد دعاوى النظام بشأن ضرورة العزل السياسى لمن يعتبرهم خونة أو مشاريع خونة، مفترضا أن النظام وحده هو "الأمين" على البلاد والعباد. ولهذا كله فإن أفقه مسدود.. فهو ابن الماضى لا المستقبل، وهو مُنتَج جانبى لنظام حكم يشهد مراحل أفوله، ومؤيد موضوعى له ينكشف تورطه فى خدمة النظام عبر معارضة صورية يوما بعد يوم.
ونحن نختلف أيضا مع الأجندة الليبرالية. فقد سقطت بعض القوى التى كانت ليبرالية فى معسكر تأييد النظام السلطوى تحت شعارات وطنية ("الوفد" الحالى هو الدليل الأكبر على ذلك)، بينما تركز أفكار الليبرالية الجديدة على تصورات مجردة عن الحريات، تتجاهل أن تفكك النظام السلطوى تصحبه تقوية الطبقات المالكة واستقلالها بشكل متزايد عن الدولة، بينما تفتقر الطبقات الأفقر والأضعف إلى هذه القدرة، سواء الطبقتين الوسطى والعاملة الآفلتين فى القطاع العام، اللتين خضعتا لتمثيل سلطوى يتحكم فيه الأمن، أو الطبقتين الوسطى والعاملة الجديدتين الصاعدتين فى القطاع الخاص والمفتقرتين إلى خبرات نضالية، بل وتشكيلات نقابية أصلا.
وبينما نقر بأن أية خطة تنموية لا يمكن أن تؤتى ثمارها إلا فى ظل آليات السوق وأنه لا يمكن القفز فوق الرأسمالية بخفة إيديولوجية تفضى إلى كوارث واقعية، فإننا نحاول أن نطرح بديلا يقاوم تأسيس هذه التنمية على تغييب الفئات الأفقر والأضعف خارج المجال السياسى. كما أن السوق من وجهة نظرنا ليس مقولة فكرية مجردة مصدقة لذاتها. فهو، كأى ظاهرة اجتماعية، لا يظهر إلى الوجود إلا مُخترقا بعلاقات القوى الاجتماعية القائمة وحاملا لمثالب أى خلل فيها. وبالتالى لا يمكن "تصحيح أى خلل فى عمل السوق"، على قول الليبراليين، إلا بإصلاح الخلل فى علاقات القوى الاجتماعية من خلال نضال طويل فى مجال سياسى ديمقراطى. فلا ديمقراطية جذرية بغير حقوق التنظيم النقابى المستقل والإضراب والتظاهر والتنظيم السياسى والتفاوض الجماعى على الأجور وشروط العمل.
لقد أتت هيئة تحرير "البوصلة" من أصول ماركسية. ويتفاوت اقتناع أعضائها ببعض جوانب منها، أو رفضها. وبعيدا عن محاولة التوصل إلى تصفية حساب مشتركة مع الماضى، فإن ما يجمعنا قدر من الاعتبار للتحليل الاجتماعى والسياسى الذى أرسته الماركسية وأصبح شائعا الآن فى كثير من مدارس العلوم الاجتماعية، ورؤية إيجابية للصراع الاجتماعى والسياسى باعتباره واقعا فعليا وقوة محركة للتقدم. ونحن إذ نعتبر الديمقراطية الجانب الأكثر جوهرية فى طرحنا، نرى فى ما سُمى الاشتراكية فى البلاد المتخلفة (وهى الوحيدة التى أُقيمت) ستارا إيديولوجيا لقيام نظم قمعية بيروقراطية، أيا كانت إنجازاتها، لم تكن فيها الطبقة العاملة التى أُقيمت الاشتراكية باسمها (ناهيك عما أُطلق عليه تحالف قوى الشعب فى ظل الناصرية)، أية سلطة سياسية ملموسة.
والخلاصة أننا نجتمع حول رؤية واقعية تؤكد أن الاشتراكية ليست مطروحة الآن فى مجتمعنا ولا فى المجتمعات المشابهة فى العالم، وأن الرأسمالية ما زال أمامها ما تقدمه للتطور العام للبشرية. وهكذا فإننا إذ نرفض حلم تجاوز الرأسمالية الآن باسم العدالة الاجتماعية، أو الاشتراكية، نعيد طرح الرأسمالية الديمقراطية باعتبارها أفضل النظم المتاحة فعليا فى مجتمعنا فى لحظتنا التاريخية. ونحن فى هذا الطرح لا ندعى أننا نعلن الحقيقة بشأن الماركسية، ولا ننوى الدخول فى جدل بشأن "الموقف الماركسى الصحيح"، فالواقع القائم هو محور الجدل، لا النظريات الكبرى.
من هذا المنطلق تطرح "البوصلة" نفسها كجزء من حركة اليسار الديمقراطى العالمى، الذى أخذ فى التبلور فى عديد من بلدان العالم الثالث. فبعيدا عن الحل الاجتماعى السلطوى تزدهر قوى سياسية وفكرية ديمقراطية يسارية فى بلدان أمريكا اللاتينية، نجح بعضها فى تشكيل أحزاب قوية، بل وصل بعضها بالفعل إلى السلطة (البرازيل مثلا). كما تشكلت حركة مشابهة فى منطقتنا فى لبنان. مثل هذه الحركة العالمية تشكل بدورها رافدا داخل حركة ما يُعرف بالعولمة البديلة، التى تتحرك فى أفق إعادة إنشاء قوى الاحتجاج الاجتماعى على أساس تحالفات أممية لتناضل داخل نظام رأسمالى أصبح عالميا بطبيعته.
*
إن أزمة النظام القائم لم تُفقده بعد قدراته الاستبدادية، فما زالت آلياته "الزبونية" تعمل بجانب معتبر من قوتها برغم تآكلها، وتُبعد بالتالى قطاعا كبيرا من الناس عن فكرة المشاركة السياسية فى حد ذاتها. ولكن النظام يعتمد أيضا على الميراث الذى خلفه فى العقلية العامة: فهم السياسة كمهنة أو حرفة تسمى "العمل السياسى"، لا كصراع بين قوى وبرامج مختلفة؛ القناعة العامة بأن كل نخبة سياسية فاسدة بالضرورة ومقطوعة الصلة بالجمهور؛ الخوف الشديد من معارضة النظام، بفعل آلة قمع وتبريرات لها استمر طرحها على مدى خمسين عاما، وما زال يرسخها الحضور الكثيف للأمن المركزى فى كل تجمع جماهيرى، ولو فى مباريات الكرة. إن ربيع الديمقراطية ما زال فى بوادره الأولى، وليس تحققه على مرمى حجر بأى حال.
وفى ظل هذا الوضع رأت هيئة تحرير "البوصلة" أن مهمتها هى التقدم بهذه المبادرة ودعوة كل المهتمين للمشاركة فى بلورة طرحها الديمقراطى الجذرى، فكريا وسياسيا، باستخدام صفحاتها فى تقديم تحليلات سياسية بشأن الماضى والحاضر والمستقبل، فى بلادنا والمنطقة والعالم، والتعجيل من خلال هذا الطرح بفرز الصفوف داخل القوى الديمقراطية وداخل اليسار. فالمجلة ليست لسان حال جماعة سياسية أو حزب، وليست حتى مشروعا فكريا وسياسيا ناجزا ومتبلورا، وإنما مجرد مبادرة لا تتقدم إلى الأمام إلا من خلال التفاعل الخلاق مع أنصار توجهها العام على اختلاف ميولهم ورؤاهم، ومن خلال النقاش السياسى الحى داخل معسكر الديمقراطية. وبالطبع فإننا نقبل ونرحب بالنقاش مع أعدائه إذا أرادوا.
وقد اعترض بعض أعضاء هيئة التحرير نفسها على اسم "البوصلة"، لما قد يثيره من إيحاءات سلطوية. غير أننا لا نريد من البوصلة سوى أن تكون أداة فى يد القارئ للتعرف على شبكة الاتجاهات الديمقراطية والسلطوية، والمساهمة، مع بوصلات أخرى، فى تحسس الطريق إلى إعادة تعريف ديمقراطية لليسار، عبر اجتهادات محرريها من داخل هيئة التحرير ومن خارجها. ونرجو أن نكون عند حسن ظن القارئ فى تحقيق التزام واقعى بمعايير الديمقراطية فى طرح الآراء ومناقشتها.
ومن حيث طبيعتها، تتوجه "البوصلة" للقارئ المهتم بالشئون العامة؛ فتقدم رؤية تتناول الأحوال والأحداث المعاصرة، محليا وإقليميا ودوليا، وتدخل فى حوار خلاق مع خبرات التحرر الديمقراطى فى بلاد العالم الثالث؛ ولكنها تعنى أيضا بالقضايا الثقافية والأدبية العامة باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الشأن العام. وهى تقدم رؤيتها عبر رصد وتحليل الأحداث الجارية بأبعادها التاريخية والمستقبلية، ومن خلال تقديم معلومات وبيانات مفيدة، عبر مقالات تحليلية وحوارات وعروض كتب ومقالات، ولكن دون أن تُغرق فى النظريات والأبحاث الأكاديمية. ولأن المجلة ترمى إلى بلورة بديل فكرى وسياسى، فإنها لن تتبنى أسلوب الجدل الإيديولوجى السائد الذى يطرح الاختلافات بشكل قيمى وتخوينى وديماجوجى. فأهدافه تتحقق بالارتقاء بمستوى الحوار السياسى، بتقديم طرح قائم على تحليل عقلانى للمعلومات وقابل بالتالى للنقد العلمى.
والمجلة إذ تطرح نفسها كأداة لمشروع مفتوح للحوار والتعديل والبلورة، فإنها تتسع لتعدد الرؤى والتحليلات فى إطار توجهها العام، وبالتالى فإن المقالات تعبر أولا عن آراء أصحابها. ومن جهة أخرى تفتح المجلة صفحاتها، ككل مجلة ديمقراطية، لنقد توجهها والحوار معها.
وأخيرا فإن "البوصلة" مجلة مستقلة تصدرها هيئة تحريرها، وتعتمد فى تمويلها على مشاركة أعضائها وتبرعات أصدقائها، وأولا وأخيرا على إقبال القراء، الذين تعتبرهم معيار صدقية وجدية طرحها، وأصحاب الحق الأول فى ترشيد المجلة وتوجيهها.


البوصلة
يونيو 2005









2 comments:

Dananeer said...

دى اون لاين بس و لابتتباع
ده اولا ثانيا انا تايهه بقالى كام يوم بين يسار و ماركسيه و كلام كبير
ابتدى ازاى قرايه عشان افهم
مصدر موثوق منه يعنى؟؟

عمرو عزت said...

المجلة تصدر مطبوعة أيضا
سأراسلك بخصوص القراءات و المراجع